اَلْمُهَنـــْدِسُ

اَلْمُهَنـــْدِسُ

د. خالد السلطاني

معمار وأكاديمي

قد لا يعرف كثر "ماجد النهر": المهندس العراقي، والمقاول والباني لابنية عديدة في عموم مدن العراق وبلداته، هو الذي تمر الذكرى السنوية الاولى لوفاته هذة الايام.

والحق ان نشاطه الانشائي ودوره الاعماري هما انعكاس واضحين لما تتمتع به من خصائص متفردة تلك الطبقة المتنورة، التائقة والساعية لمستقبل افضل لها ولوطنها، وأعني بها "الطبقة الوسطى" وممثليها الافذاذ، الذي ينتمي اليهم "ماجد النهر".

معلوم ان نشطاء تلك الطبقة هم الذين بنوا العراق وشيدوا مآثره العمرانية وحققوا انجازاته الاقتصادية وصنعوا مجده الحضاري والثقافي. وقد لا نذهب بعيدا في القول، بان اولئك الممثلين لتلك الطبقة المتنورة والمتعلمة، هم الذين لم يألوا جهداً دوماً في جعل عملهم الخلاق يحدث اثراً ايجابيا لدى فئات واسعة من الناس في بلدهم بغض النظر عن اثنيتهم ومعتقداتهم الدينية والمذهبية واِنْتِمَاءَاتُهم المكانية، بل وان تكون نتائج اعمالهم المنجزة ذاتها من ضمن الوسائل الساعية وراء المساهمة في تقليل الاعباء الثقيلة عن كاهل كثر من مواطنيهم، ما يصنع منها مصدراً اضافياً للشعور بالرضى والفرح والافتخار بانفسهم وبعملهم النافع!

ولد "ماجد كاظم النهر" في الصويرة، احد اقضية <لواء الكوت> "واسط"، في عام 1933، والتحق في كلية الهندسة عام 1950-1951 وتخرج منها مهندسا بنيله شهادة البكالوريوس. واثناء دراسته في كلية الهندسة بباب المعظم ببغداد، فُصل من دراسته سنة واحدة لنشاطه اليساري السياسي. وحالما انهى دراسته الهندسية في عام 1955، خاض المهندس الشاب غمار اعمال خاصة مع شريك له. وكانت باكورة اعمالهما تنفيذ بعض المنشاءات الحكومية في مدينة الكوت. ثم انتقل سريعا مع شريكه الى بغداد التى وجدها بمثابة فضاءً ملائماً لطموحاته التنفيذية واعماله الانشائية. وطيلة عقود عديدة برز ماجد النهر سريعا ضمن المهندسين المقاولين المميزين وعدت اعماله الانشائية العديدة لجهة اتقانها وكفاءتها وكمالها بمثابة مفخرة للنشاط الانشائي العراقي والاضافة المعتبرة لذلك النشاط المهني العالي.

وتعد اعمال تشييد وتنفيذ مشروع مباني دور مدينة الضباط في زيونة بالرصافة وفي اليرموك بكرخ بغداد ايضاً بمطلع الستينات، التى ساهم المهندس الشاب ماجد النهر مع شريكه في تنفيذ اجزاء منها، من الاعمال الاولى والرائدة في سجل هذا المهندس العراقي والمقاول. كانت تلك التجربة الرائدة في انشاء مثل هذا العدد الكبير (وقتها!) من الدور السكنية، وادارة اعمال البناء لها والحرص على ان تكون باعلى مستويات التنفيذ وبوقت قياسي بمثابة تجربة انشائية طليعية، خرج منها ذلك المهندس الشاب بتجارب غنية، اهلته لاحراز نجاحات مرموقة في اعمال مستقبلية اضطلع بها لاحقاً مكتب ماجد النهر وشركائه.

لم تكن تجربة تنفيذ هذا العدد الكبير من المباني في زيونة او في اليرموك، حدثاً عاديا وبسيطاً في حياة ماجد النهر المهنية. فقد تعامل معه المهندس الشاب باهتمام وحرص كبيرين. كما كان من ضمن نتائج ذلك الحدث، وفرة الشهادات التكريمية التى قيلت بحقه وبجدوى عمله، التى لطالما اعتز بها كثيراً مهندسنا القدير، التائق لاحراز نجاحات عديدة ومثمرة في حقل اختصاصه، والذي وضع كل آماله وتطلعاته فيه. فما ورد، خصوصاً، من ثتاء واطراء لافتين له ولزملائه المقاولين في حديث قائد الثورة وقتها: الزعيم عبد الكريم قاسم عند افتتاح مشروع اسكان الضباط في تموز 1960 (الذي كان قد وضع حجر الاساس له في 5 آذار 1959)، استطاع ماجد النهر ان يجعل منه بمثابة دليلا ومؤشراً للسير قدماً في ذلك الطريق المهني الذي اختاره بكل متعلقاته وارتباطاته.

