المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

رؤيا شريعتي 2-5

 

عبد الجبار الرفاعي
أدرك شريعتي انه اجترح دربا لم يمهد من قبل لدى الدارسين في ديارنا، فالدراسات الاسلامية في الحواضر العلمية المعروفة، وكليات الدراسات الشرعية تستعين بالمناهج والأدوات الموروثة، ولاتتقن، وربما تخشى، التعاطي مع مناهج العلوم الاجتماعية الحديثة.
ولعل روح الاقتحام التي اتسمت بها شخصية شريعتي، هي ماحفزه على السير في ذلك الدرب، والمغامرة بالمضي فيه حتى النهاية، بالرغم من الهجاء البالغ القسوة الذي تعرض له، وشتى ألوان التهم، وفتاوى تفسيقه وضلاله، انه كان مدركا بما يحف بمغامراته من مخاطر، ومايكتنفها من مزالق، باعتباره يدشن نمطا جديدا في دراسة الدين والاجتماع الاسلامي، مستندا الى مفاهيم ومناهج مختلفة، فقد تحدث عن ذلك بصراحة: (أهم درس استطيع ان اعطيه لطلابي كمعلم، هو ان عليهم، لأجل معرفة عميقة بالدين، انتهاج سبل العلماء غير المتدينين، بل المناهضين للدين، او حتى من كان ينشد محاربة الدين، انا أسلك هذا السبيل، وأتحدث بنفس اللغة المنددة بالدين، والمتنكرة لدعائمه الغيبية، تحت عناوين: علم الاجتماع، والاقتصاد، وفلسفة التاريخ، وعلم الانسان، اني أتحدث بهذا المنهج الذي اعتبره أفضل المناهج لمعالجة المسائل العلمية والانسانية، انه المنهج ذاته الذي نهجته اوروبا منذ القرن الثامن عشر، لدراسة مشكلاتها الانسانية بجميع أبعادها، ومناوأة الدين في المجتمع، سوف أعالج الدين حتى من منظور طبقي اقتصادي، لكن بموضوعية، ومن دون تعصب وتحيز مااستطعت).
لقد حسم شريعتي خياره، وقرر استخدام المناهج الغربية في دراسة الدين والاجتماع الاسلامي، ولم يتوقف عند الجدل الواسع الذي لم يزل محتدما، حول مشروعية دراسة الدين والمجتمعات الاسلامية، بمناهج مستوردة من أديان ومجتمعات اخرى، فبدلا من اصطفافه بجنب أحد فرقاء الصراع، واستنزاف تفكيره في التدليل على مشروعية أولا مشروعية ذلك، بادر لحشد مختلف المناهج في دراساته، ولم يتردد في انتقاء واستخدام أي مصطلح او مفهوم، يحسبه مناسباً لحقل بحثه، وكأنه، بمقامرته هذه، أراد القول: ان السبيل الأمثل لاختبار المناهج وادواتها هو بتطبيقها مباشرة على ميادين معينة، وان اكتشاف ماتتمخض عنه عملية التطبيق من معطيات، هو معيار اختبارها، كما ان نتائج التطبيق ستقودنا الى استئناف النظر في بعض المناهج، وامكانية تمثلها في سياقات حضارية اخرى، فنستبعد منها او نختزل مالا يتسق مع بيئتنا، أو لايمكن توطينه ودمجه في محيطنا الثقافي.
وقد صرح شريعتي بأنه يعمل في دراساته على صياغة رؤية اجتماعية من منظور اسلامي، فمثلاً يلمح الى محاولته هذه باشارة دالة قائلاً: (باعتبار تخصصي العلمي هو في علم اجتماع الدين، وهذا التخصص منسجم مع عملي، فاني اسعى لتدوين نوعٍ من علم الاجتماع المرتكز على الاسلام والمصطلحات المستوحاة من القرآن والحديث).
الا انه في مناسبة اخرى يوضح ان دراساته لا تتناول المفاهيم المودعة في المصنفات التراثية، مثلما لا تهمه طبيعة هذه المفاهيم في وعاء الذهن، وانما تنصب جهوده على تمثلها في التاريخ، وانماط تجليها في الاجتماع البشري، فمثلاً يتحدث عن التوحيد الذي يتناوله في دراساته بقوله: (اعني بالتوحيد حضوره في التاريخ والمجتمع، لا مفهوم التوحيد في عالم الكتب، او عالم الحقيقة، فليس حديثي بشأن التوحيد الذي تحدث عنه القرآن، ومحمد (ص) وعلي (ع). مايهمني الان هو التوحيد في المجتمع والتاريخ، والأمر هكذا لدي دائماً).
ويحاول استخدام مختلف المنهجيات، والاستعانة بما يطلع عليه من أفكار في العلوم الانسانية الجديدة، ليوظفها في حقل دراساته، فلا يتردد في الاستعانة بالمعطيات الراهنة في حقل الميثولوجيا، والنماذج الرمزية، أو غيرها، يكتب في سياق استعارته تلك المعطيات : (انني شخصيا أهتم بدراسة الأساطير ولي علاقة دائمة بالأساطير والنماذج الاسطورية)، ويضيف: (منذ فترة وأنا أعمل في حقل الأساطير، لشغفي بالاسطورة أشد من التاريخ، وأحسب ان ماتشي به الأسطورة من حقائق أوفر من التاريخ، فالأسطورة حكاية وجدت في فكر الانسان، اما التاريخ فهو حقائق اوجدها الانسان، الاسطورة تحكي التاريخ كما ينبغي ان يكون).
ويمكننا ملاحظة التفسير الرمزي واستعمال الأساليب الحديثة في البحث الميثولوجي في مواضع عديدة في آثار شريعتي.
وتظل محاولة شريعتي، مع جرأتها وريادتها، عرضه لعدد من الاشكالات والأسئلة، باعتبارها توظف أدوات منهاجية متنوعة في دراسة الظواهر الدينية، من دون ان تتنبه الى ان الأبعاد الميتافيزيقية، التي تنفرد بها تلك الظواهر، ليس بوسعنا ادراكها، واستكناه مضمونها، بوسائل العلوم الاجتماعية الوضعية، مضافا الى ان طائفة من العناصر المنهجية والمفاهيم والمصطلحات التراثية المولدة في سياق نشأة وتطور الاجتماع الاسلامي، يمكن استخدامها، مباشرة، أو بعد تهذيبها، او تفكيكها، واعادة انتاجها.
الاسلام من ثقافة الى ايديولوجيا
عاش شريعتي في عصر طغى فيه صوت النضال، وتسابق المثقفون لتأييد ومساندة الانتفاضات والحركات الثورية، وفي بداية حياته اغواه بريق الشعارات، وشغف بفعل الاحتجاج والاعتراض، فتضامن مع استغاثات الكادحين، ولوعة المحرومين، وانين المعذبين، وتلاحم في شخصيته المثقف والداعية والباحث والمناضل، وذابت الحدود في وجدانه بين النموذجين، بل أمسى الوجه الحقيقي للمثقف في وعيه هو الداعية، وتحولت الثقافة الى ايديولوجيا، وتمحورت جهوده في (أدلجة الدين والمجتمع)، يقول شريعتي: (سألني أحد رفاق الدرب: ماهو برأيك اهم حدث وأسمى انجاز استطعنا تحقيقه خلال السنوات الماضية؟، فأجبته: بكلمة واحدة هي تحويل الاسلام من ثقافة الى ايديولوجيا).
ماالذي يقصده بالايديولوجيا؟ وهل يستطيع ان يحتفظ بموقفه المعرفي كباحث، في الوقت نفسه الذي يوسع دائرة الايديولوجيا، لتشمل الدين والثقافة والمجتمع؟!.
قبل الاشارة الى ذلك نقتبس نصا مطولا من آثاره، يضيء هذا المفهوم، ويحدد ملامحه في وعيه، يكتب: (الايديولوجيا عبارة عن عقيدة ومعرفة عقيدة، وهي بالمعنى الاصطلاحي، رؤية ووعي خاص يتوفر عليه الانسان فيما يتصل بنفسه، ومكانته الطبقية، ومنزلته الاجتماعية، وواقعه الوطني، وقدره العالمي والتاريخي، وفئته الاجتماعية التي ينتمي إليها، وهي المسوغة لهذه الأمور، والتي ترسم له مسؤولياته وحلوله وتوجهاته ومواقفه ومبادئه وأحكامه، وتدفعه بالتالي الى الايمان بأخلاق وسلوك ومنظومة قيم خاصة، فعلى أساس رؤيتك الكونية، وابتناء على نمط (علم الاجتماع) و (علم الانسان) و (فلسفة التاريخ) الذي تحمله، يمكن تحديد ما هي عقيدتك في الحياة، وفي علاقتك بنفسك وبالاخرين وبالعالم؟ كيف ينبغي العيش، وما الذي يجب فعله؟ أي مجتمع يتعين بناؤه، وكيف يتوجب تغيير نظام اجتماعي بشكل نموذجي، -وماهي مسؤولية كل فرد حيال المجموع؟ وماهي صراعاته، وأواصره، وأشواقه، ومثله العليا، وحاجاته، ومرتكزاته العقيدية، وقيمه الايجابية والسلبية، وسلوكه الاجتماعي، ومعايير الخير والشر لديه، وبالتالي ماهي طبيعة الانسان وهويته الاجتماعية؟ وعلى هذا فالايديولوجيا هي عقيدة تحدد الاتجاه الاجتماعي والوطني والطبقي للانسان، وتفسير نظامه القيمي والاجتماعي، وشكل الحياة، والوضع المثالي للفرد والمجتمع، والحياة الانسانية بكل أبعادها، وتجيب عن الاسئلة: (كيف تكون؟) و (ماذا تفعل؟) و (ماذا ينبغي فعله؟) و(كيف يجب ان نكون؟).
لكن ماهي حدود الايديولوجيا؟ وماهي علاقتها بالعلوم والمعرفة التقنية؟ يجيب شريعتي: (الايديولوجيا تهدي للانسان ماتمنحه له الامكانات التقنية تماما، ماالتقنية الا مجموعة الجهود الانسانية الرامية الى توظيف الطبيعة لتحطيم هيمنتها وجبرها، وفرض احتياجاتنا عليها، الايديولوجيا تقنية يستعين الانسان بها وبالمعرفة لتوظيف التاريخ والمجتمع حسب مايشاء).
ويتداخل مفهوما التقنية والايديولوجيا لديه، بنحو تصبح (التقنية عبارة عن فرض ارادة الانسان على قوانين الطبيعة، او هي استخدام العلم من قبل الارادة الانسانية الواعية، للوصول الى مبتغاه، العلم هو مسعى انساني لفهم الطبيعة واكتشاف مافيها، والتقنية هي سعيه لتطويع الطبيعة واستخدامها، واصطناع ماليس فيها، وفقا لهذا التعريف تكون الايديولوجيا بالمعنى الأخص للكلمة، تقـــنية بالمعنى الأعم للكلمة).


