رواية (الحفيدة) لبرنارد شلينك تستعرض ماضي المانيا وحاضرها..شخصيات ممزقة لاتجد نفسها في أي مكان!

Tuesday 23rd of May 2023 11:27:47 PM ,
العدد : 5435
الصفحة : عام ,

ترجمة:عدوية الهلالي

يعد برنارد شلينك أحد أشهر المؤلفين الألمان المعاصرين في فرنسا منذ نشرروايته (القارئ) عام 1995.وتعد مواضيع التشابك الوثيق بين المصير الفردي والتاريخ الألماني، والعلاقة القوية والصعبة أحيانًا بين كائنين ينتميان إلى أجيال مختلفة،

هي الموضوعات المتكررة في عمل شلينك والتي توجد أيضًا في روايته الجديدة (الحفيدة) الصادرة مؤخرا عن دار غاليمار الفرنسية للنشر، والتي يتزامن معها نشر مجموعته القصصية الجديدة (ألوان الوداع)عن دار فوليو للنشر.

تبدأ الرواية بالموت الصادم لرفيقة البطل عندما يكتشف كاسبار ويتنر، في إحدى الأمسيات العادية، أن زوجته، بيرجيت، غرقت في حوض الاستحمام، فلايكون رد الفعل هو الخوف أو الحزن الذي يتوقعه المرء بل الإنكار وعدم التصديق، وبدلًا من الدموع التي ستأتي لاحقًا،يرتفع طوفان من الذكريات الممزوجة بالندم أمام جسد المرأة التي، على الرغم من الحب وسنوات الارتباط الطويلة، تبدو له فجأة متجسدة في صورة هوية أجنبية.

كان كاسبار قد قضى شبابه في الجزء الشيوعي من ألمانيا حيث هرب منه في عام 1965. لكنه،وعندما يقوم بفحص جهاز الكمبيوتر الخاص بزوجته، يكتشف إن لها حياة أخرى لا مكان له فيها، طفل أنجبته وتخلت عنه في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، ومشروع متقدم للغاية لرواية غير مكتملة عن سيرتها الذاتية. فهل قررت بيرجيت إنهاء حياتها بسبب عدم قدرتها على العثور على طفلها أو إكمال عملها؟ بعد ان يعلم بما أخفته زوجته عنه، يعتبر كاسبار نفسه مضطرا للقيام بالمهمة التي تراجعت عنها وهي العثور على الطفل المهجور، وحفظ الكتاب غير المكتمل من النسيان. ويأخذ كاسبار الأمر على محمل الجد لإصلاح خطأ جهله بمعاناة زوجته التي ربما قادتها إلى الموت.

وترتبط حياة بيرجيت وكاسبارارتباطًا وثيقًا بتاريخ الدولتين الالمانيتين الشقيقتين والجمهوريتين اللتان اصبحتاعلى عداء منذ الحرب العالمية الثانية، ثم تحولتا الى المانيا"الموحدة" في عام 1990. كانت بيرجيت تعيش في جمهورية ألمانيا الديمقراطية وهو في الغرب عندما التقيا خلال اجتماع لشباب أوروبا،إذ تم تنظيم الشباب في برلين الشرقية عام 1964: ولكن وبعد نصف قرن، وعندما توفيت زوجته، لايشك بائع الكتب كاسبار ويتنر في صعوبة ما ينتظره عندما يبدأ تحقيقه في جمهورية ألمانيا الديمقراطية السابقة، حيث يجد الأب الحقيقي للطفل الذي يبحث عنه من دون الكثير من المتاعب، ويكتشف انها طفلة تدعى سفينيا والتي كانت مثل والدتها الحقيقية التي لم تعرفها من قبل، رائدة شيوعية مثالية في طفولتها قبل ان تقع ضحية للمخدرات،والتسكع،وتقضي سنوات المراهقة في تورجاو، الذي تم انشاؤه ليضم "اللاجئين الاجتماعيين" في مركز تعافي حقيقي للغاية يغذي ذاكرتهم الشريرة وقد تم إغلاقه فقط في عام1989: وهو شهادة أخرى على شكل الحياة على الجانب الآخر من جدار برلين. ولكن، عندما تقود آثار سفينيا بطل الرواية كاسبار إلى مجتمع النازيين الجدد، يمتد مجال التحقيق في الرواية تدريجياً إلى ألمانيا المعاصرة التي يطاردها كل ماضيها، إلى جانب عدم التأكد حقًا من اكتمال إعادة توحيد الأراضي والعقول.

