الاقتصاد العراقي: البداهة العامة علاجا لـ (تايتانيك) العراقية

Saturday 22nd of January 2022 11:14:41 PM ,
العدد : 5110
الصفحة : آراء وأفكار ,

 فلاح حكمت *

كلّما تناهى إلى مسامعي خبرٌ أو حدثٌ يختصُّ بالاقتصاد العراقي حضر أمامي على الفور ذلك المشهد المأساوي من فلم (تايتانك) عندما يطلب قائد السفينة إلى كبير مصمّمي السفينة العملاقة بيان حقيقة ماسيؤول إليه الحال بعد اصطدام السفينة بالكتلة الجليدية الضخمة، فيجيب كبير المصممين:

“ ستغرق لامحالة “، وعندما يستزيد القائد من المعرفة ويطلب إلى كبير المصمّمين فعل شيء ينقذ السفينة العملاقة (سفينة الأحلام) فيردُّ عليه: هذه كلها مناورات لن تفعل شيئاً سوى إطالة الزمن الذي ستغرق بعده السفينة. ذلك يقين رياضياتي It is a Mathematical Certainty « “.

يبدو الاقتصاد العراقي شبيهاً بتايتانك الغارقة. لازال الناسُ يتحدّثون عن ثروة أسطورية يختزنها باطن العراق كفيلة ببناء عدّة دول جديدة واصطناعها من العدم، ويتناسون أنّ دولة أوربية صغيرة (مثل الدنمارك) يتجاوز دخلها القومي السنوي ثلاثة أضعاف دخل العراق في فورة المداخيل النفطية التي أتخمت خزينة العراق مع بدايات 2010 ثمّ ذهبت - كالعادة - بدداً، وهاهي اليوم شركات التقنية الكبرى وقد صارت قيمتها السوقية تجعل من ثروة العراق شيئاً تافهاً عصياً على المقارنة. لابدّ للناس من معرفة حقائق الأمور حتى يعرفوا كيف يتصرفون لاحقاً من غير هيجانات عاطفية. لايعني هذا أنّ العراق دولة فقيرة. هو دولة جيدة الموارد ؛ لكنما لاتجد هذه الموارد انعكاساً في واقع الحال لأسباب كثيرة جرى تفصيلها في أدبيات عديدة.

لكن قبل كلّ شيء، هل الاقتصاد علم؟ هذا واحد من الأسئلة التي أرّقتني طويلاً. ليس الاقتصاد وحده هو المخصوص بهذا السؤال. ثمة حقول معرفية أخرى يمكن أن نخضعها للتساؤل ذاته. إنتهيتُ في خاتمة المطاف لقناعة مفادُها أنّ الاقتصاد سياسات منقادة بما ينبغي لصانعيها تحقيقه على أرض الواقع. لايمكن أن يكون الاقتصاد فيزياء أو رياضيات. إنه سياسات تمثلُ جوهر مايبتغي صانعوها تحقيقه في واقع حياة الأفراد. ليس الاقتصاد مثالاً متفرّداً في هذا الشأن؛ إذ أنّ كلّ مباحث مايسمّى الانسانيات Humanities تخضع لسؤال جوهري: هل هي علمٌ بالمقاييس التي نعرف عن العلوم ؟ تلك أطروحة فلسفية خالصة لها مداراتها وفضاءاتها الخاصة.

ليس هذا السؤال التأصيلي هو غايتي في هذه المداخلة. لنتّفقْ أنّ الاقتصاد مجموعة سياسات عملية تسعى للارتقاء بنمط حياة الفرد والمجموعة البشرية (الأمة) تبعاً لمعايير متفق عليها لجودة الحياة.

هل يمكن الحديث بعد هذا عن اقتصاد عراقي مميز الملامح ؟ قد يبدو هذا التساؤل أقرب لصحوة فكرية تأخرت كثيراً. كلا، ليس الأمر هكذا. أكتب هذ المقالة مدفوعة بموجبات استشراف وقائع المستقبل الكارثي للاقتصاد العراقي، وأحسبُ أنّ كلّ ذي جذوة حية تأبى الانطفاء في الروح النزيهة يشاركني أمر القلق لحال العراق. لابدّ من يقظة جمعية تجاهدُ لمعاندة الموت الذي بات يحيطنا من كلّ الجهات.