روايات أولى في سنوات متقاربة
 

محمد الحمراني
في السنوات الماضية، كثر الحديث عن ضرورة ظهور رواية عراقية، تؤسس لاشتغالات جديدة، تنطلق من النقد والتأمل والتحليل ورفض السير خلف الأطروحات الأيدلوجية، وكنا نقرأ بين حين وآخر في حوارات مع نقاد او كتاب في الخارج او في الداخل ترقبهم لظهور روائيين جدد يدونون عوالمنا المتشابكة بالحساسية نفسها التي خرج بها كتاب اميركا اللاتينية الى العالم.. بأعتبار الوضع التاريخي للعراق خلال السنوات الماضية، لايختلف كثيراً عما حصل في بلدان هذه القارة ان لم يكن اسوأ منها ولكن أفق حرية الكتابة المعدوم ضيق الخناق على كتابنا وحاول ان يسحبهم الى جهة مناقضة لعالم الخلق وجمالياته، فحين يبدأ الروائي الشاب بحثه في تأريخ الرواية العراقية يجد ان رواد هذا الفن ونتيجة لبحثهم عن الأفق الرحب، عاشوا في المناقي ومنهم من قتلته الغربة كالروائي غائب طعمة فرمان ومنهم من ابتعد قسريا وأمضى حياته في المنافي كالروائي فؤاد التكرلي.
لم تدرك الرواية العراقية الحرية خلال أكثر من خمسة وثلاثين عاما مضت وولد ضيق أفق الكتابة هجرة عدد كبير من الأدباء الى الخارج وبدأت تتفاعل في الشارع الثقافي حوارات جادة حول الرواية وضرورة وجودها كتعويض عن الجمال والتاريخ والدراسات الانسانية، من اجل اظهار عوالم مختلفة يرصد العديد منها وحشية محيطنا، لتنبثق ظاهرة هي الأولى من نوعها في المشهد الروائي العراقي متمثلة بظهور أسماء من خارج المشغل السردي تسعى بجد لكتابه روايات مختلفة، فمنهم من قدم من حقل النقد والبعض الاخر قدموا حقول: (الشعر، السينما، البحث) ورغم التشتت بين العديد من الكتاب كنا نسمع عن ظهور أسماء روائية جديدة بدأت من القمة، وهذا ماحصل مع الروائي سليم مطر الفائز بجائزة الناقد عن روايته (امرأة القارورة) والذي لم يسبق له ان نشر عملا روائيا داخل العراق، وهذا ماحصل أيضاً مع الروائية بتول الخضيري التي ترجمت روايتها (كم بدت السماء بعيدة) الى أكثر من ثلاث لغات وحققت شهرة واسعة لكاتبتها، ومن الروايات التي عبرت عن صوت روائي مميز رواية (رقصة الطائر المذبوح) لحسن قاسم الفائزة بجائزة الشارقة للرواية، وبعد ذلك فازت الرواية الأولى لمحسن الرملي المعنونة (الفتيت المبعثر) بجائزة جامعة أركنسا الأمريكية بأعتبارها أفضل عمل أجنبي مترجم الى اللغة الأنكليزية وبعد ذلك فازت رواية (بابا سارتر) لعلي بدر بجازة ابو القاسم الشابي للرواية العربية وفي أمتداد ظهور هذه الروايات ظهرت اعمال روائية أولى ايضاً منها رواية (اعجام) للروائي سنان انطوان وكذلك رواية (الطائر والجمجمة) لناظم محمد العبيدي ورواية (البلد الجميل) لأحمد سعداوي وكذلك رواية (الفريسة) للؤي حمزة عباس ورواية (النقطة الابعد) لدنى طالب ورواية (نصف القمر) لنوزت شهدين و(الهروب الى اليابسة) لكاتب هذه السطور وكذلك قرأت اعمالاً روائية مخطوطة منها (حياة ثانية) لقاسم محمد عباس و(يحدث في البلاد السعيدة) لضياء الخالدي.. ان ظهور روايات اولى لكتاب جدد يكشف عن وجود حساسية جديدة في الكتابة السردية في العراق، فالمشهد الروائي العراقي.. لسنوات طويلة ظل تابعا للأفكار السياسية ومروجا لها ولم يكن بالامكان نقدها او السخرية منها وهذا ماجعل العديد من الروايات المذكورة تفلت من ظلال الثقافة الرسمية بكل ماتحمل من تشنج وخوف واملال ولكنها تتصالح في الكشف عن مجتمعات صغيرة في النسيج العراقي وتدخل الى مناطق الهامش وتسخر مما يحيطها، فرواية علي بدر تتهكم من كيفية تلقي الثقافة الغربية في مجتمعاتنا وعن الرواية الجديدة يقول علي بدر: (الرواية من جهة ادائها الثقافي وتمثيلها لم تعد (حدوتة) كما هي عليه في السابق... كما انها لم تعد توثيقاً فجاً وتقليدياً للوقائع والاحداث ولم تعد منشغلة بشكل نرجسي كما كانت بنفسها فالوظائف التخيلية والتمثيلية والايحائية أصبحت أداة بحث، اداة استكشاف للعالم وللتاريخ وللثقافة وبالتالي أخذت تقترب من العلوم الانسانية باستعارة أدواتها، فالرواية اليوم.. هي في خضم التوتر الثقافي العام.. اصبحت هي الثقافة بأجمعها).. في رواية بتول الخضيري نجد الأزدواجية، التي تعيشها طفلة من ابٍ عراقي وام أجنبية.. لتكون الطفلة العين الراصدة لهذا الزواج وكاشفة عن عمق الأختلاف بين الهويات، اما احمد سعداوي فيتحدث في روايته عن مجتمع مدينة الثورة في بغداد... مجتمع صغير داخل مجتمع كبير وتأثير الرواسب الريفية عليه، لنصطدم بعالم هجين من خلال عدد كبير من الحكايات.
اما سنان أنطون فهو يرسم لنا ملامح المجتمع المسيحي ومؤثرات الحروب عليه في فترة الثمانينيات، فيما نجد في رواية محسن الرملي أحاديث الهامشيين عن الحرب وكوارثها عليهم ضمن أطار قرية في محافظة الموصل، فنقرأ في مكان ما من الرواية مايلي: (اتسمت مقبرة قريتنا بفضل جثث ابنائها الملفوفة باعلام الوطن واعلام اخرى ترفرف فوق شواهد القبور.. بحيث استحالت مقبرتنا القديمة الى غابة من الرايات تنوح تحتها الأمهات كل خميس وراح التلفزيون يعيد عليهم تمثيلية الخنساء ست مرات في اليوم قبل الأكل وبعد الأكل وحين فر قاسم من الجبهة.. تبعه سعدي قائلاً (ليست حلوة) ثم تلاهما اسماعيل باكثر من مبرر كاذب، شرع التلفزيون بأمطارهم بالاف افلام الكاوبوي اذ الرجولة والقتل ايسر من تقشير الموز).. انها روايات تحمل اخباراً عن الماضي والحاضر... كتبها روائيون جدد على تاريخ الرواية العراقية ولكن في الأغلب تكشف عن وعي فني يعلن عن ظهور جيل روائي عراقي يستحق الدراسة والمراقبة.. وهذا لم يحصل سابقاً لأننا كنا نقرأ اعمالاً روائية متفاوتة في أزمنة صدورها.. أي كل خمس او ست سنوات نقرأ رواية ولكن لم يحدث ان ظهرت موجة روائية في العراق.. على الرغم من عدم وجود تعارف مسبق بين اغلب الكتاب الذين ذكرتهم ولكن مايجمعهم... انهم كتبوا رواياتهم الاولى في سنوات متقاربة ولكل واحد منهم مناخه الكتابي الخاص ورؤياه ولكن كتاباتهم تفصح عن سعيهم الجاد لفهم التاريخ للدخول من خلاله الى تاريخ الرواية.


