الشاعر البحريني قاسم حداد: أكتب النص كي أكون قوياً في مواجهة الواقع

Monday 22nd of May 2023 10:25:14 PM ,
العدد : 5434
الصفحة : عام ,

الاجتهاد الادبي أحد أشكال الحريات الضرورية للمبدع في شتى حقول التعبير

حاوره/ علاء المفرجي

وُلد الشاعر البحريني قاسم حداد في مدينة المحرّق عام 1948، تلقّى تعليمه الابتدائي في مدارسها، لم يكمل دراسته الثانوية لظروف اجتماعية وسياسية،

عمل في مهن يدوية مختلفة. تلقى تعليمه حتى السنة الثانية ثانوي بمدارس البحرين، في عام 1968، التحق للعمل في المكتبة العامة حتى عام 1975، تعرض للاعتقال السياسي بين عام 1973 وعام 1980 لمدة خمس سنوات. بعد ذلك التحق بالعمل في إدارة الثقافة والفنون بوزارة الإعلام عام 1980. حداد صاحب مقال وقت للكتابة والذي ينشر في عدد من الصحافة العربية أسبوعياً منذ بداية الثمانينات، كما ترجمت أشعاره إلى عدد من اللغات الأجنبية. في نهاية عام 1997، حصل على إجازة التفرغ للعمل الأدبي من طرف وزارة الإعلام.

أطلق الشاعر في شبكة الإنترنت موقع (جهة الشعر)، عام 1996، وهو موقع خاص بالشعر العربي الحديث، في العربية ومترجم في سبع لغات. وتوقف هذا الموقع في مارس 2018 بسبب عدم توفر الدعم الكافي للمشروع.

حصل قاسم حداد على جائزة المنتدى الثقافي اللبناني في باريس عام 2000، وجائزة سلطان العويس الثقافية عن حقل الشعر لدورة 2000 - 2001. وفي عام 2017 حصل على جائزتين هما أبو القاسم الشابي للإبداع الأدبي التي عادت للساحة الثقافية في تونس بعد توقفها منذ 2011، وجائزة محمد الثبيتي الشعرية في دورتها الثالثة في المملكة العربية السعودية. وفي عام 2020 حصل على جائزة ملتقى القاهرة الدولي الخامس للشعر العربي. كما حصل حداد على أربع منح للإقامات الأدبية في ألمانيا ما بين عامي 2008 و 2015:

الهيئة الألمانية للتبادل الثقافي في برلين بين عامي 2008 و2011، أنجز خلالها كتاب طرفة بن الوردة، ثم حصل على زمالة "جان جاك روسو" بمنحة من "أكاديمية العزلة" في شتوتغارت عام 2012، بعدها حصل على منحة للإقامة الادبية في "بيت الشاعر الألماني هاينريش بول" في دورن - كولونيا عام 2013، وفي عام 2014 حصل على منحة وإقامة أدبية من "نادي القلم الألماني" في ميونخ.

في سيرته الذاتية يقول قاسم حداد:

أضع المرآة على الطاولة. أحملق، وأتساءل: من يكون هذا الشخص؟ أكاد لا أعرفه. أستعين بالمزيد من المرايا. وإذا بالشخص ذاته يتعدد أمامي ويتكاثر مثل الصدى كاتدرائية الجبال، فأتخيل أنني قادر على وصفه: إنه قاسم حداد.. تقريبا

منذ أن بدأت علاقته بالكتابة وأنا في جحيم لا هوادة فيه. أعرف أن عالم الأدب يستدعي قدرا من الإطمئنان والسكينة، أو على الأقل الثقة بالنفس. لكن هذا شخص لا يهدأ في مكان ولا يستوعبه شكل الحياة، مثل مجنون أعمى يبحث في غرفة مظلمة عن شمس ليست موجودة. لا يطمئن لجهة ولا يستقر في إقليم وليس له ثقة في ما يكتب. يسمي ما ينجزه من كتابة: التمرين الأخير على موت في حياة لا تحتمل. فهو في كل يوم وأمام أية تجربة جديدة يبدو كأنه يكتب للمرة الأولى والأخيرة في آن واحد. جسد يرتعش مثل طفل مذعور مقبل على الوحش. كثيرا ما تركته وحده في الغرفة مريضا يوشك على الموت، وعندما أعود إليه في اليوم التالي، يضع أمامي النص ويجلس مثل شحاذ ينتظر ردة فعلي. ينتحب كأنه الميت يرثي نفسه. وما إن أقول له الكلمة، حتى يستعيد صحته ويقفز مثل العفريت، مستعدا للحياة كأنه يولد توا.

