عبد المجيد لطفي.. عفيفة والمسلسل وأصداء الزمن

عبد المجيد لطفي.. عفيفة والمسلسل وأصداء الزمن

اثار مسلسل(فاتنة بغداد ) الذي عرض العام الماضي ردود افعال مختلفة ، تعلق البعض منها  بقيمته الفنية ، وأخرى في أمانته التاريخية ..
الناقد ناطق خلوحي تناول جانباً من حياة عفيفة اسكندر فيتعلق بعلاقتها مع الاديب الرائد عبد المجيد لطفي .
اجتهدت إحدى الصحفيات وعنونت المتابعة الصحفية التي كتبتها عن القاص الرائد عبد المجيد لطفي بـ "عبد المجيد لطفي: عشق عفيفة اسكندر فألف رواية عنها"، وأضافت في عنوان فرعي انه "باع بيته ليحقق حلمه" ، فوقعت في ثلاثة أخطاء (غير مقصودة) في آن واحد، ذلك ان عبد المجيد لطفي لم يعشق عفيفة اسكندر ولم يؤلف رواية عنها ولم يبع بيته ليحقق حلمه لأنه لم يكن يملك، أصلا ، بيتاً خاصاً به آنذاك.
اسم عبد المجيد لطفي الكامل، لمن لا يعرفه، هو "عبد المجيد عمر عبد الرحمن". وكان يكتب بتوقيع عبد المجيد عمر في بداية حياته الأدبية . وقد وجدت بين أوراقه كتابات قليلة تحمل توقيع "خلوصي"، لكنه ما لبث أن اختار لقب "لطفي" ربما في محاولة منه لأن تكون له شخصيته المستقلة بعيداً عن لقب العائلة.
 إن ما كان بين عبد المجيد لطفي وعفيفة اسكندر (وقد رحلت قبل أيام)، بدأ بإعجاب من طرف واحد: طرفه هو على وجه التحديد . كان في مطلع شبابه موظفا ً بسيطا ً في ليلان ، وهي احدى نواحي كركوك ، وكان يقضي وقت فراغه الطويل بالقراءة التي كان شغوفا ً بها ، وينتهز أيام العطل للنزول الى بغداد لينفـّس عما تراكم في صدره من كآبة أورثه إياها عيشه في تلك المدينة الصغيرة ، فيذهب الى أحد الملاهي حيث شاهدها هناك . وحين انتقل إلى بغداد واصل إعجابه واهتمامه بها لكن ذلك الاهتمام وذلك الإعجاب لم يفض به الى  أن يعشقها إذ ظل محافظا ً على توازنه وبما يليق بوضعه ككاتب بدأ يشق طريقه نحو الشهرة . وما لبث أن تعرف عليها شخصيا ، ولم يكن أول لقاء له بها مشجعا ً .  يقول عن ذلك اللقاء  في الكتاب الذي أصدره عنها " قطع أحد أصدقائي الطريق عليها وقال : ــ أنا هنا يا عفيفة  .. وأقبلت عجلانة وصافحت جميع من كان في المقصورة حتى جاء دوري فقال صديقي ذاك : ــ هذا هو عبد المجيد الرجل الذي تغنى بك على البعد .. فأمسكت يدي المرتعشة التي كانت تضطرب بجميع مشاعري وقالت وهي ترسم ابتسامة غضة جميلة على شفتيها : ــ أأنت عبد المجيد : انك لأشبه بحداد عتيق ! وأرسلتها ضحكة ناعمة . " ( ص 13 ) .  لكن ذلك اللقاء ما لبث أن قادهما في آخر المطاف الى علاقة احترام متبادل بين فنانة تطمح في مزيد من الشهرة والانتشار وكاتب له حضور واسع في الصحافة وصار يواظب على حضور صالونها مع من كان يحضره من رجال السياسة والأدب والصحافة . وقد امتدت تلك العلاقة طويلا ً حتى فرقت بينهما الشيخوخة . وأذكر انها كانت تتفقده وتزوره في المستشفى عندما تنتابه نوبة النزف الدموي مجهولة السبب التي كان يعاني منها كل شتاء .
