الجدار : قراءة اجتماعية

الجدار : قراءة اجتماعية

لاهاي عبد الحسين

هذه قراءة اجتماعية في رواية "الجدار" للدكتور ناجي التكريتي الصادرة عن دار الشؤون الثقافية في العراق عام 1998. تقع الرواية في 179 صفحة من القطع المتوسط، وقدم لها الدكتور علي جواد الطاهر واصفاً إياها بأنها "رواية إبداعية، لم تكتب على سابق مثال". وعلق عليها د سعيد عدنان بأنها "رواية من الأدب الفلسفي الرفيع".

ينسج فيها الروائي على حكاية "حي بن يقظان"، لابن طفيل إنما ليس بدءً من الولادة فالممات بل من مرحلة الشباب لإنسان يحاول أنْ يشق طريقة في الحياة. وفيها نطلع على ملامح من فلسفة الكاتب وموقفه من الحياة. بطل الرواية مقاتل عنيد، ورجل طموح. إنه مترفع، وزاهد حد النهاية. يتراءى لقارئه كما لو كان يمسك بمشرط من حديد يقص به عواطفه، ويميت رغباته الحسية سعياً للوصول إلى الهدف النهائي الذي عزم عليه، والذي يتمثل بصورة مجازية للوصول إلى قمة جبل تعانق السماء. لا نعرف لبطل الرواية الواحد الأحد اسماً أو كنية، ولا حتى وصفاً مادياً تجسيدياً من نوع ما. ربما كان للكاتب مقصداً في حجب اسم البطل وخصائصه الشخصية. أراد من القارئ أنْ يعمم نموذج البطل هذا ليصبح ممكناً أنْ يطلق على الإنسان، أي إنسان. كان لزاماً على بطل الرواية الذي نعرف جنسه كونه ذكر أنْ يجتاز الموانع والعقبات، ويخوض بصراعات ذاتية داخلية، وأخرى مما تقذف به الطبيعة إليه لتختبر صبره وقوته ومدى تمسكه بهدفه.

تصدرت الرواية عدد من القضايا أهمها وأولها أنّ للبطل هدف صعب يروم الوصول إليه. يتمثل هذا الهدف بالوصول إلى قمة الجبل. يصل البطل بالنهاية إلى هدفه ويقف منتصباً على قمة الجبل ولكنه حتى يفعل ذلك يلاقي المشقات والمتاعب ويضطر لقتل الغول، وتقطع ذراعه، ويجوع، ويشقى، ويعاني الحرمان. يشبّه قمة الجبل التي يستقتل للوصول إليها بالعاشقة الثائرة "التي نفرت من الأرض فتعالت كي تقبل أستار السماء". الرواية تحكي قصة إنسان لا يحب الفشل، ولا يستسيغه. إنسان يعلم أنّ السكون والامتناع عن الحركة هو الذي يقود إلى الفشل، لا محالة.

يؤمن بالحياة المادية التي عبر عنها بـ "الحقيقية" مما تتمثل بالجسد وحاجاته الأساسية، ولكنه أيضاً يؤمن بقوة الروح والنفس. يعلي الكاتب من أمر العقل والتعقل الذي يتوجب على الإنسان أنْ يختار بموجبه طريقه متعقلاً إياه هو وحده غير معتمد على أحد أو مستجيب لمن يحاول أنْ يملي عليك. إنه لا يتبع وصفة أحد، أو تجربة أحد. يتأمل بالقبور الدارسة ويلفته شاهد يقول: هذه نهاية من وثق بالآخرين واعتمد عليهم فكان أنْ لفه العدم.

تحكم نمط تفكير البطل ثنائيات متعددة فهو ينشغل بالحياة والموت؛ الخير والشر؛ الرضا والسخط؛ الشجاعة والخوف؛ اللوم والتشجيع؛ التشاؤم والتفاؤل؛ الجمال والقبح؛ الرخاء والشدة؛ الندم والإصرار؛ الحركة والسكون؛ الشقاء والسعادة، إلخ. تنطوي الحياة عنده على كل هذا. يتبين الطبيعة الاجتماعية للحياة ويقول مخاطباً نفسه: أنت محكوم عليك بقيد الألفة، وإلا فالويل لك من رمال الصحراء". ينظر إلى هؤلاء الذين اتخذوا من الحياة موقفاً لا أبالياً فنسوا أنفسهم، وصاروا "مداساً لكل عابر سبيل".

