لا تطفئ فانوسنا الأخيــــر يا ناظــم عــــودة

Sunday 21st of October 2012 04:59:00 PM ,
العدد : 2629
الصفحة : آراء وأفكار ,

 لم أقرأ ما كتبه عنّي الصديق العزيز ناظم عودة على صفحته في فيس بوك، لأني قلما أفتح واجهتي الفضية تلك،ذلك لأنني منشغل بأفراحي طوال اليوم،وأكتفي بما أشار له الصديق سرمد الطائي في عموده بجريدة المدى،الأربعاء 17 تشرين الأول الجاري،والذي علمت من خلاله بأن عودة وصفني بالمنافق،وهي كلمة قاسية منه بحقي والله ،وأحزنني أنه قائلها،أحزنني أنَّ ناظما لم يستعر رقبة بعير علي بن أبي طالب،وهو العارف .ترى كيف ينظر مثقف متحضر،أستاذ وناقد كبير بحجم د.عودة إلى قضية مفصلية في ثقافتنا العراقية،ألا وهي قبول ورفض الآخر،أي آخر،ولا أظن أن شاعرا كبيرا مثل سامي مهدي موضع اختلاف لدى كثير منا،أو ليكن موضع اختلاف ،لا بأس،كما لا أعتقد بأن مسألة  قبوله ورفضه تشكل قضية  محورية في ثقافتنا اليوم،ولا أحسب أن العزيز عودة جال في ظنه بأني إنما أتقرب من سامي لأمر ما،فانا ومنذ سنوات عشر أو أكثر في بحبوحة من العيش قد يحسدني مهدي وغيره عليها،فأنا أحيا حرا،كريما،آمنا في داري،أكتب ما أشاء في الصحف والمجلات ،أتنقل بين المدن وأبيت في الفنادق وأسافر،أطوي الأرض، عندي رصيد في المصرف،وأسكن بيتا معتبرا ،أملك بستانا كبيرا،على ضفة نهر جميل، ولي صداقات واسعة،مع المحافظ ورئيس المجلس وضباط كبار في الشرطة والجيش،شخصيات برلمانية ،ولو رمتُ أمرا ما فلن أجد صعوبة بالغة في الحصول عليه،كما أني لن أكون بحاجة لوساطة العزيز الشاعر سامي مهدي هنا،فهو أضعف من أن يقدم لي شيئا اليوم مع تقديري وحبي لشخصه الكريم.ترى،لماذا أنا منافق؟هل آمل بعودة البعثيين للعراق ثانية،وأنا ،بشهادة الجميع أول من كتب قصيدة ضدهم،هل أذكرك أخي ناظم بقولي:"إن لأسمائكم طعم الضفادع الميتة في فمي"طبعا لم يرد سامي ضمن قائمة الأسماء تلك،لعلمي بأنه أكبر من أن يكون شاعرا بعثيَّا،هو شاعر عراقي كبير.
بحثتُ في واجهات الأصدقاء عن تفاصيل أخرَ خاصة بما قاله الصديق عودة فلم أعثر،أعتقد أن ضعف الانترنيت عندي حال دون قراءة ما كتبه،لكني وحين تفتحت واجهته على شاشة حاسبتي فوجئت بصورته الجميلة،بوقوفه الرائع ،متأملا البحر وسفنه ،،قبعته الفرنجية تضيف لطلته أناقة من مكث طويلا في الغرب،ثيابه ،نظرته للأشياء،المكان الجميل هذا وكل ما حوله كان منسجما مع وقوفه وتأمله لحركة الشارع والناس.. ثم قلت في سرّي :ترى ألم تقل العرب ذات يوم (المكان بالمكين)؟ ترى لماذا لم يعلمنا ناظم، من منفاه درسا جديدا في التسامح والغفران والعفو؟ وهو العارف بيننا،ولماذا تظل لغة النفي قائمة في قواميسنا ؟ أو أما آن لنا أن نفكر بمستقبلنا الثقافي بعيدا عن لغة النفاق والشقاق وسوء الأخلاق،أتظل صحراؤنا فينا إلى الأبد؟ وما الذي سنجنيه من بغضائنا غير الدم والخراب ؟بل ما الذي يمكّننا من دخول العالم إن كنّا نتعامل مع الذين يشتغلون بالوعي والأحاسيس والمدارك -والذين سامي منهم بكل  تأكيد- بهذه اللغة القاسية، الكريهة، الطاعنة في البغضاء،لا يا صديقي ناظم،كنت قاسيا معي،وما أنصفتني،أنا فلاح الكلمات الخضر،راعي سهول الأبدية.