 ما كتبه عبد المجيد لطفي عن عفيفة اسكندر لم يكن رواية على الاطلاق . انه محض كتيب بحجم الكف صدر عام 1953 ويقع  في اثنتين وخمسين صفحة من القطع الصغير يحمل اسمها عنوانا ً له  وقد كتب على غلافه الأول عبارة " خواطر أدبية " وكتب أيضا ً مقولة برناردشو " انهم يقولون  .... ماذا يقولون  ؟  دعهم يقولون " وهي المقولة التي اعتمدتها عفيفة اسكندر مطلعا ً لأغنيتها  " يكـولون ، شيكـولون ؟ خلهم يكَولون " . ومن يقرأ كتاب  "عفيفة " لا يجد فيه ما يشي بالغزل أو العشق . انه  يتوفر على خواطر أدبية محكومة بحس انساني دون أن يخفي القاص الرائد اعجابه بها وهو اعجاب مشروع ، وحين أصدره كان يقف على عتبة الخمسين آنذاك وهو في ذروة نضجه العمري والفكري .  
 وقد يذهب الظن بأحد الى ان عبد المجيد لطفي باع بيتا ً من أجل تحقيق حلمه باصدار كتابه عن عفيفة ، وهو ما لم يحدث . لم يطرق الترف بابه ولم يكن  يملك بيتا ً خاصا ً به  وظل لعشرين سنة يعيش في بغداد في بيوت صغيرة مستأجرة يحرص على أن يختارها في محلة العيواضية  لتكون قريبة من موقع عمله الوظيفي في وزارة المالية في القشلة حيث يذهب اليها ويعود منها مشيا ً ، قبل أن يحصل على دار من تلك التي ابتنتها الدولة في حي المأمون وباعتها للموظفين بالتقسيط . والكتاب المعني  والذي حقق به حلمه هو " أصداء الزمن " أول كتاب أصدره وكان ذلك في عام 1938 أي قبل اصداره كتاب "عفيفة " بخمس عشرة سنة . ولإصدار ذلك الكتاب حكاية . كانت الرغبة في اصدار باكورة أعماله الأدبية قد استبدت به ولم يكن يملك ما يكفي لسد نفقات طبع كتاب على نفقته الخاصة فقد كان راتبه لا يزيد على خمسة دنانير شهريا ً.  كانت أسرته تملك آنذاك دارا ً موروثة في خانقين  يشاركه فيها أخوان اثنان وأخت ،  فقرر أن يبيع حصته في تلك الدار وأقنع أمي ، وهي أخته ، بأن تبيع حصتها هي الأخرى فوافقت على مضض ، واستطاع أن يوفر ما مكـّنه من إصدار الكتاب المذكور فحقق الحلم الذي كان يراوده منذ مطلع حياته الأدبية .
 وأشير هنا إلى أن طبعة ثانية من هذا الكتاب صدرت عن دار الشؤون الثقافية العامة عام 2006 . كان القاص الكبير محي الدين زنكنة يعمل رئيسا ً لتحرير سلسلة " علَـَمٌ وأثر " التي بدأت بالصدور عن الدار بعد عام 2003 ،  فتم اختيار الكتاب المذكور لإصداره ضمن إصدارات السلسلة المذكورة ، وكلفني زنكنة  ، وكنت أعمل في دار الشؤون آنذاك ،  بالإشراف على إعداد الكتاب للطبع ومتابعته في كل مراحله . واجهتني أول الأمر صعوبة الحصول على نسخة من الكتاب . فأي كتاب يصبح نادراً بعد ما يقرب من سبعين سنة من صدوره . لم تكن هناك نسخة منه لدى أسرة القاص الرائد أو القريبين منه ، لكن الحظ أسعفني عندما وجدت نسخة لدى شيخ المترجمين كاظم سعد الدين فاستعرتها منه . وجدت ان الكتاب بلا هوية محددة فهو يجمع بين القصة والخاطرة والقصيدة ، وكان ذلك الكتاب فاتحة التنويع الإبداعي الذي رافقه طوال مسيرته الأدبية . فقد كتب القصة والرواية والمسرحية والشعر بأنواعه والمقالة والعمود الصحفي ومارس الترجمة من الكردية والتركية الى العربية .