منفى الممثل العراقي ودولته الوليدة
 

عبد الخالق كيطان
علينا التأكيد بادئ ذي بدء بأن اختيار المنفى شأن شخصي قد تسهم في صياغته عوامل شتى من ضمنها العامل السياسي، ومع ذلك فإن الشأن الشخصي هذا يتحول إلى صرخة احتجاج كبيرة إذا ما كانت الشخصية عامة ومعروفة مثل شخصيات الفنان والأديب والسياسي. وانطلاقا ً من هذا الهم الوطني فقد اختار عدد كبير جدا ً من ممثلي السينما والمسرح والتلفزيون في العراق المنفى أيام النظام الديكتاتوري السابق وكان بإمكانهم قبل ذاك العيش في وطنهم منفيين بعيدا ً عن الأضواء أو في أحسن الأحوال ديكورا ً يتم بهم ومن خلالهم تجميل المشهد العراقي القبيح ما داموا يقاومون فكرة العبودية التي كانت دوائر النظام السابق تروج لها ليلا ً ونهارا ً.
وقصة الفنانين العراقيين في المنافي والمنائي قصة طويلة تستحق وقفة أطول من هذه ومن شهود رافقوا تلك التجربة النادرة في تاريخها الذي يمتد لأكثر من ثلاثة عقود من عمر الزمن العراقي، ولكننا هنا نتقصد التذكير بجهود هؤلاء الفنية والوطنية على السواء آملين في أن تبادر الجهات المعنية في العراق برفع الظلم عنهم وإحاطتهم بالعناية والاهتمام الذين يستحقونهما، أقلها لجهة موقفهم الوطني المشرف.
ومن المعلوم أن هجرة المثقفين العراقيين، وبضمنهم الفنانون العراقيون، كانت قد بدأت منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، حيث ضجت المنافي والمنائي بالخبرات الفنية العراقية بعدما ضيق النظام عليهم في العراق. ثم كانت الحرب العراقية الإيرانية لتكمل الدورة فيما شهدت السنوات التي تلت حرب احتلال الكويت ومن ثم تحريرها من الجيش الصدامي هجرة أوسع بكثير من سابقتيها، حيث وصل عدد كبير من الفنانين العراقيين إلى دول مختلفة من العالم، بعضهم كان قد تستر بصيغة العقود التدريسية في غير دولة عربية، أشهرها ليبيا واليمن، والبعض الآخر هاجر إلى الدول الأوربية وأمريكا وكندا بمعونة المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة.
كان من أبرز الفنانين العراقيين المهاجرين منذ عقد السبعينيات وبداية الثمانينيات كل من الفنانتين الكبيرتين: زينب وناهدة الرماح، ثم الفنانة القديرة غزوة الخالدي، ومن المخرجين الفنان جواد الأسدي والفنان فاضل السوداني، وقد حصل الأثنان على شهادات عليا في الدراما ولكنهما قررا عدم العودة إلى وطنهما ، كما هاجر في هذه الفترة الفنان المعروف قائد النعماني وكان في ذروة تألقه الفني، والأمر ينطبق على الفنان عبد المطلب السنيد وآخرين.
ولقد شهد عقد التسعينيات الرهيب خروج موجة جديدة من الفنانين، واللافت أن الموجة الجديدة هذه لم تستثن الممثلين الكبار من جيل الرواد، حيث هاجر الفنان الكبير خليل شوقي والمعلم القدير بدري حسون فريد والفنانة الكبيرة سهام السبتي. استقر الأول في هولندا حيث تعيش ابنته الفنانة مي شوقي وزوجها المخرج عبد الهادي الراوي، وكذلك ولده الفنان فارس، أما الفنان القدير بدري حسون فريد فاختار التدريس في الصحراء الليبية ثم لم يجد أمامه بدا ً من العبور جهة المملكة المغربية ليدرس في واحد من معاهدها ويعيش عيشة الكفاف والضنك على أن يعيش عيشة الخنوع في بلاده ، فيما قررت الفنانة الرائعة سهام السبتي أن تلتحق بأحد فصائل المعارضة العراقية في عمان وتعمل في واحدة من أنشط إذاعات المعارضة العراقية حينذاك، وهي إذاعة المستقبل، قبل أن تشد الرحال للقارة الأسترالية حيث تقيم اليوم.
كان هؤلاء يمثلون باقة رائعة من ممثلينا الكبار، ولا أعتقد أن ثمة عراقياً واحداً لا يتذكر دوري خليل شوقي وبدري حسون فريد في الذئب والنسر وعيون المدينة، ولا أعتقد أيضا ً أن بيننا من ينسى ذلك المشهد التلقائي البديع الذي جمع بين سهام السبتي والفنان الخالد سليم البصري في تحت موسى الحلاق.
واستمرت الهجرة ليلحق بهؤلاء فنان كبير آخر هو غازي الكناني، الذي عرف بأدواره الشعبية في السينما والمسرح والتلفزيون ليستقر به المقام في القارة النائية أستراليا.
أما جيل الممثلين الشباب الذين اختاروا المنفى والهروب من قمقم القمع فهم أكثر من ان نعدهم في هذه العجالة، وإن كنا خصصنا هذه الورقة للفنانين الرواد فقط لتأشير فداحة خسارتنا بهم. وهؤلاء هم رموزنا الوطنية الذين منع النظام السابق تداول أخبارهم حتى على مستوى المجالس الخاصة، باعتبارهم مرتدين وخونة وما إلى ذلك من خداع.