دعونا نتفق أولاً أنّ بيئتنا العراقية مطبوعة على التكاسل العقلي والروحي والعملي. منذ عام 2003 تحوّلت خريطة العيش العراقية إلى جحافل من الموظّفين المليونيين (المُسَرنمين) الذين يتقاضون رواتب مليارية من غير صناعة إقتصاد حقيقي. نعرفُ أنّ هذه الحقيقة المرئية على واقع الأرض هي نتاج علاقة (زبائنية محاسيبية تخادمية) بين أحزاب تعمل على زيادة رقعتها التأثيرية بواسطة الريع النفطي. الغريبُ أنّ الناس إستمرأت هذه الحالة بكلّ مترتباتها الثقيلة على واقع الاستثمار المطلوب في البلد، وبكلّ ماتنطوي عليه من انعدام أبسط متطلبات العدالة المجتمعية. صار العراقي يعيشُ يومه بيومه وليومه ولسانُ حاله يردّد: يانفسي كلي واشربي ودعي الغد يهتم لأمره. مالي والغد ؟ للأسف يتناسى هؤلاء أنّ هذا الحال محفوف بالمخاطر وليس قانوناً مؤبداً. نحنُ في واقع الحال طفيليات تعتاشُ على الريع النفطي من غير مساهمة حقيقية في صناعة العلم والتقنية وهما الميدانان الحقيقيان لخلق الثروة في عالمنا المعاصر. نحنُ نتغالبُ على الريع النفطي بأشكال عدّة: ظلت الأحزاب تتغالبُ على الإمساك بدفّة السلطة ومايتبع هذا من القبض على موارد الريع النفطي وتوزيعه بما يخدم التوجهات الآيديولوجية لتلك الأحزاب، ثمّ صارت الوظائف توزّعُ لاعتبارات حزبية بعيدة عن معايير الكفاءة. إنها لعبة صفرية قانونها العام (إحصل على كل شيء وإلا فستخسر كل شيء). يبدو الإنسان العراقي كمن يهتمّ بتضبيط مذاق وجبته اليومية من غير أن يهتمّ بأي شيء آخر. ربما تكون حقب الحروب والحصار مسوّغاً سايكولوجياً لانهماكه في اصطياد الملذات؛ لكنّ هذا لن يكون حامياً له من مآلات مستقبله المظلم هو وأطفاله وبلده.

لاأريد الاسهاب كثيراً في الحيثيات الصغيرة. دعونا نعاين أولاً الخريطة العامة للاقتصاد العراقي حتى نجعلها نقطة شروع للموضوعة الاساسية. لابأس من تبيان خصائص الاقتصاد العراقي التي صارت معالم تأريخية له:

- المسألة الاساسية في الاقتصاد العراقي لاتكمن في أسبقية وأهمية كونه إقتصاداً موجهاً أم حراً. تلك تساؤلات فكرية وإجرائية فائضة عن حاجة اقتصاد بدائي كالاقتصاد العراقي تبدو فيه الحكومة أقرب إلى شيخ عشيرة يوزّع الأرزاق على أبناء عشيرته طبقاً لمزايا مخصوصة فيهم ليس منها الاستحقاق والعدالة والكفاءة.

- الاقتصاد العراقي في مجمله إقتصاد موجّه مشوّه بيروقراطياً، مبنيّ على العسكرة في الحقبة البعثية، وبعد الاحتلال الأمريكي تحوّل إلى اقتصاد بلا هوية يعاني تشوّهات هيكلية خطيرة لاتنفكّ تتضخم باضطراد، جوهرها الترضيات (الزبائنية بموجب التوصيفات الدقيقة) التي تفتقر للعدالة لشرائح معينة فضلاً عن ماراثون من الفساد غير المسبوق.

- يبقى الجوهر الاساسي في الاقتصاد العراقي هو هويته الريعية.