  ولأترك كلمة الصديق ناظم عودة جانبا وأتحدث عن أزمتنا الثقافية وثقافتنا المتأزمة،بعد أكثر من عقد على سقوط النظام البعثي،النظام الذي عليه ما عليه ،بتعبير المتشددين(حكامنا الجدد) الذين أعادوا إنتاج حياتنا على غير ما نرغب،وأسسوا داخل عقولنا الثقافية ما لا يجب أن نهتدي به،ذلك لأن المتغير الكلي من حولنا لا يسمح بترسيخ مبدأ الطرد والنفي والإقصاء،القضية التي انطلقت من مبدأ الحلال والحرام ،لتدخل خياراتنا في العيش المتجاور،الذي منه تغليب التسامح والقبول بالآخر وطي الماضي والصيرورة إلى ما العالم عليه،لأننا الجزء الحيوي فيه،ولأن الشعر والفنون عامة وقضية الثقافة بشكل أعم هي خيارنا الأخير في بناء عراق جدد بمعنى الكلمة،عراق خال من عقد الماضي،متطلع لكل ما هو إنساني ونبيل،ولا أظن أن الصديق العزيز ناظم عوده يخالفني الرأي هنا،فهو ،وبحسب ظني أكبر من أن أذكره بمبادئ مثل هذه،غير أني أعتقد،غير جازم بأن اللفظ خانه،وقد يكبو مَهرُ العارف.
أعتقد بأن ثقافتنا العراقية بحاجة لمراجعة حصيفة يقوم بها نفر منا،نحن المثقفين كي نقلل من خساراتنا الكثيرة،فبسبب من ترد في أوضاعنا السياسية- الأمنية- والطائفية حتى  خسرنا حضور شاعر كبير اسمه سعدي يوسف،وطوينا صفحة شاعر كبير أيضا اسمه يوسف الصائغ،وكذلك الحال خرج من قاموسنا كاتب كبير اسمه موسى كريدي،وفنان كبير اسمه خالد الرحال وملحن مبدع اسمه فاروق هلال ،ولولا كرهي لقصائده التي قالها بحق صدام حسين وقادسيته القذرة لقلت عبد الرزاق عبد الواحد .وهناك قائمة طويلة وطويلة جدا من مبدعين عراقيين أهملنا ذكرهم ،للأسباب تلك .وهذا ما لا يوجد في ثقافة أمم غيرنا،إذ لم يخرج إزرا باوند من أهميته في الأدب الإنكليزي،وهو المعروف بموقفه من النازية ،ولم يمتنع المصريون عن تقديم نجيب محفوظ كرمز كبير، وهو الذي بارك كامب ديفيد،بل لم يتخل الكويتيون عن سعاد الصباح وهي التي مجدت حرب صدام حسين .وهناك العشرات من الأمثلة.من هذه وتلك أرى أننا بحاجة لمراجعة حقيقية ،نقف فيها أمام أنفسنا،غير منساقين لأحد،نقف صادقين،غير خائفين ولا وجلين من أحد ،نقف مع كل ما يؤسس لثقافتنا العراقية العظيمة مستبعدين كل ما هو غير حضاري وثقافي،لأن ثقافتنا فانوسنا الأخير في وجه من يجرنا للظلام.