ويرصد صورة الحاكم المستبد فيراه بصورة فرد متجبر يجلس على كرسي مرصع بالعاج والذهب والماس والمرمر. يشير فينتبهون. يتكلم فيسمعون. يومئ فيطأطؤون له الرؤوس. يصيح البطل بهم ما لكم تبقون جياعاً كي تطعموا فرداً، وتعرون كي تكسوا واحداً، وتسيرون حفاة كي ينتعل شخص. يضيع صوته، ويستمر الناس في غيهم غير آبهين. ويضرب مثلاً آخر إذ يصعد أحدهم فما أنْ يبلغ مبلغاً "حتى بدأ يدوس بشدة على أكتاف الآخرين". بالنتيجة، صاروا جميعاً "تحت رحمة الطوفان". ويعود ليتتبع كيفية ظهور المستبد. يقف خطيب مفوه يعد الناس بما يحلمون به ويتطلعون إليه، وينهي خطابه بالسؤال: هل أنتم معي! ويأتيه الجواب: نعم، نحن معك. ينزل الخطيب المفوه من المنصة فيعترض طريقه شخص آخر، يبادره بضربة تشق بدنه إلى نصفين بآلة حادة. يلتفت القاتل إلى الناس وكأنه يبرر فعلته، ويقول بصوت مرتفع: خائن. إنه خائن. يستبد بالناس القلق فيصعد القاتل على المنصة ليرفع سقف الوعود في خطبة أشد رنيناً وبهرجة. ثم يتوجه إلى الجمع الذي يقف بذهول ويسأل: هل أنتم معي! يقولون: نعم. وهكذا تستأنف دورة الاستبداد حركتها مستفيدة من جمع ساكن، خانع وخائف. لقد صنعوا الديناصور بأنفسهم، بسكوتهم، وتبعيتهم، وتزلفهم الذليل.

يعبر الكاتب على لسان البطل عن جانب من موقفه السياسي إذ يرى أنّ الغرب يسرق الشرق كي يتزين الناس هناك "بقلائد الذهب واللؤلؤ، بينما يموت الذين استخرجوها بشق الأنفس في بلدان مشارق الشمس، ألف مرة كل يوم.. .". وينظر إلى الزمن وفق تسلسله الاعتيادي الذي يتمثل في الماضي والحاضر والمستقبل، ولكنه يعطي أوزاناً مختلفة لكل منها. يعتبر الماضي أساس الحاضر، ويؤكد على أهمية الحاضر ليكون جسراً للمستقبل. الويل لمن لا يمتلك "قاعدة متينة ينطلق منها بعزم وصمود". الماضي هو "مركز الثقل" لتحقيق هذه القاعدة. أما المستقبل فهو تلك الغمامة ذات "الغلالة الفضية" التي تبتسم على الدوام.

يشبّه المرأة بالجبل الذي يتعالى ليقبل جبين السماء. المرأة عنده "الغزالة"، التي ظهرت في مكان ما بعينيها النجلاوين وقامتها الهيفاء. يعبر من خلال تأملها عن تعلقه بها، واستجابتها له، ولكنه يعزف عن الاقتراب منها رغم تيقنه من ارتياحها له. يدرك أنها جميلة، وأنها تتوقع أنْ يهفو إليها، ولكن تعلقه بالهدف الذي عزم على تحقيقه يقف دون أنْ يخطو مقترباً منها. ولكنه يأسف لتخليه عنها. حبيبته التي لم تمتد يد إليها. إنها نقية شغوفة وحنون، ويدرك بنظرته وتكوينه الذكوري أنها لن تدن منه، ويردد بينه وبين نفسه: هل رأيت صيداً يهجم على الصياد؟ يقاوم لهفة قلبه ويقول: لا. وتغيب "الغزالة"، ولكنها تعود لذاكرته عندما يراها تقاوم الموج، والريح، والمطر، ويتمنى لو أنه استطاع أنْ يمد يده إليها. ولكن روحه تأبى رغم جزعه ممن يشتت القلوب ويحطم الآمال، ويجرف أعشاش العاشقين. وتعود "الغزالة" إليه طيفاً لا يقبل الرحيل "ليريح ويستريح". ويقلّب الأمر ذات اليمين، وذات الشمال فيتصور أنها ربما كانت بحاجة إليه، ولكنه لم يسعفها أو يبادر إليها. ويقع نهب اللوم الذاتي، ويندم لتفريطه بها. يخاطب نفسه ليقول إنّ تلك واحدة من طباعه الأزلية: أنْ يفرط بما كان يمكن أنْ يكون سنداً له. فهو أسير ثنائية "أنْ يريد، ولا يريد". وتبقى "الغزالة"، تثير في نفسه شعوراً بالمرارة والأسى الذي يأكل من جرف خاطره بدل أنْ تكون محط راحة، واستراحة، واطمئنان. يتمنى لو أنه لمحها من جديد لكان قد انحنى لها "بإجلال وخشوع". وهذه العصا التي يتوكأ عليها يصفها بأنها "رفيقة الدرب".

