عمودأحاديث شفوية عدد(2617)

احمد المهنا 2012/10/09 08:00:00 م

عمودأحاديث شفوية عدد(2617)

الشرطة ونادلات المقاهي

الشرطة أيضا تعمل في اطار الدستور. هذا ما قرأته على لسان متحدث باسمها في سياق نفي اتهامات لها بالتضييق على نادلات في مقاه بغدادية حديثة، من أجل حملهن على ترك هذا النوع من العمل "المتعارض مع التقاليد".
والأجهزة التنفيذية كلها تدعي العمل في اطار الدستور، والتشريعية تفعل، كذلك القضائية. أما الكتل السياسية فهي مثال يمكن تسويقه الى العالم على الالتزام بالدستور. وفي الواقع فإن مثل هذا الالتزام هو ما يصنع "رجل الدولة". فرجل الدولة ليس كائنا خلاقا أو مبدعا، وانما هو رجل أمين في العمل والتعامل على أساس القانون، والقانون وحده. هذا هو امتيازه العظيم. ومن دونه لا يوجد شيء اسمه "دولة القانون". دولة القانون توجد حيث توجد الأيدي الأمينة على القانون.
وهذا الصنف من الرجال والنساء نادر في العراق، أمس واليوم، ندرة العمران في الصحارى. وكل عدم الاستقرار في تاريخنا الحديث والمعاصر مرده الى هذه الندرة. واذا لم تخني الذاكرة فان علي الوردي في "لمحاته" لم يجد أمثلة كثيرة عليه، وكان ابرزها عبد المحسن السعدون. ويبدو أن السعدون، رحمه الله، وجد نفسه كمن يحيي الدين في مالطا، فآثر الانسحاب، ليس من الدولة والسياسة وحسب، وانما من الدنيا كلها.
ولذلك فاننا نصدق شهادات نادلات المقاهي، الواردة في تقارير صحافية، ولا نصدق شهادة الشرطة عن نفي التضييق وتأكيد "الالتزام بالدستور". والشرطة بذلك ترتكب عددا من التجاوزات المؤلمة على القانون، وعلى المجتمع، وعلى نساء وفتيات بعينهن، وعلى صورة بغداد التي يريدون لها أن تكون ذكورية مطلقة.
القصة ماساوية في جانبها الشخصي، المتعلق بالنادلات، لأن فيها تهديدا لهن بقطع ارزاقهن، وتجريحا لكرامتهن. فهذا معنى نظرة الشرطة الى عملهن بوصفه "غير لائق"، والتضييق عليهن لتركه. وهل هناك مأساة أكبر من التهديد بالرزق وجرح الكرامة؟ ولعل لسان حال هؤلاء النسوة يقول "رضيت بالبين والبين ما رضا بي". فهن يعرفن ان عيون التخلف تخص أنواعا من اعمال المرأة بالتقدير دون غيرها. وهن يعرفن انهن يقاومن هذه النظرة مضطرات اكثر منهن مؤمنات. ثم يجدن، علاوة على هذا الألم، الشرطة فوق رؤوسهن.
ان كل عمل من الأعمال، التي يتخذ "التخلف" منها موقفا سلبيا، ينطوي على موقف تقدمي. وهذه هي قيمة هذا النوع من الأعمال. فهي رسالة متعددة الدلالات، فيها محاولة تثبيت التقدير لكل عمل، للعمل بالمطلق، وليس لبعضه دون البعض الآخر، وفيها خروج المرأة من العزلة الى فضاء المجتمع، وفيها أنسنة لهذا الفضاء الذي يزداد توحشا كلما اختفت المرأة عنه واحتكره الرجال. ولهذه الأنسنة بدورها وجوه ومضامين عديدة، احدها رفع مستوى الآداب والأخلاق. فالشاب والرجل بوجود المرأة لابد ان يكون أكثر تهذبا ولياقة مما هو عليه من دونها.
والمدن انسانية ومستقرة ومتقدمة اكثر كلما ظهر وجهها الأنثوي أكثر. وتنعكس الآية كلما احتكرت الذكورة صورة المدينة. وكلنا يعرف، ومعظمنا يحرف، البلاوي المرعبة التي يندى لها الجبين في المدن الذكورية المغلقة. وهذا على مستوى الأخلاق. الأثر السلبي ليس أقل على مستوى العمل أو الانتاج. والقاعدة ببساطة هي ان الدولة كلما تطفلت على الأعمال والأخلاق ساءت الاعمال والأخلاق. وهذا التطفل سمة جوهرية في الأنظمة الشمولية، ومنها نظام صدام الذي اصبح مضرب المثل على جودة الأعمال ورفعة الأخلاق. ولذلك تحاول شرطة "الديمقراطية الفتية" تقليده.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top