الثقافة والدولة الريْعيّة

الثقافة والدولة الريْعيّة





علي حسين عبيد




مفهوم الدولة الريعية يعني حصر مصدر الاقتصاد بالطبيعة، بمعنى أوضح أن المصدر الرئيس لموارد الدولة الريعية يتأتى مما يتواجد في بطن الأرض من ثروات معدنية ونفطية، تقوم الدولة باستثمارها، ولا يشترك المنتج الإنساني البحت في بلورة وبناء اقتصادها، أي أن الجهد الإنساني البحت يتضاءل كثيرا في بناء الاقتصاد بالدولة الريعية، ويبقى الاعتماد قائما على نحو شبه كلي بما يتم استخراجه من باطن الأرض، كما هو الحال مع الدول الخليجية والعراق راهنا.
هذا الترابط بين أحادية المورد واقتصاد الدولة، يعطي انطباعا وواقعا هشّا لها، وتنعكس هذه الهشاشة على كل ما يتصل بالدولة في القطاعات الأخرى، والسبب أن البناء المتنوع للدولة بكل أبعاده لم يكن منتجاً ذا طابع بشري صرف، ومن بين ما تنعكس عليه هشاشة الدولة الريعية، الحيّز الثقافي بشقّيه (الثقافة/ المثقف)، إذ تسعى حكومات الدول الريعية في الغالب إلى سلب استقلالية المؤسسات والمنظمات الثقافية، وتدجين المثقف وجعله أداة بيدها، تحركه وفقَما ترغب وتريد، وبما يحمي العرش السلطوي من خلال محاباة فكر السلطة.
لذا لا بد لمن يهمه الأمر (مثقفون/ مصلحون/ مفكرون/ وغيرهم)، أن يعرفوا ويتحسسوا هذا الخطر، حيث تستدرجهم السلطة إلى جانبها، من خلال تقديم العطايا والمنافع بأشكال وصور شتى، الهدف منها أولا وأخيرا شراء الضمير الثقافي، حتى يغض الطرف عن الانتهاكات الكبيرة والصغيرة، التي ترتكبها السلطة بحق الإنسان، وهي تجاوزات خطيرة في الغالب، تهدف إلى حماية العرش السلطوي في نهاية المطاف وإدامة عمر السلطة أكثر.
ولا ينحصر أسلوب تدجين الثقافة وشراء المثقفين على الدول الريعية، بل كل الدول التي تحكمها أنظمة عسكرية أو وراثية أو فردية، إذ أنها تضع خططا مدروسة لتحييد الثقافة والمثقف، ثم تقوم بمسخ الثقافة وتحجيم دورها وتحصره في تعضيد الفعل والقرار والفكر السلطوي فقط، ولكن تبقى هشاشة الفعل الثقافي في الدول الريعية أكثر من سواه، لأن الدولة برمتها (ابتداءً من الاقتصاد) تقوم على منتج الطبيعة وليس منتج الإنسان الفكري والعملي.
ولعل التأكيد على أهمية استقلال الثقافة والمثقف في الدول الريعية، يكتسب أهمية كبرى، لأن المثقف المستقل، يمكن أن يرتفع بالدولة ويحيلها من دولة ريعية الى دولة يصنعها الجهد الإنساني وليس موارد الطبيعة فقط، لكن هذا القول لا يعني أننا ضد سياسة استثمار الموارد والثروات الطبيعية، بل من مميزات الدولة الناجحة أن تستثمر طاقاتها الطبيعية بأقصى ما يمكن، ولكن كل الخطر يكمن في بقاء الاقتصاد مرتكزا على مصدر طبيعي أوحد، الأمر الذي يجعل الدولة كلها رهن هذا المصدر الطبيعي القابل للنضوب، فيما تبقى الثقافة أيضا مهددة من لدن السلطة التي تضغط باتجاه تجيير الثقافة والمثقف لصالحها.
لذا ثمة هدف بالغ الأهمية ينبغي أن يدركه المثقفون والقائمون على الثقافة، هو فصل الثقافة وتوابعها عن السلطة حتى لو كانت في دولة ذات منحى ريعي، كما هو الحال في العراق، حيث تعد دولة العراق ريعية، بسبب اعتمادها على النفط في تعضيد اقتصادها، ويكاد النفط أن يشكل موردا أوحد لبناء الاقتصاد العراقي، الأمر الذي ينعكس على النظام السياسي، والسلطة التي ستحاول أن تسحب الثقافة والمثقفين إلى جانبها.
يستدعي هذا الواقع المؤكد، بناء ثقافة مستقلة في بلد ريعي كالعراق، ثم توظيف الثقافة لبناء منظومة سلوك إنساني يتحفز كليا نحو تفعيل المنتج الإنساني المادي والفكري، بمعنى على الإنسان العراقي أن يفكر وينتج، عليه أن يعمل بعقله ويده، وعلى الدولة برمتها، أن تتحول من دولة ريعية إلى دولة ينتجها ويبنيها الجهد الإنساني العضلي العقلي في آن واحد.
هناك فرص حقيقية لتحقيق ثقافة مؤثرة، ومثقفين مستقلين في دولة العراق، شرط أن يعي السياسي بإيمان تام، أن محاولة تدجين الثقافة والمثقف في ظل العراق الريعي الراهن، لا تخدم أحدا حتى الطبقة السياسية نفسها.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top