بالتدريج، ستغير الحفيدة التي لم يكن يعرف بوجودها حياته وينتهي بها الأمر الى أن تطلق عليه لقب "الجد".ومفتونًا بهذه الحفيدة التي سقطت من السماء، سيفعل كل شيء لاخذها بعيدًا عن بيئتها وتصحيح مسار حياتها، لأنه نجح في جعلها تزوره في برلين خلال الإجازات، وسيروي لها في المساء قصصًا أخرى غير قصة الرايخ. سيقرأ لها الحرب والسلام، ويسمح لها تدريجياً باكتشاف الكتب الأخرى التي يضعها في متناول يدها.سيقودها الى المناظر الطبيعية المشرقة، وسيأخذها قبل كل شيء إلى حفلة موسيقية، ويجعلها تكتشف الموسيقى التي ستتعلم بسرعة أن تحبها.

وهكذا يصور شلينك رحلة فتاة صغيرة ممزقة بين والديها اللذين تحبهما وجدها غير المتوقع الذي لا تزال لا تثق به. ومعها يكتشف كاسبار عالماً غارقاً في الأيديولوجية العنصرية والقومية الأكثر رجعية، ويجد نفسه يتساءل: "لماذا لا يمكن للناس على اليمين أن يكونوا متأملين وحالمين وحزينين مثلنا؟ وسيتذكر أن الحاكم النازي هانز فرانك كان أيضًا مثقفًا قادرًا على عزف شوبان على البيانو في قلعته في كراكوف لكنه سرعان ما يعود إلى الواقع ويترك العزف.

صحيح أن المؤلف يستعرض ألمانيا حيث يتورط ثلاثة أو أربعة من هذه الأجيال في تاريخ فريد، مما يجبرهم على تغيير حياتهم والتصالح مع ماضٍ صعب. ويجد الكثيرون صعوبة في تحمله، لكن البعض يفخر به ويشعر بالحنين إليه. وقد أثبتت رواية كريستا وولف، السماء المشتركة (1963)، أن الماضي النازي، حتى لو ظل ثقيلًا، فهو ليس الوحيد الذي يكسر صورة الذات الالمانية والمجتمع بل تقسيم ألمانيا إلى دولتين، واحدة اختفت فجأة في عام 1989، ثم صعود التطرف اليميني واليساري، وكل في وقته، ساهم في إعادة هذه المشاعر. وهكذا، فإن الاشخاص في نصوص برنارد شلينك، هم من الذين نشأوا في واقع مختلف تمامًا، والذين لم يعودوا قادرين على عيش صداقتهم أو حبهم ببساطة وبشكل طبيعي، وتعتبربيرجيت، زوجة كاسبار المولودة في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، تجسيد مثالي لهذه الشخصيات التي لا تجد نفسها في أي مكان. وللظروف السياسية والتاريخية علاقة كبيرة فضلا عن مسؤولية الافراد الشخصية.لا يزال هناك حزن وعجزتعبر عنه بيرجيت في روايتها غير المنشورة بقولها: "حياتي المفتقدة للحياة مثل تلك الحياة التي عشتها" وهي تعلم أنها ستفتح هاوية حيث ستفقد نفسها، بين الندم الذي لا طائل من ورائه، والشعور بالضياع، والرغبة الفخورة في تحمل كل أفعالها.

وتشترك العديد من الشخصيات التي تخيلها شلينك في هذه المرارة المشوبة بالوضوح، وهذا المزيج من اليأس والإرادة في الحياة الذي يعبر عنه المؤلف بدقة وبشكل مثير للإعجاب.إنه يتحدث عن مجتمع مسالم، راضٍ عن العيش بحرية في بلد ديمقراطي، لكنه يتتبع أشباح العصور القديمة التي لا تزال تتجول هنا وهناك، ويلقي الضوء على الصدمات التي عولجت بشكل سيئ حيث يمكن أن يكون لخطوة خاطئة أو خطأ أو ظلم يرتكبه الجبن أو اللامبالاة عواقب لا تمحى وقد تعود للظهوربعد سنوات.