لقد شهدت المنافي التي يعيش فيها المبدعون العراقيون دائماً رحيل المبدعين العراقيين الواحد تلو الآخر بسبب الغربة وقسوتها وعامل السن وما إليه، وكان الفنان الراحل سامي السراج واحدا ً من أبرز ممثلي العراق الذين قتلتهم تلك الغربة، ولولا عناية الله يوم وفاته حيث كان يوجد في العاصمة الأردنية عمان وفد فني عراقي يرأسه الشاعر فاروق سلوم، مدير عام دائرة السينما والمسرح حينذاك، والجهود المخلصة التي بذلها والفنان محسن العلي وباقي أعضاء الوفد من أجل ترتيب وضع لدفن الراحل في بلده العراق، أقول لولا تلك المصادفة لدفن جثمان السراج في بلاد الغربة كما هو شأن العديد من مبدعينا الذين ماتوا حسرة في منافيهم ومنائيهم. وسامي السراج ممثل غني عن التعريف عرفه الجمهور العراقي من خلال عشرات الأدوار التلفزيونية والمسرحية والسينمائية الرصينة فحاز على حبهم واحترامهم، ولكنه من جانب آخر، وشأنه شأن العراقيين أجمع، كان يعاني من شظف العيش في وطنه وضيق فسحة الحرية وعيون الرقباء المتكاثرة فقرر الخروج من العراق نهائيا ً ليلتحق بفصائل المعارضة العراقية حيث كان صوته المعروف يحرض الأهل على الانتفاض ضد الطاغية وحكمه الرهيب، وظل منتجا ً في حقول المعرفة حتى وافته المنية. ترك سامي السراج عدداً كبيراً من المقالات والدراسات حول الفن العراقي كما نشر في منفاه كتابا ً عن الفنون العراقية السمعبصرية وكان يطمح الى العودة إلى بغداد لإكمال مسيرته الفنية لولا المنية التي وافته خارج بلاده التي يحب ويعشق.
وللحديث صلة مع فنانة الشعب زينب التي توفيت في منفاها فلم تجد غير بضعة أشخاص يقرأون على روحها الطاهرة سورة الفاتحة ولتدفن في مقبرة الغرباء في السويد، وكم سيكون باهرا ً تشييعها لو تم في بلدها وهي الفنانة المعطاء التي يتذكرها الجمهور بالرغم من مرور سنوات طويلة جدا ً على قرارها مغادرة العراق لأسباب سياسية. فيما تعاني الممثلة البارعة ناهدة الرماح من وضع صحي ونفسي مؤلم لم يجد معه الفنان جواد الأسدي غير كتابة مسرحية وأخرجها بنفسه بعنوان: آلام ناهدة الرماح، أرادها تحية لها في ظروفها العصيبة بعيدا ً عن الوطن.
وبالرغم من كل دعوات التعتيم التي كان أزلام النظام السابق يقودونها ضد الفنانين العراقيين المقيمين خارجه فإن الحقيقة تقتضي التذكير بأن أغلب هؤلاء المبدعين كانوا يجتهدون قدر استطاعتهم في العمل الفني ، فالممثل العراقي كان يناضل من أجل تدبير لقمة العيش في بلاد الغربة وفي الوقت ذاته يجتهد في أن يظل وفيا ً لجمهوره ومحبيه حتى وإن قلوا في بلاد الغربة. والكثير من الممثلين العراقيين عملوا طويلا ً مع صفوف المعارضة العراقية، وكانت صحف تلك المعارضة تركز الأضواء على مواقفهم الوطنية بين فترة وأخرى، وطيلة تلك السنوات لم أقرأ تصريحا ً أو حوارا ً مع واحد منهم يتهجم فيه على زملائه الممثلين داخل العراق ذلك لأن الفنان المنفي يعرف تماما ً أية ظروف لا إنسانية تلك التي يعيشها الزملاء داخل العراق كما يدرك أن الغالبية العظمى من المشتغلين بالوسط الفني العراقي كانوا بلا حول ولا قوة أمام ما يجري من تخريب منظم للبلاد والعباد، ناهيك عن الصلات الوثيقة التي جمعت بينهم بالرغم من اختلاف الأمكنة وتباعدها.
إن العراق الجديد الذي يتشكل الآن هو عراق أبنائه قبل أي شيء آخر، ومن هذا الباب ندعو مخلصين إلى أن تبادر وزارة الثقافة العراقية لدعوة الممثلين الكبار: خليل شوقي وبدري حسون فريد وسهام السبتي وناهدة الرماح وجواد الأسدي وفاضل السوداني وغزوة الخالدي وقائد النعماني وغازي الكناني (ومن أغفلهم الكاتب لجهل) باعتبارهم من جيل الرواد وما بعد الرواد وتكرمهم في وطنهم آخذة في نظر الاعتبار موقفهم الانساني والحضاري المتمثل بالوقوف في وجه الديكتاتورية لسنوات طويلة غير مبالين بدعواتها الرخيصة لمعاقبتهم ومعاقبة ذويهم، ومنع الأعمال الفنية التي مثلوها من الظهور على شاشة التلفزيون ومنع الصحف المحلية من تداول أخبارهم ونشاطاتهم. ولعل مثل هذا الموقف الوطني يعطي دلالة واضحة على جدية التغيير الحاصل في العراق ورغبته بالانفتاح على أبرز مبدعي العراق الذين احتضنتهم المنافي الكثيرة. وفي السياق نفسه نرفع صوتنا مجدداً مع الأصوات التي طالبت بنقل رفات المبدعين العراقيين من مقابر الغرباء المنتشرة في العالم وإعادتها إلى بلادها من خلال تأسيس مقبرة عراقية في بغداد تسمى بمقبرة المبدعين العراقيين. وكل هذا في تقديرنا يمثل أقل ما يستحقه المبدعون العراقيون جراء مواقفهم الوطنية المعروفة وإبداعهم الإنساني النبيل.