يشكل الشعور بالخيبة والمرارة احدى أحجار الزاوية في رواية "الجدار". فهو يتأسى على من مد لهم يد العون، وأوصلهم، ولكنهم قلبوا له ظهر المجن. قابلوا احسانه بالجحود ونكران الجميل. ويتساءل هل يعقل أنْ يكون الإنسان جحوداً حاقداً بهذا القدر!

يولي الرقم سبعة اهتماماً كبيراً فهو "سبع وسبع أضفها لسبع"، في مسيرة التعب والمعاناة والمكابدة. وينظر إلى السماء ويرى كيف أنّ كل نجم فيها يختط طريقاً لا يحيد عنه لأنه محكوم بفلك معلوم. وكذلك هو في حياته. ويرسم دائرة يدور في فلكها. يدرك أنّه "جزء من كل"، ولكن الكل يعرف سره. لا يفصل بينهما بل يرسم صلة محكمة فكأنه بهذا يطرح جدل "الفرد والبنية الاجتماعية". من ذا الذي يأتي أولاً، ومن ذا الذي يملك تأثيراً أكبر في صيرورة الآخر! تبقى هذه من القضايا غير المحلولة رغم ثقته بدوره وارادته وعزمه لتسلق الجبل وصولاً إلى قمته. يبدو الفرد هنا في مواجهة البنية الاجتماعية "مقيد دون قيد، ومطوق دون طوق". يظهر الجدار في هذه الرواية بصيغة الظهير الاجتماعي الذي لا يسمع، ولا يريد أنْ يسمع. ظهير قاسي صلد يقف حائلاً دون أنْ يواصل البطل رحلته الطويلة لبلوغ القمة. ولكنه عندما يصر على مواصلة الرحلة يرى كيف أنّ أحجار الجدار بدأت تتهاوى من الجانبين حتى يسقط كله، ويمكنه ذلك من اختراقه لمواصلة دربه.

الحياة بنظره تسير وفق منظومة "لولبية"، وليس خطاً مستقيماً، ولهذا فإنّ عليه ألا يتوقع مساراً سهلاً. ستواجهه العقبات والمسالك المتعرجة والصخور الصلبة والوهاد العميقة. عليه بالنهاية أنْ يواصل سعيه وإنْ جاع وعطش، واصطدم بالغيلان، وتقاتل مع الوحوش. ذلك جزء من طبيعة الحياة التي وجد نفسه في خضمها. يقاوم السكون، وعدم الحركة ويقرنها باللاشيء ولكنه عندما يتحرك ويواصل طريقه يصبح "شيئاً" محسوساً، وملموساً. يبث في نفسه قوة الحياة ويحاذر من العدم عندما يفشل في "البقاء".

يصنف الموتى إلى صنفين. منهم من نسى أمره، وصار نسياً منسيا، ومنهم من غرته الحياة الدنيا، ومنهم من سلم أمره للغير فكان أنْ صار ضحية لهم. وهناك من اكتفى بالأحلام ولم يسع لقوت يومه، أو تخلف عن الركب فلم يلتفت إليه أحد. أما الصنف الثاني فذاك الذي ترك ذكراً حسناً لأنه لم يسمح لملذات الحياة بأنْ تغره بصيغة مال أو عقار. ومنهم من سعى في حياته غير سائل حمداً أو شكورا.

لا يحب القتل ولا يألفه حتى ولا للحيوان ولكنه قتل الغول عندما انتصب يريد قتله. وعاد يفكر بما حصل، ويبرر لنفسه أنه دافع عن حقه في الحياة. يرضى بما يسد حاجته وإنْ كان بإمكانه قطف المزيد. يتساءل أليس من السيء أنْ يموت الإنسان من البطنة فيما يئن آخر من الجوع! يخاطب ذلك الشخص الذين يشعر بالجزع من الحياة حد أنْ يفكر بالانتحار. يقول له: ستعود إلى العدم إذا ما أقدمت على الانتحار، ولن يهتم بك أحد. ستكون الخاسر الوحيد من حيث أنّ أمرك لا يهم الناس. سينحدر بك الانتحار إلى "قبر دامس وظنين". تستبدل فيه الوجود بالعدم، إذا ما فعلت ذلك.

إنها رواية لمن يبحث عن نص فلسفي أدبي رفيع تسلب لبّ قارئها وتشده إليها حتى السطر الأخير. إنها لمن يريد أنْ يقرأ بعناية وصبر متذوقاً لغتها العربية الرفيعة من حيث القواعد والاسلوب والرؤية. رؤية كاتب وضع فيها عصارة عمر زاخر بالتجارب والتحديات. كاتب وجد نفسه في هذا المجتمع فأحبه وغضب منه وعاد ليساهم برفع شبيبته كيما يتهاونوا أو يفزعوا أو يهنوا. رواية ليس من السهل النسج عليها.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top