 كنت  اقترحت على زنكنة أن نستعيض عن الكتاب بكتاب آخر من كتب القاص يعبّر عن المستوى الحقيقي لإبداعه  كأن يكون كتابه "الإمام علي رجل الإسلام المخلد" أو مجموعته القصصية الأولى "في الطريق" التي صدرت بعد ثورة تموز 1958 ، لكن زنكنة رفض ذلك وأصر على اختيار "أصداء الزمن" لسببين أولهما انه أول كتاب صدر للقاص وثانيهما انه يقدم نموذجاً للأدب العراقي في ثلاثينيات القرن العشرين، فاقتنعت بوجهة نظره لاسيما إنني كنت قد قرأت عدداً من الآراء النقدية عن القاص وكتابه هذا للدكتور عبد الإله أحمد وباسم عبد الحميد حمودي ومؤيد الطلال وعبد الجبار عباس وياسين النصير وعباس عبد جاسم وحميد المطبعي والدكتور عبد القادر حسن أمين والدكتور محسن الموسوي والدكتور عمر الطالب (وأغلبها ايجابي ربما باستثناء رأي الدكتور عبد الإله أحمد) فضممتها الى المقدمة التي استعار السيد جمال نوري قسماً من المعلومات الواردة فيها ووظفها في مقاله الذي يحمل عنوان "عبد المجيد لطفي وريادة القصة القصيرة جداً في العراق" دون الإشارة الى المصدر الذي استقاها منه.
 لقد جلب انتباهي ان الكتاب يضم سبع قصص تنطبق عليها مواصفات القصة القصيرة جدا ً وقد جاءت بعنوان " تحت دواليب الحياة " ، هذا نموذج منها :
( أسدلت الستار وأوقدت الضوء وتأففت ان الحياة باردة . ولكن المصطلى         
  كان مليئاً بالنار والغرفة مفروشة بفاخر السجاد والراديو ينقل أجمل الأنغام ولكنها كانت جائعة إلى شيء يدفئ عروقها الفوارة ونظرت الى الشارع مرة أخرى وكانت السيارة تسير راكضة دون انقطاع .. وقفزت من الفرح وقالت : ايه هو ذا قادم .. واجتاز الشاب عساليج الكروم الذابلة وأشجار التين القزمات والبركة المهجورة  من أول الشتاء وسمعت خطواته على السلـّم ..
والآن لقد شاع في جسمها الدفء وقالت : ما أجمل هذه الحياة ..
وسكت الراديو ليتكلم القلب بأنغامه الجديدة) .
وقبل أن أشرع بكتابة المقدمة رجعت الى بعض مخطوطاته  فوجدت في إحداها تسع قصص قصيرة جداً لا يزيد حجم الواحدة منها على صفحة فولسكاب واحدة بخط يده وقد كتبها جميعاً في يوم واحد إذ وجدتها مؤرخة بتاريخ 2 تشرين الأول عام 1944 .
ولا شك في  أن ما نُشر في "أصداء الزمن ليس وليد سنة إصداره فقد بدأ عبد المجيد لطفي النشر في أواخر عشرينيات القرن الماضي وكان هو في العشرينات من عمره آنذاك. ولنلاحظ ان هذه القصة النموذج كتبت قبل خمس وسبعين سنة ، ويكون من المجحف التعامل معها وفق المعايير النقدية للألفية الثالثة. إن ثمة أكثر من دليل على ريادة عبد المجيد لطفي لكتابة القصة القصيرة جداً في العراق على الرغم من أن هناك من يحاول أن يغيب هذه الحقيقة ، فالريادة لا تتمثل في كتابة قصة واحدة فقط من هذا النوع!

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top