لقد ابانت ممارسة اعمال تنفيذ اسكان الضباط في بغداد عن تجارب جد مهمة ومثمرة سواء لجهة إظهار المقدرة المهنية لماجد النهر، او لناحية التعلم منها ورصد نجاحاتها وتأشير اخفاقاتها لتجاوزها مستقبلا, وكان ذلك باعثا لترسيخ اسمه وشركته في مشهد "سوق" المقاولات التنفيذية العراقية، الامر الذي منحه مكانة معتبرة ضمن زملائه المشتغلين في هذا الحقل الانشائي. ولعل المشاريع المختلفة التى نفذها تباعا في امكنة عديدة من العراق، تشي بنوعية المعرفة والاتقان التنفيذي اللذين ارتبطا باسم هذا المهندس المثابر. وتشهد الاعمال التنفيذية العديدة التى قام بها مكتب ماجد النهر مثل "معمل معجون الطماطة" في بعقوبة، ومصنع في الخالص، ومشروع اسكان وزارة الري في بلد روز، ومشروع ري مندلي، ومشروع توسيع معمل البان ابي غريب، وتنفيذ المفاعل النووي في التويثة، ومشروع تعليب النعمانية، وتنفيذ مركز التدريب المهني في بغداد والكوت، اضافة الى تنفيذ مستشفى الطفل المركزي في الاسكان ببغداد، وغير ذلك من المشاريع التنفيذية المهمة الأخرى والتى ما برحت تشهد بحضورها الجلي في البيئة المبنية المحلية عن اتقان اعمال انشائها وكمال ونظافة تنفيذها.

واذ نشير (ولو سريعاً)،الى نوعية تنفيذ وتشييد مبنى مستشفى الطفل المركزي، فما هذا سوى احد الامثلة العديدة التى اضطلع بتنفيذها مكتب ماجد النهر وبقيت شاهدة، بشكل عام، على حسن وكمال تنفيذها لحين الوقت الحاضر. فالمبنى المصمم من قبل مديرية المباني العامة بوزارة الاسكان والتعمير (المعمار المصمم: د. جبار الدباغ)، احيل الى التنفيذ في بداية الثمانيينات على مكتب المقاول ماجد النهر الذي انهى اعماله التنفيذية في سنة 1985. كان ارتفاع المبنى يصل الى خمسة طوابق عن مستوى الارض الطبيعية. وكان اسلوب فضاءاته المتنوعة والمعقدة في اشكالها وخدماتها كمستشفى رائد في حقل اختصاصه، مثلما كانت اعمال التنفيذ لبعض احيازه ولاسيما طوابق التسوية (السرداب)، تفرض تحدياتها وتتطلب جهدا واضحا ومميزا لجهة اتقان ودقة تنفيذها ولناحية "عدم النضوح" او تسرب المياه الجوفية اليها (وهي مشكلة انشائية وتنفيذية تكاد تكون عامة، تعاني منها غالبية المباني ذات الطوابق الموجودة في التسوية!)، وغير ذلك من التحديات الأخرى الواجبة مجابهتها والتغلب عليها انشائيا. وفي الاخير، فاننا ازاء "صرح" انشائي مهم ولافت ليس فقط بسبب ارتفاعه العالي نسبة الى مجاوراته وانما، ايضا، بباعث دقة التنفيذ وكمال التفاصيل ونظافة البناء. ولا يزال سكنة بغداد لحين الوقت الحاضر يستدلون على بعض مناطقهم من خلال استحضار "مشهد" <مبنى المستشفى الطفل> وذلك بسبب خواصه المميزة العديدة!

كان ماجد النهر يعي جيداً، ومن خلال تجربته الشخصية الطويلة في حقل الانشاء والتعمير، بأن "تصنيع" و <اتمتة> العمل الانشائي، ولو في جانب واحد من جوانبه العديدة، سيكون امراً نافعاً يعود بفائدة كبرى على أنشطة تنفيذ المباني، وتحسين نوعيتها وبلوغ متانة عالية لها، فضلاً على تقصير مدد انجاز تلك الاعمال واختصارها، مما حدا به الى التفكير بجدية عن امكانية تأسيس "مصنع" لانتاج وحدات خرسانية جاهزة، موفراً للنشاط الانشائي المحلي امكانات ملموسة في تسريع العمل التنفيذي والوصول به الى مستويات ادائية عاليه. وهو الامر الذي استطاع مؤخرا تحقيقه مع شركائه عندما تم الاتفاق على تأسيس مثل هذا المعمل والذي دعي وقتها بـ "شركة الرافدين للخرسانة الجاهزة"، وكان من حيث الحجم والانتاج الثاني في عموم البلاد. وبهذا التأسيس ومن ثم الانتاج الواسع لوحداته المختلفة، استطاع ماجد النهر ان يكون من ضمن رواد حركة التصنيع الانشائي العراقي، وظهور الوحدات مسبقة الصنع واستخداماتها العديدة في الفعالية الانشائية المحلية.