بالرغم من مظهره الذي يوحي بالرزانة إلا أنه عابث من الدرجة الأولى. يرى في أشياء العالم طاقة محبوسة يتوجب إطلاقها من أسرها، لا يترك شيئا على هيئته، ففي النص يتوجب أن تكون النقائض على آخرها. يشتغل على الكتابة كمن يبني جسده وروحه بالكلمات. يضع أمامه خرائط الطريق على الطاولة، وعندما يبدأ الكتابة ينسى ذلك كله ويصوغ شيئا لا يتصz الأمل في العالم، فيبالغ في تشبثه باليأس كمن يتحصن ضد أوهام لا يراها أحد معه. لا تعرف ما إذا كان يفجر بالكتابة أم تصلي به

تعبت معه وتعبت منه. كلما تقدم في العمر تفاقمت فيه شهوة النقائض وراح يتصرف مثل الفتى الأرعن. لم يعد جسده قادرا على عبء الروح التي تتفلت مثل نار تفيض على الموقد. كثير الإدعاء بالمغامرات في حين أنني لم أصادف جبانا مثله. يزعم التوغل في ليل المعنى وهو لا يخاف شيئآ مثل رعبه من الأماكن المظلمة. يدعي بأنه منذور لموج التجربة وهو الذي لم يحسن العوم أبدا. مسكون بفقد غامض للأشياء التي يحب

ماذا أفعل له. هذا شخص مشحون بالتناقضات. أشتهر بالتطرف في كل أشكال حياته، فيما هو عرضة للتلف أمام هبة الريح العابرة. يتظاهر بالصلابة وهو الكائن الهش لفرط حساسيته اليومية. لماذا يتوجب على دومآ أن أكون قرينا لشخص على هذه الدرجة من الغموض. قلبه طفل يراهق، ويتكلم مثل حكيم. يموت قليلا، أحسبه مريضا فأحمله لنطاسي الجسد والروح، فيهز الجميع رؤوسهم أن لا فائدة، حالته مستعصية ويتوجب منحه رصاصة الرحمة مثل أي حصان مكسور القوائم. وفي الطريق إلى البيت يشب وينفلت مني هاربا إلى السهوب ولا أكاد أسمع عنه شيئآ. وفي اليوم التالي ينهرني لكي أقرأ كتابه الجديد. وحين أقول له عن الغموض، يبتسم بحذر ويقول: لو فهموا المعنى لأهدروا دمي.

بدأنا معه من محاولاته الأولى في الشعر، من المصادر والمراجع في النشأة الأولى التي أسهمت في ميوله للشعر، البيئة، أشخاص واحداث، وتفاصيل حياتية أخرى؟ أجاب:

- في حديث سابق، أشرت الى أن جيلي دخل الى الادب من باب السياسة. كنا نرى الى الأدب بوصفه منبراً للمشروع السياسي الذي ننهمك في النضال في سبيله. قبل ذلك، اعتقد ان بيئة حسينية النساء في بيت العائلة كان لها تأثير في نشأتي الأولى. وخصوصاً عشقي للإيقاع وموسيقى الكلام. حيث الحزن التاريخي يصقل مخيلة الطفل الذي كنته.

*الستينيات كانت الفاصلة النوعية في الشعر العربي في كل مكان من بلاد العرب، وخاصة في لبنان والعراق، مدى تأثير الجيل الستيني عليك، والى أي مدى انغمرت في لجته؟

- منذ بداياتي المبكرة، كنت أتصرف باتصالي الثقافي والفكري بالأفق العربي والعالمي. كان ذلك أكثر رحابة من قوقعة المحلية التي لم تكن تغريني. ساعدني في ذلك اتصالنا السياسي بالقضايا الانسانية في العالم. وعلاقتي بالتجربة الادبية وتحولات الحداثة الادبية في العراق والشام، كانت علاقة فعالة وحيوية، كنا الجزء الحي من النهر العربي الكبير بدر شاكر السياب ونازك الملائكة في العراق، ومع صلاح عبدالصبور واحمد حجازي وامل دنقل في مصر، ومع نزار وادونيس وشوقي بغدادي في سوريا ومع خليل حاوي والشعر والنقد في لبنان، والترجمات الاولى للأدب والثقافة العربية. ذلك كان قضاء علاقتنا بالأدب في العالم.

 ظروف اجتماعية وسياسية جعلتك تخوض تجربة مريرة: الحرمان من الدراسة، والاعتقال السياسي، ما الذي خرجت هذه التجربة، وما الأثر الذي تركته على قصائدك؟

- تعلمتُ من تلك التجربة الكثير من الدروس الفكرية. اعتقد ان احساسي بالقيد الايديولوجي للكتابة الادبية هو اهمال لدروس التي نهضت بها تجربتي وجيلي قبل نهاية سبعينيات القرن الماضي. وصرت اتفادى الترويج (لئلا أقول المتاجرة) لتجربة الاعتقال والسجن في كتابتي، كما لاحظت لدى العديد من ابناء جيلي. وشعرت أن تلك التجربة، إذا لم تفد كتابتي فلا اهمية لها.