- الاقتصاد الريعي يتقاطع مع جوهر النظام الديمقراطي الذي يمثل اللافتة العريضة المدّعاة لمنظومة حكم مابعد 2003 ؛ لأنّ المعادلة الريعية هي: من يمسكْ بزمام الريع يمسك برقبة الحكم برمّته، وهذا مايتقاطع بصورة جوهرية مع نظم الاقتصاد الليبرالي القائم على التمويل الضريبي.

- النموذج الاساسي الذي يحتكمُ إليه الاقتصاد العراقي بعد مرحلة الاحتلال الامريكي 2003 هو نموذج اللعبة الصفرية Zero – Sum Game الصارخة والكاملة بعد أن كانت جزئية قبل 2003: من يملك كلّ موارد الريع يرى في نفسه سيداً يتحكم بأرزاق البشر، وهنا تداخلت الهيمنة السياسية مع القبضة الاقتصادية؛ فصار الريع يخدم الرؤى السياسية القاصرة التي تقزّمت وانتهت إلى لاهوت اختزالي قبيح. تخلّت الدولة عن كلّ مظاهر برامج الرعاية الاجتماعية التي عرفنا جوانب منها في حقب سابقة (برامج الاسكان واسع النطاق، القروض الخاصة بالقطاع الخاص، التعليم المجاني والتطبيب المجاني...)، وصارت المعادلة هي التالية: أنا – الحكومة – أمنح رواتب لموظّفي الدولة (الذين تضخمت أعدادهم المليونية بسبب رغبة طيف سياسي في الاجهاز على الوظائف العامة وتجييرها لخدمته بما يوازي فعل رشوة على نطاق عام)، وبعد ذلك ليس لي شأن بما يحصل في النطاق العام. الحالة أقرب إلى لعبة فوضوية لاأحد يهتم بنتائجها.

- الاقتصاد العراقي بركة آسنة من الهدر والفساد وسوء الإدارة وافتقاد الخطط.

* * * * *

لسنا إقتصاداً ينفع معه بعضُ إجراءات السياسات الاقتصادية الكينزية التي شاعت عقب الحرب العالمية الثانية. ليس جون ماينارد كينز هو بطل المرحلة العراقية الراهنة. كذلك لن تنفع وصفات مدرسة شيكاغو النقدية أو حزمة السياسات الريغانية أو التاتشرية التي دشّنت مرحلة السياسات النيوليبرالية المتغولة واقتصاد المشتقات المالية. هذه سياسات تضرنا ولانفع فيها. نحنُ نموذج طارئ متمرّد عصي على كلّ الوصفات العلاجية الاقتصادية. لماذا ؟ لأنّ معضلتنا ليست إقتصادية خالصة بقدر ماهي معضلة سياسية – اقتصادية – سوسيولوجية مركّبة متعدّدة الوجوه.

يبدو لي، وكحالة انتقالية، أنّ النماذج الاقتصادية العالمية لن تنجح في الاقتصاد العراقي. ماينجح مع الاقتصاد العراقي هو نوعٌ من رؤية قائمة على البداهة العامة Commonsense. وهاكم هذه الرؤية البديهية:

نحن اقتصاد ريعي قائم على موارد تحت أرضية (النفط والغاز،،، إلخ)، ولسنا في موضع أن نكون منافسين في سلع تصديرية محدّدة سوى النفط والغاز. حتى الزراعة الكثيفة واسعة النطاق التي كانت ميزة حصرية للعراق في منطقة الشرق الاوسط تراجعت حتى انتهينا لمستوردين لغذائنا.

تقودنا البداهة العامة في هذه الحالة إلى جملة من التدابير العملية التالية من غير إيغال في أية نظرية إقتصادية أو حزمة إجراءات نقدية:

- ضرورة أن نكبح الضغوط التضخمية، وأن تركّز الدولة (التي نفترض فيها أن تكون دولة رعاية اجتماعية) على تقديم الخدمات بدلاً من تعظيم الرواتب المليونية التي ستكون وقوداً لصراعات مجتمعية لاحدود مرئية لنهاياتها، تلك هي أدنى مراتب العدالة الاجتماعية.