اســتــعـــادة ســـــارتـــــــر
 

سعد محمد رحيم
ليس من السهل تلخيص أفكار سارتر في بضع صفحات، هو الذي جال في ميادين عديدة، وتناول قضايا عصره في مئات المقالات، حتى أنه كان يكتب في حدود العشرين صفحة مطبوعة في اليوم الواحد، لكن من الممكن الإشارة إلى نتف من أفكاره وفلسفته التي وزعها لا في مقالاته وكتبه الفكرية والفلسفية وحدها، وإنما في رواياته وقصصه ومسرحياته، وقد وجد هناك من ينكر أن يكون سارتر فيلسوفاً كما هو شأن كانط وهيجل وهوسرل، فقالوا؛ إنه أديب مهتم بالفلسفة، ويضمِّن نصوصه أفكاراً فلسفية، أكثر من كونه فيلسوفاً يكتب النص الأدبي بين الحين والحين. غير أن فوكو ينعته بالفيلسوف الأخير الذي لمّا مات مضت معه فلسفته. وكما هو شأن معظم الوجوديين فإن سارتر وسيمون دي بوفوار لم يختارا هذه التسمية ـ الوجودية ـ كما تذكر دي بوفوار حين سئلت عمن أطلق كلمة الوجودية على فلسفتهما، فقالت: ( ليس سارتر على كل حال. الكلمة غبية لكنها التصقت بنا ووافقنا عليها، وبعد ذلك فإن دور الأزياء الثقافية الباريسية كفيلة بكل شيء ). وعمّا قيل عن موت الفلسفة بموت سارتر، تحدد دي بوفوار رؤيتها ورفيقها إلى الفلسفة فتقول: ( لم يكن سارتر يعتقد بالفلسفات الجامدة، فالفلسفة هي نوع من الجدل مع العالم، وعندما يتغير العالم يجب أن تتغير الفلسفة، والعكس بالعكس.. لا أعتقد أن الفلسفة ماتت بموت سارتر.. إن الفلسفة الغربية في أزمة، فثمة قلق داخل اللغة وخارجها، وببساطة أننا نشعر كما لو كنا داخل مكوك فضائي ضاع في الفضاء ).
يشير س. م. البيرس إلى أن (الوحدة الإنسانية، والحرية الإنسانية، والمسؤولية الإنسانية، كل ذلك مدروس في نظام منهجي على غاية الدقة، والرغبة في حبس الإنسان في الإنسان، وإخضاعه لمسؤولية مستقلة تمام الاستقلال. هذه هي على ما يبدو، المواقف الأساسية لتفكير جان بول سارتر).
وعلى الرغم من أن هذه النزعات لم تكن طارئة على الفكر الإنساني ، فإن سارتر أعطاها إطارها المنهجي وعمقها وترسيمتها الفلسفية المتوافقة مع الوضع البشري بين الحربين وما بعدهما مثلما تلمّسه ورآه وخبره هو ـ سارتر ـ وجيله.. يقول البيرس: ( إن سارتر يمكن أن يعتبر الكاتب الذي نقل إلى الحقل الفلسفي القضية الرئيسة للقدر الإنساني كما يواجهها عصرنا، بأن ردها إلى أوضح عناصر واكثرها جفافاً. وإن ما هو لدى معاصريه نقاش وقضية مفتوحة وغنائية متحمسة، وبحث قلق ولكنه ممزوج بالتخيل، وميثولوجية غالباً، وشعر أحياناً، كل ذلك أخضعه هو لمنهج بعينه ولموضوعات هذا المنهج ).
مع الفلسفة الوجودية نعرف أننا موجودون من دون اختيارنا، وموجودون من دون أن يكون هناك مسوغ لهذا الوجود، وهذا ما يضعنا أمام المسؤولية التي تكتسب طابعاً أخلاقياً والتي نحسها في دخيلتنا إزاء هذا الوجود.. يقول روكانتان في رواية "الغثيان" ( إن فكري هو أنا: من هذا لا أستطيع أن أقف. إنني موجود لأنني أفكر. ولا أستطيع الامتناع عن التفكير. وفي هذه اللحظة، يا للفظاعة، إذا كنت موجوداً، فلأنني أذعر من أن أوجد. أنا، هي التي تجذبني من العدم الذي أنشده ).
كان سارتر يشمئز من أولئك الذين يعيشون حياتهم مطمئنين واثقين من أنفسهم والذين يعتقدون أنهم مسوغون ـ مبررون ـ فيهربون من مسؤوليتهم، وبحسب سارتر فإن حياة الوعي والشعور هي الواقع الوحيد الذي جربه الإنسان، وهو وعي يولد موجهاً إلى كائن ليس هو إياه، والوعي بحاجة إلى ذلك الكائن ـ الأشياء ـ من أجل أن يوجد، على عكس الكائن ـ الأشياء ـ الذي ليس بحاجة إلى شيء لكي يوجد. فهو موجود في ذاته، بينما الإنسان بوساطة وعيه موجود لأجل ذاته. فالإنسان وحده من شأنه، وفي مقدوره أن يختار، لذا فإن وجوده يكون لذاته. أما وجود الأشياء الأخرى فهي وجود في ذاته لأن ليس من شأنها وليس في مقدورها أن تختار.
يتدخل الوعي في عملية الاختيار، ومع الوعي يدرك الإنسان فداحة نقصه فيسعى لأجل تجاوز ذلك النقص فينشد الكمال لوجوده ليكون وجوداً في ذاته، وهذا ما يعد مستحيلاً بالمرة. فمعضلته تكمن في ذاته التي تهرب منه، وهو إذ يحاول اللحاق بها لتدارك النقص في وجوده عليه أن يختـــار، وهنا تبــــرز مسؤوليتــه إزاء ما يختار، ( والمسؤولية تدفع الى العمل، والعمل هو الإنسان، والإنسان هو أفعاله، والإنسان يفعل ليستكمل النقص في الوجود، لأن الوجود الخارجي وجود في ذاته لا يعي وجوده، والإنسان يريده وجوداً لذاتــه يعي وجوده، ومحاولتــه غرور الغرور وعبث ).
إن الوجود يسبق الماهية، والإنسان من خلال أفعاله هو من يصنع ماهيته من دون موجِّهات قبلية.. إنه حر في أن يصوغ وجوده على وفق ما يلائمه، فالوجودية تعطي القيمة المركزية للإنسان الذي يتمتع بالإرادة والعقل الحر، وبحسب سارتر لا يمكن لحرية الإنسان أن تكون كلية، فالإنسان محدد بالوراثة وبالطبقة الاجتماعية والمولد والأمة. وهذا ما يشكل وضعه، وهو حر في هذا الوضع، وبالنسبة إليه، ولكي يكون حراً حقاً ، عليه أن يعترف بوضعه، وأن يختار بين أن يتقبل وضعه أم لا.. أن يغيره أم لا. والإنسان حر على وفق رؤية سارتر لأنه هو الذي يعطي للأشياء معنى. ونقطة انطلاقه الفلسفي هي أولوية الشعور والوعي. فمن خلالهما نواجه وقائع "الحرية والمسؤولية والتضامن" ونمنحها قيماً بأن ننظر إليها مواجهة، ومن خلال العمل ندخل التغييرات والتبديلات على معنى العالم، فالحرية تعد مزيفة إذا ما اقتصر الإنسان على تأمل العالم من دون المشاركة فيه. والحرية تتخذ معناها الصحيح في العمل، والإنسان ( الذي ليس هو شيئاً، والذي هو قريب هذا القرب من العدم، ومتعلق بالأشياء، والذي هو مع ذلك الحامل الوحيد للمعاني في العالم، إنما هو ـ مشروع ـ فليست قيمته في أن يعتبر نفسه قائماً ومثبتاً في الوجود، بل في أن يعطي لهذا الوجود معنى جديداً بمسؤولية لا عون لها ).
