هكذا جمعنا ضياء العزاوي في عمان!

هكذا جمعنا ضياء العزاوي في عمان!

معاذ الألوسي

سألني صديق عربي أسكرته في يوم ما مياه الرافدين، مستغرباً: من أين لكم كل هذا الوفاء الذي لا مثيل له لبعضكم البعض؟

في البدء لم أفهم سبب سؤاله هذا لبديهيته، فنحن أحفاد السومريين، لسنا مواطنين هذه الأرض القديمة وحسب، بل ونحن مواطنو فكرة وأسطورة نجتمع عليهما، والاثنان لأسباب مختلفة صنعا دافع الهرب من العسف، والأمل في تحقيق حلم العيش الجميل، والتمسك بطباع إنسانية ليست غريبة عنا على مر الزمن.

نعم لقد غادرنا الوطن، ونحن نعرف أي مأساة عشناها مع شعبنا الصابر، وكم أتلفت الكثير من القيم العراقية الجميلة. لكننا ما نزال نحلم، تحدونا الآمال أن بلاد الرافدين ستعود لأصحابها ومعها ألق المستوطن القديم المنتج والمبدع.

من جديد تذكرت بداهة السؤال والجواب في سياق معرض ضياء العزاوي الكبير في كاليري "كريم" في عمان المضيافة. اجتمع في هذه المناسبة جمع كبير من العراقيين جاؤوا من بلاد الغربة والتغرب مع زملائهم واخوتهم العرب صانعين تظاهرة جمعت ما بين الفن والثقافة والصداقة والمحبة والألفة. لقد بدا الحضور كأننا في عودة إلى بغداد الحبيبة عبر الشقيقة عمان الأردن، لتلتمع في عيوننا جميعا قطع ضياء العزاوي السحرية.

جمعني هذا الحدث بضياء العزاوي الذي تربطني به صداقة عمر، تعزّزت دائماً داخل معتركنا الثقافي والفني الخاص بتمدن ونهضة العراق. لقد عرفت هذا الصديق المنتج في كل مجال ثقافي عراقي زاخر: آثار قديمة، بيوت تراثية، رسم، نحت، فكر وثقافة معاصرة. كان دائما متعدد المواهب، وبالقدر الذي كانت له لمسة خاصة أسميها هويته المميزة، كان الوسط الثقافي يتعرف بإنتاجه الفني على الهوية العراقية التي كان يولدها ويعيد انتاجها بأناقة ومثابرة.

ترجع علاقتي بضياء إلى ما يزيد عن ستين عاما، وقد عرفته دائما مكافحاً من أجل التمدن ورفعة الثقافة.

وكما في كل معرض لضياء العزاوي، فهو يتحول إلى مهرجان فني، وإلى مركز لقاء عراقي – عربي، وتجمع أصدقاء. ذلك هو ديدن ضياء، يحوّل تجمعنا الى حدث، يفهرسه ويصنفه ثقافياً وفنياً، فهو على الدوام يفاجئنا بعمل فني يتصف بالجدة ويثير تساؤلاتنا وخواطرنا. وفي معرض السيراميك هذا قدم ضياء تحفا فنيا، بطريقة عرض مثيرة أسهم فيها، مشكورا، كريم صاحب الكاليري، ودلير المنسق والفاعل الأنيق والموثق، بمطبوع أعدّه وثيقة فنية جميلة جداً جاء على قدر مستوى الحدث، يعوّضنا نحن الحضور/المغترب عما يفوتنا من هروب الزمن في مدينتنا الرحم بغداد.

سألني ذات الصديق، وهو على فكرة بيروتي، يعشق حضارة العراق: هل لازالت بغداد طاردة لأهلها المخلصين المحبين؟

أجبته: لا بأس. فهي ما زالت ملهمة حاضرة، وفي مخاض نتوقع له المفيد والجميل.

لو كان الأمر يعود لمدينتا الفذة، لطردت الدخيل والمستهتر وفاقد الاحترام لتاريخها وأصالتها ورسالتها الإنسانية منذ نشأتها. نحن في الاغتراب لن نكون شهداء زور على فقدان الإنسان العراقي في حقه المكتسب في العيش المميز.

في محاضرة لي في قاعة مزدحمة جدا في كلية العمارة والفنون في الجامعة اللبنانية، سُئلت لماذا لا تعود الى العراق؟

إنكار حق العراقي في العيش الكريم هو سبب خروجي من بلدي سنة 1974، ومن ثم في 1989. إنه فقدان حق الإنسان العادي لحقوقه المكتسبة. هذا لا يستوجب الخروج فقط بل والاستنكار أيضا.

لربما هذا السبب، ذاته لم يعد صديقي ضياء العزاوي إلى العراق منذ خروجه، إلا أنه موجود بقوة وجوداً فكرياً، ووجوداً شعورياً. إنه مستلهم كبير لإرثنا الهائل.

إننا ندور حول بلدنا. إنه دوران معرفي، قريب مما يصفه الجنيد البغدادي بـ "ألم المعرفة"!

أنا من مدمني زيارة المعارض الفنية في جميع أنحاء المعمورة، وأرى أن معرض العزاوي في عمان هو من أحسن المعارض التي حضرتها في حياتي. إنه معرض شامل شمول مسار ضياء الغني فنياً ومعرفياً. بل أسميه معرضا استعادياً حديثاً بمادة الفخارالمزجج بتقنية عالية جدا وبأسلبة في الفخر والتزجيج متنوعة وبعضها فريد، ولربما جُرّب للمرة الأولى.

لماذا استعادي؟ لأنه على الرغم من أن مسيرة ضياء لا تختصر بمعرض واحد، إلا أنه

بدأً بالجدارية الطينية استلهاما لفترة عمله في الآثار العراقية في الستينات، وأيام أساطير المكان، هاروت ووضّاح اليمن في السبعينات، مروراً بفترة المقاومة الفلسطينية في الوثيقة الفنية الاولى " النشيد الجسدي"، وحتى ملحمة صبرا وشاتيلا الجدارية الامهر، ثم فترة التجارب النحتية الجريئة الخارجة عن المنحوت المعتاد.

استعادي نعم. واتساءل: من أين لك الوقت يا أخي العزيز؟ أشك أن من يساعد ضياء هو الاله انكي. هاكم ما أنجزه بفترة قياسية: حجم عمل النحت الأرضي لمدينة الموصل، جدارية حراك ساحة التحرير/ أعمال بحجوم ملحمية تعكس الشمولي الضاغط على كيانه، في متحف "نابو" في انفا المطلة على المتوسط مهد الفن والمعرفة الكنعانية. إنه جهد مستجاب وعمل لا يكل ولا يمل.

ذلكم هو ضياء الذي عرفته، لا يكل ولا يمل، يجمع العالم في محترفه الفني، ويصنع من العالم بتنوعه، بتضاده، باختلافاته، محترفه الفني. إنه أفضل المتسابقين مع الزمن الراكض من أجل اكتساب المزيد من المعرفة، وتقديم المزيد من الأعمال المدهشة التي تضيء دروبنا في هذا الزمن الصعب.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top