 قلت مرة: "لا أحد يزعم (على رغم كل وسائل التكريس الإعلامي) أن ثمة تجربة قادرة على تثبيت اللحظة الشعرية فيا لعالم. للجميع حرية الاجتهاد ما دام شرط الإبداع والمعرفة متوفراً. ولست مع وهم أن تجربة أو اجتهاداً ينفي الاجتهاد أو التجربة الأخرى. في الحياة متسع للجميع." هل انت إذن ضد ثوابت الشعر؟

- ما زلت اظن بأن الاجتهاد الادبي أحد أشكال الحريات الضرورية للمبدع في شتى حقول التعبير. والعالم من الشساعة بحيث يسع الجميع، باجتهاداتهم المختلفة. وإذا كنا ننادي بالديمقراطية في الحقل السياسي والاجتماعي، يتوجب ان نتميز بالديمقراطية في الحقل الادبي والفكري. فكل أشكال التعبير ممكن، إذا نحن فكرنا بحريات الكائن البشري في حياته. فاللحظة الشعرية يحققها الشاعر بحريته التعبيرية.

 انت لا ترى في النص ما يطابق الواقع، فهو عند ذاك يتحول الى نص لا يسهم في صقل القيم الجمالية والمعرفية العميقة لدى القارئ.. إذن أي متعة يرى قاسم حداد في النص اذن؟

- اكتب النص لكي اكون قوياً في مواجهة الواقع، وإذا صادف أن أحب أحد ما اكتب (وهذا يحدث قليلاً) فسوف يمنح النص فرصة التحول الى طاقة أكبر من الاحلام.

 تنفرد في كونك خضت أكثر من تجربة في الكتابة، ربما منذ صدور مجموعتك الأولى عام 1970 (البشارة)، درجة لا تمنح النقد الاستقرار على تجربة واحدة.. هل قلق الشاعر، أم الرغبة في الاكتشاف والتجديد، هو ما يدفعك لارتياد تجارب عدة؟

- حرية المخيلة تفتح الآفاق اللانهائية امام الكتابة. الرغبة في الاكتشاف تدفع الى التجريب بالحرية ذاتها. وأعتقد أن هذا من طبيعة الانسان عندما يستطعم لذة الجديد.

*يذهب النقاد الى ان سيرتك الشعرية مرت بمراحل اربع. هل انت مع ما يقترحه النقاد لتجربتك، ام أن لك رأيا اخر فيهذه التجربة؟

- ما يقترحه النقاد قراءة مقترحة يستوجب العناية بها. اعتبر النقاد قراء يعملون بحرية تضاهي (أعني لابد أن تضاهي) حرية الشاعر. اعمل على تجاوز المراحل الأربع التي يقترحون.

 قلت مرة أن "اللغة بالنسبة للشاعر أكثر من مجرد (أداة) إنها طريقة حياة كاملة وواضحة المعالم ولا تقبل المقارنة بأية وسيلة أخرى في الحياة." انت من اكثر الشعراء احتفاء باللغة. ما تعليقك؟

- الشعر برمته هي طريقة حياة، واللغة عمود تقوم عليه لغة الشاعر وحياته. واللغة في الكتابة تصير عشيقة كلما احببتها بإخلاص، أحبتك وأعطتك ما تحلم به وتسعى.

 حصلت على أربع منح للإقامات الأدبية في ألمانيا ما بين عامي 2008 و2015، ما الذي اضافته اليك هذه المنح، غير ما تقدمه للمتفرغ في القراءة والكتابة؟

- سوف اعتبر دائماً منح الاقامة تلك فرصاً حضارية لكتابة ما أحب بحرية واستقرار وامان لا أجده في بلاد العرب، فقد اكتشفت هناك أننا لسنا متخلفين فحسب، بل نحن نتخلف يومياً عن حضارة العالم. وهذه مأساة متواصلة.

 في (طرفة بن الوردة) يستدعي قاسم حداد سيرة للشاعر (طرفة ابن العبد) الذي أندغم معه ليصبح في كتابه "طرفة بن الوردة" هل هي سيرة بلد؟ والى أي مدى تتطابق السيرتان..؟ هل لك ان تحدثنا عن تجربتك في (طرفة بن الوردة).

- هذا اقتراح أحبه. تجربة طرفة بن العبد ساعدني على اكتشاف الثقافة والفكر، وهما تراثنا المعاصرَين، من خلال إعادة قراءة التراث القديم. عندما تعرفت على طرفة بن العبد، لأول مرة كنت اعتقد ان البحرين هي الجغرافيا المعاصرة، وسرعان ما اكتشفت ان البحرين هي "بحرين التاريخ القديم الذي يمتد من عُمان الى البصرة". بعد ذلك صار طرفة قرين حياتي وتجربتي فيت جارب شعرية ونصوص مختلفة، ولولا منح الاقامات تلك لما تسنى لي تقديم هذه التحية التي حلمت بها: (طرفة بن الوردة). وهي، فعلاً، سيرتي الذاتية في الحياة والشعر. "فطرفة" ليس شاعراً فحسب.