وكما يرى سارتر فإن على الإنسان أن يخلق قيمه، وأن يرفض القيم القبلية القائمة، فحياة الإنسان كما يعتقد ويريد مصنوعة من المستقبل، كما هي الأجسام مصنوعة من الفراغ، على حد تعبيره. فوضعنا في العالم يحد من حريتنا، وعلينا أن نقابله بمشروع. ويكون لا أخلاقياً ( أن يرفض الإنسان هذا الخلق المستمر، وأن يسترخي في قيم ماضية جامدة ). فليس هناك جوهر متجمد علينا أن نحترمه، وإنما هناك وجود جديد علينا أن نسوِّغه من دون انقطاع.. يقول البيرس: ( إن سارتر هو كاتب عصر ينفصل عن فكرة التقاليد، ليجعل من الحضارة تجدداً، لا حفظاً للقوانين ومراعاة. ومن الحياة مغامرة، لا نظاماً قائماً ).
أدرك سارتر طبيعة انتمائه البورجوازي، وما علمته إياه هذه الطبقة ( الحريات السياسية، والحصانة الفردية، وسلطة الذات، الخ ) لكنه كان يشعر بضرورة أن يكون إلى جانب البروليتاريا، يقول: ( نحن ما زلنا بورجوازيين بثقافتنا، بطريقتنا في الحياة، وبجمهورنا الحالي، لكن الموقف التاريخي يحثنا في الوقت نفسه على الانضمام إلى البروليتاريا لبناء مجتمع بلا طبقات ).
ها هنا يجد نفسه بين انتماءين، ولأن كل طبقة، كما يرى، تجهل أحد حدي التناقض { حرية التفكير، والحريات المادية } فعليه أن يعانـي هذا التطلب المزدوج ( إن هذا التطلب هو مشكلتنا الشخصية كما أنه مأساة عصرنا ) وهو لا يريد التخلي عن الحريات الشكلية كي ينكر أصله البورجوازي، ولا أن يترفع عن المطالب المادية كي يكتب بضمير مطمئن، يقول؛ ( علينا أن نتجاوز التعارض في أنفسنا ومن أجل أنفسنا. ولنقنع أنفسنا أولاً بأنه قابل لأن يتجاوز.. إن الأدب يقدم لنا الدليل على ذلك من نفسه، لأنه عمل حرية كلية متوجهة إلى حريات مطلقة، ولأنه يظهر بالتالي على طريقته باعتباره نتاجاً حراً لنشاط خلاّق، كلية الشرط الإنساني).
هنا يتحدث سارتر عن اتخاذ موقف في الأدب، وعن الالتزام في الكتابة. وموضوع الأدب عنده دائماً هو الإنسان في العالم ( فلكي ننقذ الأدب، فلا بد من أن نأخذ موقفنا ـ في أدبنا ـ لأن الأدب بماهيته هو اتخاذ لموقف ). وقد حاول دائماً أن يجد نوعاً من التوافق أو التزاوج بين الوجودية والماركسية.. بين الاشتراكية وحرية الذات الإنسانية ( إن علينا أن نرفض في جميع الميادين الحلول التي لا تستوحي بعمق المبادئ الاشتراكية، لكن علينا في الوقت نفسه أن نبتعد عن جميع المذاهب وجميع الحركات التي تعتبر الاشتراكية غاية مطلقة.. إن الاشتراكية في نظرنا ينبغي أن تمثل الغاية الأخيرة، بل غاية البداية، أو إذا فضلنا الوسيلة الأخيرة قبل الغاية التي هي تمليك الشخص الإنساني لحريته ).
تعامل سارتر مع الماركسية باحترام فائق، لا بانقياد أعمى، واستثمر أدواته المنهجية في نقد الفكر الماركسي، ولم يكن هدفه تسفيه ذلك الفكر، وإنما تقويمه لأنه آمن بأن الماركسية هي نظرية الطبقة العاملة وفلسفتها في الفعل الثوري، كما هي فلسفة العصر. وفي كتابه الذائع الصيت " نقد الفكر الجدلي" حاول دحض فكرة ديالكتيك الطبيعة والحتمية التاريخية، وفكرة وجود قوانين موضوعية خارجية تسيّر التاريخ الإنساني، فاسحاً الفرصة للوعي والإرادة الإنسانيين في صنع التاريخ. وانتقد بشدة كل ما يتعلق بمصادرة الحرية الفردية داخل الإطار البيروقراطي للدولة الستالينية، والممارسات الاستبدادية لتلك الدولة في علاقتها مع مواطنيها، ومع الدول التي كانت يومها ضمن المعسكر الاشتراكي، لا سيما خلال أحداث المجر وبولونيا وربيع براغ.
لم تكن الوجودية في إطارها الفلسفي سياسية، ولم تكن لها أن تتلاءم مع الأنماط السياسية السائدة، وكذلك ليس بالإمكان عدّها إيديولوجيا، كما أن الفلاسفة الوجوديين لم يحاولوا على اختلاف مشاربهم وأهوائهم تأسيس إيديولوجيا، والترويج لها، على الرغم من اقتراب بعضهم قليلاً أو كثيراً من هذا المذهب والاتجاه أو ذاك ـ هيدجر من النازية، سارتر من الماركسية، في سبيل المثال ـ بيد أن الطابع السياسي للوضع البشري، وتأثير العامل السياسي في تحديد أقدار المجتمعات والأفراد جعل من الوجوديين على تماس مع السياسة، وتجلت وظيفتهم الكبرى في هذا المضمار بالنقد.. نقد المذاهب والإيديولوجيات والأفكار التي تحد من الحريات الإنسانية، وتفتح الذات الإنسانية الخلاّقة. ولعل سارتر هو أكثر الفلاسفة الوجوديين اهتماماً بالشأن السياسي، وهذا الاهتمام هو الذي قاده إلى الماركسية.. يقول: ( إن الماركسية بيننا ليست مجرد فلسفة: بل هي مناخ أفكارنا، الوسط الذي تتغذى منه، الحركة الحقيقية لما يسميه هيجل الفكر الموضوعي. إننا نرى فيها ثروة ثقافية لليسار. بل إنها وحدها الثقافة منذ أن مات الفكر البورجوازي، لأنها هي وحدها التي تسمح بفهم البشر والأعمال والأحداث ).
كان سارتر على وفاق نسبي مع فكر ماركس، لكنه لم يكن كذلك مع الماركسيين، ومع الماركسية بصيغها السائدة، مثلما تجسدت في تجربة الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية، وفي التنظيمات الشيوعية في أوروبا الغربية.. كان يؤمن بثراء المنجم الماركسي، وينفر من ضعف قابليات القائمين على ذلك المنجم.. يقول: ( إننا لا نطلب شيئاً من الماركسية سوى أن تعيش، أن تنفض عنها غبار كسلها الفكري المجرم لتعطي الجميع، دونما امتيازات، ما يتوجب عليها أن تعطيه ). ولقد عانى سارتر من سوء فهم الماركسيين والشيوعيين لـه، ولطروحاته.. يقول: ( إن أدعياء الماركسية لا يعيرون الآخرين شيئاً أبداً ـ وعذرهم هو فقرهم ـ وعندما لا يفهمون نصاً من النصوص يتصورون أن مؤلفه غبي على شاكلتهم ).