طيلة مسار عمله الدؤوب والمنتج كأحد المهندسين البارعين، والمنفذ لمختلف المباني المشيدة بدرجة عالية من الاتقان والكفاءة في انحاء عديدة من وطنه العراق، بقى ماجد النهر وفيا لارائه التقدمية، معترفاً بفضل كثر من العاملين معه في مشاركتهم بعملهم المقدر من قبله، في انتاج هذا الكم الواسع من المباني والمنشاءات. ولطالما سمعت منه شخصياً اثناء زياراتي المتكررة الى مكتبه الانشائي الواقع في باب الشرقي ببغداد، بان ما تم تحقيقه من اعمال انشائية لافتة، يعود اساساً الى اخلاص وتفانٍ كثير من شركائه وعماله ذوي الحرفية العالية في مجال عملهم: (لنا..ولعمالنا!)، كان شعار ورمز تلك <التشاركية> التى يؤمن بها ماجد النهر من ان مكسب إنتاج عملهم المضني ومنافعه سيعودان، في النتيجة، بالخير والفائدة عليه وعلى شركائه، مثلما يعود ذلك المكسب وتلك المنفعة بالخير والفائدة الى "..عماله" المنفذين.. ايضاً!

في عمان بالاردن، حيث استقر مقيماً ماجد النهر، حاله حال كثير من نشطاء وممثلي تلك الفئة المهنية المتنورة: نساء ورجال الطبقة الوسطى، بعيدا عن وطنه الذي احبه وساهم في اعماره وتقدمه. فقد كان خروجه من بلده، امراً غاية في الصعوبة بالنسبة اليه وبالنسبة الي عائلته، اذ كان قرار المغادرة قراراً عسيرا وقاسيا. فانت في هذة الحالة عليك ان تترك بيتك ووطنك وكل ما جاهدت به وعملت من اجله طيلة سنين حياتك وتذهب الى المجهول، بعد ان ضيّق الخناق النظام المقبور، في تسيده واستحواذه على كل مناحي الحياة ومجالات العمل، مغلقاً جميع الابواب امام غالبية ابناء وبنات العراق محيلاً عملهم ونشاطهم المثمر والمفيد للبلد الى ما يشبه "المطبات" التى عندها يوقف المرء ويُسئل الواحد منهم عن امور قد لا تخطر على بالهم، ارهاباً لهم وجوراً عليهم.

وعندما حصل التغيير في بداية الالفية استبشر كثير من الناس به، واجدين فيه املا واعدا في تطوير العراق وازدهاره والنهوض من كبوته. بيد ان تلك الاماني المنشودة والمرتجاة سرعان ما تبخرت بتكالب "سراق" تلك الاهداف الواعدة واستحواذهم على كل شئ، بقوة السلاح مرة وبابتزازات مفضوحة مرة أخرى، مستعيتين بسطوة الاجنبي الراغب للتمسك بمصائر بلدهم وطمس آماله بالعيش الرغيد والحكيم. كل ذلك اوجد ظروفا مستجدة وقاهرة، جعلت من "عودة" غالبية العراقيين الى بلدهم للمساهمة في اعماره وتقدمة، امرا متعذرا وغير ممكن. وبالتالي لم يستطع ماجد النهر، التائق للرجوع الى بلده والمشاركة في نهضته وتطوره، (مثلما لم يستطع كثر من امثاله يشاركونه تلك الآمال والاهداف) من "العودة" الى بلدهم. وبقى يعاني ويتألم لما يسمع ولما يرد اليه من اخبار تصف مآلات وطنه والوضع السئ الذي وجد نفسه فيه، من دون حضور ومشاركة مواطنية الشرفاء ووجودهم فيه: المعنيين الحقيقين في ازدهار ونمو بلدهم!

وحينما كنت ازوره مراراً في شقته العمانية، كان حديثه دوما يدور حول اوضاع العراق والبحث عن وسائل يمكن بها المشاركة في تسريع تقدمه ونهضته ولاسيما في الجانب الانشائي الذي يعرف ماجد النهر مشاكله وقضاياه معرفة عميقة وشاملة. وظل حلم "العودة" الى وطنه يرافقه ويرافق احاديثه الكثيرة التى سمعتها منه، هو الذي يقي طيلة اعوامه الاخيرة قبل مرضه الاخير، مسكوناً في كيفية المساهمة بتحسين احوال بلده ووضع الحلول المناسبة للارتقاء به وبازدهاره!

له الذكر الطيب والعطر!

تعليقات الزوار

  • Sadiq m. Almashhadany

    رحمه الله برحمته الواسعة وأسكنه فسيح جناته أنسان فذ لايتكرر وقدوة لمن يتطلع للنجاح والرقي نعم الجار هو وعائلته الكريمة

  • Raad Alshaikhly

    الله يرحمه كان كان مهندس فذ علم واخلاق وعلم من اعلام الهندسة والمقاولات في العراق

  • نجاح العجيلي ابن خال الفقيد

    من عائله معروفه علميآ وعمليا في العراق الصويره رحمه الله وسكنه فسيح جناته

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top