صبرا وشاتيلا هولوكوست أخرى

صبرا وشاتيلا هولوكوست أخرى


صبرا وشاتيلا مجزرة القرن العشرين والتي نسيتها الفصائل الفلسطينية في خضم صراعها على السلطة، تجد صدى لها عند المخرج ( آري فولمان) الذي يوثقها بحرفية عالية، وهو الجندي السابق في الجيش الإسرائيلي والشاهد على مجزرة القرن إبّان الاجتياح الصهيوني للبنان عام (1982).
بذكاء يقدم (فولمان) فيلمه على شكل رسوم متحركة، برؤية وثائقية بانياً أحداثه على وقائع حقيقية، معيدا صياغة الحدث مثلما جرى، داعما موضوعه بمقابلات فعلية أجراها على مدى سنوات مع رفقاء سلاح كانوا معه وضباطا بمراتب كبيرة كانوا أصحاب نفوذ وكلمة في تلك الفترة، مختتما فيلمه بصور وثائقية حقيقية من أرشيف المجزرة ولمدة دقيقة كاملة كانت ضرورية جدا لتدعيم سير الفيلم ورؤيته، إشارة من فولمان على أن نفكر بعمق بواقع المجزرة وبأننا لا نشاهد فيلما عاديا او فيلم رسوم متحركة ممتع فما حدث قد حدث فعلا وأننا أجزاء مجزرة حقيقية راح ضحيتها آلاف الأبرياء.
الصورة التي يقدمها الآخر هذه المرة جاءت متوافقة ومنصفة بعض الشيء في إظهار مدى تعاطف البشر مع بعضهم البعض بعيدا عن التعصب والشعارات المجانية التي تدعو إلى الموت والخراب، محاولا قدر الإمكان إيصال الحقيقة او جزء منها على الأقل عما تركته المذبحة من أثر نفسي مدمر في من عايشها وشارك فيها سواء كانوا جنودا إسرائيليين أو من نجا من رصاص الموت.
وبما أن السينما هي أيضا تاريخ مروي صوريا إلا أن ضباب الحقيقة ما زال يحجب رؤية الواقع الفعلي للذي حدث، فما زلنا نجهل حتى اللحظة مدى تورط الجيش الإسرائيلي في مجزرة المخيمات، والذي نعرفه أن هنالك مليشيات لبنانية، او مليشيات موالية لإسرائيل اقتحمت مخيمي صبرا وشاتيلا في أيلول (1982) وبتغطية من الجيش الإسرائيلي حيث طوقوا المنطقة وأضاءوا لهم سماء المخيم ليلا ليقترفوا جريمتهم وعلى مدى (3) أيام متتالية بلياليها وسط تعتيم أعلامي مقصود عقب اغتيال الرئيس اللبناني بشير الجميل فبدت وكأن المذبحة ردا انتقاميا، بالتأكيد هنالك الكثير من المغالطات التاريخية – في رؤية المخرج للحدث - إلا انه فيلم يستحق الوقوف عنده والإشادة به كون لم يسبق للسينما الإسرائيلية أن قدمت فيلما فيه هذه الكمية من الشهادات والاعترافات عما حدث من جريمة ارتكبت بحق الآخر، وهو باب فتحه (فولمان) على مصراعيه ليتوج بأفلام أخرى مهمة تدون الحقيقة أو بعض منها للتاريخ "كما سيحدث لاحقا في فيلم مهم آخر هو (لبنان)". مثلما ظن الجنود الأمريكان أن حرب فيتنام نزهة فإذا بها جحيم مستعر كان فولمان ورفاقه يظنون أيضا أنهم في نزهة فوجدوا أنفسهم في ورطة كبيرة داخل حرب مستنزفة تركت داخل أرواحهم آثارا سيبقون يعانون منها حتى وقت طويل فكان لا بد من الاعتراف لتطهير آثام الروح.
ومنذ أن أصبحت السينما كرسيا للاعتراف بالخطايا على شاكلة كرسي الكنيسة دون فولمان خطاياه حتى يرفع عن كاهله ما حدث وما شاهده في تلك الأيام الثلاث، وكي يتخلص من ذلك الكابوس المزعج الذي يرى فيه مئات من الكلاب تجتاح مدينة تل أبيب لتصل عند باب العمارة التي يسكن فيها بطل الفيلم وهو ينظر إليها من الأعلى من خلف زجاج غرفته – كما في مشهد البداية الرائع - أرواح الكلاب التي كان يقتنصها كي يسكت نباحها لحظة اجتياحهم القرى والمدن هذا الكابوس الذي يقلق منامه، فالكلاب تطالب بالقصاص لأرواحها فكيف بالبشر صورة الله على الأرض.
حاول فولمان بشكل أو بآخر أن يقدم صورة أخرى لإسرائيل فرغم أنه ألقى اللوم في عملية المذبحة على المليشيات اللبنانية وأنها – أي إسرائيل - لم تقدم سوى الدعم ولم تشارك فعليا في المجزرة، مثل هذا الاعتراف يدركه المخرج جيدا أنه لا يبرئ ذمة الآخر من المشاركة بالذنب واقترافه ما دامت النية موجودة ومسكوت عنها، وإخفاء الحقيقة واضح وجلي، لذا عمل فولمان وبذكاء أيضا على أن يعرض فيلمه متزامنا مع الذكرى الـ(60) لقيام دولة إسرائيل، في رسالة واضحة وصريحة أن الدولة قامت بفعلها أو بمساعدة منها على ترسيخ وجودها من خلال تشريد شعب وذبحه واستيطان آخر بديله، فتجلت أفضل لحظات فولمان في رسالة الفيلم برده على بني جنسه بأنهم إن نجوا من مذبحة الهولوكوست فان فظاعة ما اقترفوه في صبرا وشاتيلا هي مذبحة أيضا لا تقل أهمية عما حدث لهم على يد الألمان.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top