في ذروة الحرب الباردة كان سارتر قد حسم اختياره، ولكنه ظل على مسافة مما اختار.. كان يبغي سياسة أكثر واقعية وإنسانية، وأشد فعالية من الحزب الشيوعي الفرنسي، فإذا رجعنا إلى المصطلحات الحية لذلك الزمان ( اليسار واليمين.. الاشتراكية والرأسمالية.. التقدمية والرجعية، الخ ) فقد كان سارتر يسارياً اشتراكياً تقدمياً، يجد نفسه إلى جانب الشغيلة ضد الاستغلال الرأسمالي، وضد استبداد البيروقراطية الاشتراكية، فعلى خلفية أحداث المجر 1957 كتب مقالته الشهيرة "شبح ستالين" مندداً بممارسات الجيش الأحمر وقوات الأمن المجرية اللذين يفترض أن يكونا جيش وقوات الطبقة العاملة وقد راحا يطلقان النار على الطبقة العاملة المتمردة.. يقول: (والمصفحات السوفياتية إنما أطلقت النار، في بودابست، باسم الاشتراكية على بروليتاريات العالم كافة).
تحرى سارتر عن الأسباب الثاوية وراء ما جرى، وحاول أن يضع إصبعه على الجرح مهما كان عمقه وشدة الألم ( إن ما أفقد الجماهير صبرها هو ذلك الخليط المدهش، في قلب الحزب بالذات ـ يقصد الحزب الشيوعي ـ من ستالينية لا تزال عدوانية، ومن أنصار اللاستالينية. إنها الترددات، الرجوع إلى الوراء، المماطلة والتأجيل، والتناقضات ). وإلى حد بعيد استوعب سارتر تلك التناقضات، وعرّاها بتصميم مخلص، بعد أن وجد أن خطأ ستالين الفادح كان ( بدلاً من أن يشد الاتحاد السوفياتي حلفاءه إليه بتضامن فعلي وإيجابي فضل أن يخلق مسوخاً لا تستطيع أن تعيش بدونه ). حقاً، فمع تفكك الاتحاد السوفياتي، فيما بعد، تساقطت حكومات دول الكتلة الشيوعية كأحجار الدومينو الواحدة تلو الأخرى، ففي هذه الدول كما أبصر سارتر بعينه الثاقبة ( كانت الاشتراكية بضاعة مستوردة، وكانت الثورة مصنوعة من فوق، وكان الجيش الأحمر قد فرض زعماءها).
ليست الوجودية نظرية أو فلسفة متكاملة، متسقة بحيث نستطيع أن نتكلم عن فلاسفة وجوديين، متضامنين في الرؤى والأفكار والقناعات، مثلما هو الحال مع السورياليين والرمزيين مثلاً.. إننا ها هنا لسنا إزاء مدرسة، ولا سيما أن أولئك الفلاسفة والمفكرين يتطيرون من كلمة "مدرسة" وأحياناً حتى من كلمة "الوجودية" نفسها كما هو شأن البنيويين مع "البنيوية". ومنذ ظهورها، وصعود نجمها، ثم خفوت ضوء ذلك النجم، ظلت الوجودية في مرمى سهام النقد الذي كان بعضه موضوعياً، علمياً ومنهجياً، وكان بعضه الآخر متهافتاً، غير علمي، ولا يستند إلى منهج واضح وفعّال.
هناك من اتهم الوجودية بطغيان النزعة الفردية، واللاعقلانية، والتشاؤم، وعدم الاكتراث بالأخلاق، وبأن نظرتها الإنسانية ضيقة، أي ( أن الإنسان في هذه الفلسفة قد أتخذ مقياساً لكل شيء في إطار يدور حول الإنسان.فليس هناك، مثلاً، فلسفة للطبيعة عند الوجوديين، ولا اهتمام بذلك الضرب من الكائنات التي تدرسها العلوم الطبيعية ). ولكن هذه السمات/ العيوب إن وجدت بهذه الدرجة أو تلك، عند هذا المفكر الوجودي، أو ذاك، ينبغي ألاّ يجعلنا نغمط هذه الفلسفة، التي شغلت عقول ملايين الناس في القرن الماضي، حقها.. يقول جون ماكوري في خاتمة كتابه "الوجودية": (أعطتنا الوجودية الكثير من الاستبصارات الجديدة العميقة حول سر وجودنا البشري الخاص، وأسهمت بذلك في حماية إنسانيتنا وتدعيمها في مواجهة كل ما يتهددها في يومنا هذا. ولقد قدمت، بوصفها فلسفة، معياراً نستطيع بواسطته أن نفسر أحداث عالمنا المعاصر المحيرة، وأن نقومها.....وسوف أظل أقول إننا نستطيع أن نتعلم من الوجودية حقائق لا غنى عنها لوضعنا الإنساني، حقائق قد لا تستغني عنها أية فلسفة إنسانية سليمة في المستقبل ).
وإذ نستعيد فكر سارتر مثلما طرحه في مؤلفاته، نرى أنه لم يكن لا عقلانياً بأي حال من الأحوال، ولم يدع إلى التحلل الأخلاقي كما فهمه بعضهم. وأن تأكيده على النزعة الذاتية والإنسانية قد جاء في مواجهة الإيديولوجيات الشمولية ومنها الفاشية والنازية والستالينية، فضلاً عن الرأسمالية. وهذه الإيديولوجيات الشمولية كلها، إنما تقصي الإنسان أو تستبعده، أو تسحقه باسم مبادئ مثالية عليا، زائفة تارة، أو في سبيل الربح المادي والتوسع في الأسواق تارة أخرى. أما سمة التشاؤم في تفكيره فقد قابلها إصراره على فكرتي الحرية والمسؤولية، وبناء الإنسان لماهيته، وإعطاء حياته معنى من خلال العمل.
تركت الوجودية أثرها في الآداب والفنون، وفي رؤية المعاصرين إلى ذواتهم وزمانهم وعالمهم. وإذا استبعدنا تحت طائلة تبدل الشروط التاريخية التي تتحكم بالوضع والفكر البشريين احتمال عودة الوجودية بحلتها القديمة، ومنها ما أضافها سارتر عليها، لتكون موضة لجيل جديد، فإن الوجودية تسربت، لا شك، إلى نسيج ثقافة العصر وخلاياها، مخلِّفة بعضاً من صبغتها وأثرها فيها. وكما نقول إن الثقافة الإنسانية قبل ماركس ليست هي الثقافة ذاتها بعد تسيد الماركسية، على الرغم من إخفاقات التجارب الاشتراكية المستلهمة لماركس. كذلك، في مقدورنا القول، ولو بدرجة أقل، أن ثقافتنا الإنسانية قد أخذت من الوجودية وسارتر ما صيرتها أوسع وأغنى.
أعطانا سارتر، مع الفصيل المتنافر من الفلاسفة والمفكرين الوجوديين، فكرة أعمق عن الحياة والذات والحرية والمسؤولية، وعن فكرتي الاختيار والمعنى الوجوديين. وأيضاً، منهجاً نقدياً نضع معه الحياة والعالم وأنفسنا، دائماً موضع التساؤل.
إن من شأن التاريخ أن يمحو لحظات الفكر والفعل البشريين، وان يحتفظ بها في الآن ذاته، في ركن من أركان غابته المتشعبة العظيمة. ولا ريب، أن ثمة ركناً في تلك الغابة للوجودية والوجوديين، ومنهم جان بول سارتر.