- الحديث عن الاقتصاد الحر ورافعته الجوهرية (السوق الحرة) في هذه المرحلة العراقية هو تكريس لمغالبة مافيوية إعتادت السرقة. لن تنفعنا (اليد الخفية) أو (اليد المرئية) في تعديل ماإعوجّ من السياسات. لابدّ من سياسة حكومية تدخّلية وإلا فستكون سياسة السوق الحرة ملعبة محتكرين للمنافع التي يجود بها عليهم الريع النفطي عبر الاختلاس والسرقة المكشوفة وتبييض الاموال في هيئة مطاعم ومولات حتى بات الجميع يصف بغداد بأنها صارت مستوطنة مطاعم ومولات.

- يجب التراجع عدة خطوات إلى الوراء قبل الشروع بسياسة إقتصادية جديدة قائمة على نموذج محدّد، وفي الغالب لابدّ من صناعة هذا النموذج بدلاً من استيراده على طريقة (مقاولة تسليم المفتاح).هذا يؤكّد أهمية الابتعاد عن النماذج المطروقة في المرحلة التي تسمى بالإنتقالية.

- الانتباه للتجارب الريادية غير المسبوقة (تجربة يوغسلافيا السابقة أو تجربة مصر في تعشيق الجيش مع الحياة المدنية وتحويله إلى مقاول يستفيد من أموال المشاريع الحكومية وتتعزز خبرته في تنفيذ مشاريع استراتيجية).

- لاإجراء يمكن اتخاذه قبل معالجة الفساد

- ضرورة الدخل الأساسي Basic Income لكلّ فرد وعلى الاقلّ لفترة انتقالية قبل الشروع في رسم معالم خريطة اقتصادية جديدة. كيف يمكن القبول بأن يستفيد الموظفون دون غيرهم من أموال الريع النفطي ؟ وماذا عن الملايين الهادرة من الخريجين الجدد كلّ عام ؟ بل وحتى غير الحاصلين على تعليم أكاديمي أو مهارات مناسبة ؛ أليسوا عراقيين ؟ ألا يحقّ لهم نصيب معلوم من طيبات الحياة ؟ ألايستحقُّ الجميع تقاعداً معقولاً بعد عمر محدّد سواء عملوا موظفين أم لم يعملوا ؟

- قد يطيب للبعض مقارنتنا باليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وقد تواترت هذه النغمة عقب 2003. كم واهمون هؤلاء ! كانت اليابان وريثة سلالة ميجي التي أنشأت امبراطورية صناعية عسكرتارية، ثمّ عملت نتائج الحرب العالمية الثانية على تهذيبها لتكون امبراطورية تقنية هائلة؛ أما ألمانيا فماذا أقول عنها ؟ ألمانيا التي تبقى علامة لكلّ قدرة تصنيعية متفوقة. دعونا لانخادع أنفسنا. نحن بعيدون عن هؤلاء، ولو حققنا شيئاً بسيطاً من عدالة مجتمعية فحسبُنا ذلك.

هذه المعالم من البداهة العامة قد تنفعُ في دفع عجلة الاقتصاد العراقي سنواتٍ – وربما عقداً وبعض عقد في أحسن الأحوال – قبل أن يواجه المحنة الحقيقية التي لامناص من مواجهتها. لابدّ من خلق الثروة بدل الاعتياش على الريع النفطي كما تفعل الطحالب والبكتريا الطفيلية، وهذا ليس من باب العصامية الأخلاقية بقدر ماسيكون انصياعاً واجباً للحقائق المستجدة في عالم الغد الذي سيشهد مصادر طاقة غير أحفورية؛ أما من يتصوّرُ أنّ الخالق قد خصّه بمصدر طاقة لن تنفد الحاجة لها وسيظلّ العالم رهيناً لها فهو واهمٌ ومخادع لنفسه، وليس بعيداً ذلك اليوم الذي سيشهدُ فيه تقافز أرباب المافيا العراقية كما الفئران من سفينة العراق المثقوبة بعد أن يتيقنوا من غرقها الوشيك ونفاد مايسرقونه منها، وحينها سيكون هؤلاء الموهومون كمثل راكبي (تايتانك) التي سيظلّون يحسبونها سفينة عملاقة لامثيل لها وهم لايدرون أنّ غرقهم يقين رياضياتي محتوم.

*كاتب ومهندس عراقي