 أطلقت على الإنترنت موقع (جهة الشعر)، عام 1996، وهو موقع خاص بالشعر العربي الحديث. وهي تجربة من التجارب العربية الأولى في هذا الميدان، وتوقف هذا الموقع في مارس 2018، ما الذي كنت تريده من (جهة الشعر)، أو لنقل ما الذي حققه، وهل توقفه بعد اكثر من عشرين عاما لنفاد الجدوى منه؟

- كنت اكتشف في النشر بشبكة الانترنت، وضع الشعر في مكانه ومكانته. حيث الجمال والحرية، هذان الشرطان من شروط الشعرية في المطلق. وأعتقد ان الحرية وتسارع البرمجيات التي تحدث يومياً، تجعل أوهام السلطات في الرقابة مهزلة تليق بالسلطات كلها. فقد نال الشعر والكتابة الحرية لدفعة واحدة والى الابد.

 علاقتك بشبكة الانترنت قلت إنها "تنطوي على شرطين يهمني توفرهما في ما يمكن أن أعمل عليه: الحرية والجمال. ويعرف الذين يتصلون بالأنترنت ما أعني بهذين الشرطين"... هل لك أن توضح لنا أكثر؟

- لقد اوضحت الجميل، وفعل ذلك مرة اخرى يوقعني في ندامة لا أحبها.

 (وجوه) هي تجربة بداعية مشتركة مع اصدقاء من فنون تعبيرية أخرى، مثل: نص "الجواشن" مع الروائي البحريني أمين صالح، و"أخبار مجنون ليلى" مع الرسام العراقي ضياء العزاوي، ثم مع الموسيقي اللبناني مارسيل خليفة، وتجربة وجوه مع الفنان التشكيلي البحريني إبراهيم بو سعد والموسيقي خالد الشيخ والشاعر أدونيس والمسرحي البحريني عبد الله يوسف. وتجربة المستحيل الأزرق مع الفوتوغرافي السعودي صالح العزاز. وحتى دخولك في مشروعين مشتركين هما طرفة بن الوردة و(أيها الفحم يا سيدي) مع ابنتك الفوتوغرافية طفول حداد وابنك الموسيقي محمد حداد.. هي تجربة غنية هل لك ان تحدثنا عن هذه التجربة التي تعد جزءا من مهما من مسيرتك الشعرية؟

- طفول ومحمد جناحان حلقت بهما في حوار عميق لا يتكرر كثيراً. فقد عوضاني ما كنت فشلتُ في ان أحسنه: الصورة والموسيقى. ولولا تجربة (الجواشن) القديمة التي حققتها مع الصديق "أمين صالح" لما كنت قد أنجزت التجارب المشتركة اللاحقة. حتى أن تجربتي مع طفول ومحمد توفر لها ما يمكن وصفه بالنعمة الكونية.

 اين المسرح من قاسم حداد، وانت من أوائل الذين دخلوا هذا العالم، وكنت أحد الأعضاء المؤسسين لفرقة مسرح أوال.. ماهي إسهاماتك في هذا المجال؟

- لقد خذلني المسرح في البلاد العربية، قبل أن يفعل ذلك المسرح في البحرين. والكتاب الذي حققته عام ١٩٧٥ شهادة على ما كنت اعتقد أنني مولع بذلك الفن. الآن أستطيع القول أن فن المسرح، بما أنه فن جماعي ونقدي، فهو يحتاج لهامش اكبر من الحرية الاجتماعية المفقودة في البلاد العربية عامة، فهذا المجتمع لا يقبل النقد ولا يريده، برغم المزاعم التي يطرحها علينا النظام العربي عبر التصريحات ووسائل الاعلام، القبائل لا تريد الديمقراطية ولا تقبلها.

 اسألك وانت المخلص للشعر والمنصرف الى عالمه، هل هو في طريقة الى النزول من عرشه، لصالح الرواية.. التي تسيدت عربيا المشهد الادبي؟

- لستُ من القائلين بأننا في حلبة سباق. هذا العالم الرحب يسع كل أنواع فنون التعبير. علينا التميز بثقة الحرية في التعبير بشتى اشكاله.

 من هم أباء قاسم حداد شعريا؟

-ادونيس دائماً. لكن بدر شاكر السياب ونزار قباني وخليل حاوي وصلاح عبد الصبور وامل دنقل ومحمود درويش وبعض الشعراء الشباب منحوني دروساً في الكتابة المستمرة.