صراع الجبابرة
 


أ.د. عقيل مهدي يوسف


من افدح الخسائر القيمية في المسار المسرحي ان يلتقط المخرج نصاً درامياً يحابي فيه مؤلفه !! لان ذلك سينعكس بطريقة مباشرة على العرض.
وسوف تصطدم رؤيته الاخراجية بعوائق خارجية ابرزها ان المؤلف لا يريد "تخريبا" لنص شيّده طوال أيام وليالٍ، واراد لـ "كلماته" ان تقرع اسماع المتفرجين المفترضين، لتشنفها بالسحر الحلال، فضلا عن ان المخرج سيقامر بتجربته التي يحاصرها "الزيف" ان حذا حذو خطوات النص نفسها لانه سيرضي ذائقة غيره، ويطمر حسّه الجمالي في اعماق سفلى متنحية عن الصدارة، ليحافظ على خريطة كتابية، تجاوزها المعمار البصري الراهن فلا يمكن ان "تتشاكل" الرؤيتان للكاتب وللمخرج ، بل ينبغي ان تخترق احداهما الأخرى، ليتم خلق فضاء متوتر، مشحون بالحركة، ومحققا الانزياحات المطلوبة في لغة العرض، والا فلماذا يعاد تقديم النصوص العالمية بلغة مغايرة عند كبار المخرجين المعاصرين والمجددين؟
من المحزن ان ترى انقساما يفترضه المؤلف "كلي القدرة" ما بين سادة نجب ، وآخرين شغيلة، فيحق للاول ان يمارس املاءاته على الثاني!! وعلى المخرج الانصياع لذلك الجبروت النصي بلا حول ولا قوة، وربما يذكر بعضنا الكثير من الخلافات ما بين الطرفين، ويكون السجال ضارياً باتهام احدهم للاخر وتخوينه في الحفاظ على الامانة. بل وصل الحال إلى ان روائيا مرموقا بلا ادنى شك، تهجم على مخرج شاب طموح لانه "تجرأ" على اعداد روايته نصا للعرض والمشاهدة، ونقله من فنون "السرد" إلى فن المشاهدةّ!! وكأنه كان يتمنى عليه ان يتلوها امام المشاهدين من الغلاف إلى الغلاف! وهنا ينبغي ان نعلنها صريحة، ليست كل التجارب الاخراجية على صواب وكل الكتاب المسرحيين على "باطل" !! لكننا اردنا الاشارة إلى احترام حقوق مهنة كل منهما. فالمخرج يحترم الكاتب منذ ان اختار نصّه للتقديم، وعلى الكاتب ان يتحلى بالروح الرياضية مهما تطرف المخرج باستثمار وسائله الاخراجية، وذلك لان النص الجيد يلهم المتلقي الاول له وهو المخرج في هذه الحالة، لان يعيد انتاجه هيكليا، وفق تأويلاته الخاصة، والمتفردة، بعد ان يعالجه ويستقطر صوره الدرامية ويعمق صراعاته الخفية في خطته الجديدة التي غادرت المساحات المعلنة في النص بوضوح بيّن.
وحاشى المؤلف الرصين ان تسكنه نزعة (برجماتية) نفعية ، لننظر ما ستؤول اليه تجربة العرض، فان نجحت فهو معها، وان فشلت!! فعليك تصور مدى التحرش والتشويه الذي طال رائعة (النص) المصون، طاهرة الذيل والمحتد!! بل انه يحاجج بالزمن الذي استغرقه في كتابة نصه.
كان المخرج الروسي الكبير ، قد ذكر حادثة في هذا الصدد، فهو كما يذكر في كتابه الجاد "التمرين حبيبتي" ان احد المؤلفين جاءه بنص، استغرفت كتابته خمس سنوات، وحين قرأه المخرج (ايفروس) قال له، ان نصه هذا لم يستغرق من الوقت سوى فترة خطه باليد على الاوراق!! لذلك اعتذر عن تقديمه. وربما تبقى النصوص الجادة مطلوبة بعد رحيل مؤلفيها انفسهم، وهم بالتالي لا يستفتون حول نجاح نصوصهم أو اخفاقها بل يبقى النص بقوته الفنية، ودفعه الذاتي، محافظا على تميزه وتفرده.
ان القراءة السريعة قد تنبهر بمقطع ما في النص، شبّع بالعواطف المتطرفة التي لا تليق بالوقار الدرامي، الذي تنسجه انامل خبيرة، تدرك ابعاده ومراميه القصية، فتتجنب لغة الداعية وخطبته المنبرية العصماء!
ولهذا قد يستغرب هذا القارئ أو ذاك حين يطلع على نص معروف ان يراه مكتوباً بكلمات وهي كما يحسبها لا تفرق عن كلمات أي نص آخر!!
وقد يعزو نجاح هذا النص إلى الحظ والى افلاك النجوم!! ولكن الحقيقة هي خلاف ذلك بالتاكيد. صحيح ان النصوص تكتب "حواريا" غير ان النصوص الابداعية الخلاقة تنطوي على كنوز نادرة وثمينة تخص بنيتها الدرامية، وطبيعة عناصرها الدرامية، من شخوص وحوار وحبكة وصراع ومواقع صمت فاعلة وبؤر اشتغال متنوعة ، تقود بالتالي بممراتها السرّية تاويلات اخراجية متباينة وليست جاهزة لتقديم "حلول" احادية معروفة سلفا. وحسبنا ان نرى قيام ظاهرة جديدة وديمقراطية في الحوار بين المؤلف والمخرج على صعيد المساجلات، بل عن طريق احترام حقوق كل منهم للآخر، وان لا يسعى أي منهما لتجريد الاخر من صلاحياته، والتصريح بدلا عنه. ويخطئ من يظن العصمة في ذاته، أو تدفعه نرجسيته ليكون بديلاً عن الجهد الجــــــــــــــــــــــــــمعي الخلاق في العمل المسرحي.


قفوا .. دعوا الضوء يمر ..

 

إلى سادني عصافير الكلمات الشعراء والكتاب الذين طالتهم يد الارهاب
 

جاسم عاصي

لا باب هنا..
ولا باب هناك، هوّن.. كيف تسللت الاصوات..؟
وكيف..
مرت عربات الليل
اصغ فقد مرت عرباتهم
اصغ مليا،
انصت، لا تاخذ نفسا،
اسمع صرير العجلات،
يتسلل كالوخز في الاحشاء
سراعا مروا.. ثقالا مكثوا
اهدأ، لا تنبس
وليسكت فيك الإحساس،
قطعوا منك الراس
ام حزوا الرقبة
لا تنبس،فالكل نيام
أو لاهون ببيت المال
بل يديرون شؤون العامة
في هذي البيداء،
وحيدا تبقى، وحيدا تمكث
فلا صوت غير وجيب القلب
ها هم مروا،
والاحياء...
يلهون أو يدفئهم جحر الكلمات.
لا توقظ نجما، ولا احمد،
لا توقظهما، من دفء القيلولة.
فسلامهمو انقى وابقى
لا تيأس
ضاع الفارس
وغابت اغنية الخيال
واختلط الحابل........
واضطرب الكون
اما انت
فدعهم في دعة، فالازهار شذاها
يتوزع في الوديان
أو في عطفة رصيف،
ينتشر فوق ارض الكتب حروفا
وشموسا،
هي اقدس من كل الاقداس
كي تغدو كلمات الله
أو تولد اسئلة وكلاما شعريا
يحمي الحقل
فالورد يتيم
وشجيرات الآس
ذابلة
من يرفو من بعدك يا نجم قمصان الناس
ويخيط للعشاق اناقتهم.. من..؟
من يحفر على الاجر لمحات الوجه..؟
اللوحة باقية في السر،
في البرية
صوت الله يصيح
لا يسمعه الا الله...!
وها هي الطرق خالية وخاوية
والاماد فراغ،
وصوت يستنطق صخرة
هذا الرأس ، ويقول:
يا من بقي خطأ في تلك الدنيا،
الحذر .. الحذر،
من هذي الدنيا
واياكم ان تلهوا عن نبع الماء
أو حقل الازهار
فحسين قادم الان
وحيدا إلى الكوفة
لا بيعة، ولا جلبة
لا عهد على الاوراق من الناس،
عرف الفارس سر الدنيا
فعاد وحيدا هذي المرة
ليقول:
اياكم والغفلة عن القتلة
والاخوة الاعداء
واياكم ممن يزجي النور بالظلماء
اياكم ممن يستغفل طيب الازهار
ويخفي ما خشن من الاسرار
من يستغفلكم ارموا له في الدرب الاحجار
فالدنيا عثار
اياكم ان تمضي العربات
على غفلة
واياكم ... اياكم،
فهذا وطن منهوب
وهذي ارض سوف تباع
ثم تباح
من جند الله..!
لا احد يقف الان
فالكل نيام يلهون في ....
تسحرهم بهرجة الاسواق
ففي السوق بضاعة للعشاق
وفي السوق طيور وحمام وسراق
الحذر ... الحذر
فالحمة لا تأتي الا من....
والغمة تسري مراوغة
على الزهر
وعلى الورد النعسان
فها هم عبروا.. وهاهم مكثوا،
يصحبهم لغط وصرير .. ورياح وصرير
فانتبهوا،
يالبشاعة هذا الكون
إذا كان الفجر وكان الماء
وكان الكون نقاء وعماء
فمن بعدك يا آبسو ويا تيمات
عبث العابث بالقطعان،
واختل الميزان
ودارت فينا الارض دورتها
واشتد النسيان
لاشيء سيبقى من بعدكما
لوحة لونها الابيض
وبيت من الشعر مولود كي يبقى
ليس هناك سوى القلم والفرشاة
والدهان
فليبحث عن شجن غاب
في النسيان
وعن فرح ينمو ضئيلا ويتيما
دعنا، احمد، ويا نجم
نرسم للاطفال
أو لبراءة هذا الكون
فليرسم كل منا رسما
وعلى الرسم شجون وهموم
وعيون
على الرسم يكون لنا
وطن، أو حجر نبني منه وطنا،
فاللوحة تنبئ باللون الصافي
وبالريح
ولينقى لا تملك ثمنا فالسيد هو الإنسان
ففي الرصاصات وعتاد
بل تملك اصابع اقلام
ودم حبر
فاياكم اياكم يا فلاحي الشعر
وصناع الحرف
اياكم ان تاخذكم فرقة
ويا محبي الكلم اتحدوا
لا تغفل عين الحارس
عمن يفسد فينا الذوق
ويشع البركان
فالسيد هو الإنسان
ففي البدء كان العمر
وفي البدء كان الماء
وفوقهما ترفرف روح الله
ومن فرط محبتهم كان...
الإنسان

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة