هكذا ولد بيت الحداثة

Friday 27th of February 2015 05:51:00 AM ,
العدد : 3299
الصفحة : تشكيل وعمارة ,

مراجعة لـ(مئة عام من عمارة الحداثة)  للدكتور خالد السلطاني    الجزء الثاني   " كيف تشكّلت حياتنا الحديثة ؟ كيف تم اختراع بيوتنا ومدارسنا ومؤسساتنا الخدمية وأسواقنا الحديثة وأماكن عملنا ؟ ، ما هو عمر تصميم نمط حياتنا الجديدة ال

مراجعة لـ(مئة عام من عمارة الحداثة)  للدكتور خالد السلطاني 

 

الجزء الثاني

 

" كيف تشكّلت حياتنا الحديثة ؟ كيف تم اختراع بيوتنا ومدارسنا ومؤسساتنا الخدمية وأسواقنا الحديثة وأماكن عملنا ؟ ، ما هو عمر تصميم نمط حياتنا الجديدة التي ولدنا داخلها ؟ كيف خرج الإنسان المعاصر للوجود ليعيش في بيئة وظيفية وجمالية مغايرة لم تألفها البشرية في تاريخها الطويل ؟ هل صنع الإنسان الحديث عمارته التي تناسب مزاجه ، أم أن العمارة الحديثة ( عمارة الحداثة ) هي التي تدخلت في صنع هذا المزاج؟" 
بعد رحلته المشوقة في تتبع الجذور الاولى لعمارة الحداثة في طفولتها ومتابعتها في المدن التي شهدت اولى إرهاصاتها ، واهم الشخصيات المعمارية والمدارس التي ساهمت بترسيخ توجهاتها ، يأخذنا الدكتور خالد السلطاني في الفصل الثالث من كتابه الى المفهومات الحداثية في العمارة ، ونزوعها العالمي بعيدا عن تجذيرها على ارض بعينها ، عبر قراءة الاتجاهات الفنية التي ولدت بعد الحرب العالمية الثانية ، حيث بدأ تعنت مؤيدي العمارة التقليدية بالتلاشي امام موجات عمارة الحداثة وأساليبها التي لم تعد غريبة وصادمة كما هو حالها في السابق.

 

- اتاح انتشار اُسلوب التصنيع في البناء والإنتاج الآلي للعناصر الانشائية الذي ترسخ بعد نهاية هذه الحرب مرونة عالية في التسقيف والامتداد الأفقي عبر انتاج تشكيلات متنوعة من مواد البناء كالحبال والاوتاد الفولاذية والألواح الزجاجية الكبيرة الحجم و المضادة لاشعة الشمس ومساقطها الحرارية والكثير من المواد التي أغنت المعالجات التكوينية ، الامر الذي اصبحت معه بعض الحلول المعقدة أمرا يسيرا ساهم في تبسيط الأشكال واختزالها ، كما أتاح ذلك إمكانية استخدام الوحدات القياسية كموديل ، لبلوغ تلك الدقة المتناهية في البناء ، وتحصيل نوع من تكاملية انتاج جميع عناصر المبنى .

مبنى الأمم المتحدة في نيويورك
حسنا ذهب بنا المؤلف في مفتتح هذا الفصل الى قراءة منتجات التيار الوظيفي ، وكان موفقا بشكل كبير في اختيار مبنى الامم المتحدة كنموذج لهذا التيار ، اولا للدلالة على عالمية الاتجاهات التي ترسخت بعد الحرب الكونية الثانية ، والتي تمثلها رمزية هذا المبنى الاممي ، وثانيا لان مدينة نيويورك التي ضيّفت هذا المبنى ، أضحت ملتقى لخيرة المعماريين الذين هجروا بلدانهم نتيجة صعود الأنظمة الشمولية في بلدانهم وغيرهم من المعماريين الباحثين عن فضاءات عمل اكثر حرية ومرونة . 
- ترأس المعمار الاميركي والس هاريسون مجموعة المصممين العالميين وفي مقدمتهم الفرنسي لوكوربوزيه والبرازيلي أوسكار نيماير والبولندي نوفيتسكي وسواهم لتصميم المبنى الاممي . فقد وضع هؤلاء العمالقة نصب اعينهم ضرورة تبني مفهومات عمارة الحداثة بعيدا عن الاطرزة التقليدية ، التي طبعت المباني الرسمية من تلك التي درجت عمارة الباروك على تبنيها في سبيل المثال ، حيث جرى الاتفاق على مبادئ العمارة الحديثة حصرا ، والتي تتخلص بتبني المخطط الحر ، وتقطيع المساحة الى أقسام منفصلة ، واعتماد المنهج الوظيفي كمرجع للمعالجات التكوينية والتقنية ، بالاضافة الى التاكيد على بساطة وهندسية الشكل ، والاستخدام الواسع للتراكيب الانشائية المعاصرة .
و نظرا لان مكتب السكرتارية هو الفضاء الوظيفي الاكثر ثقلا في مبنى الامم المتحدة فقد جرى اعتماده كمركز أساسي تؤسس حوله بقية اجزاءالمبنى ، وهذه هي نواة المركزية في التصميم الوظيفي الذي يتبناه المصممون .
المهاجرون الالمان : ميس فان دير رو ، النظرية وتطبيقاتها
كما أسلفنا في الجزء الاول من هذه المراجعة ، فان هجرة المعماريين الالمان هربا من جحيم النازية واستقرارهم في الولايات المتحدة كتدريسيين في اهم المعاهد الاميركية ، افاد كثيرا في ترسيخ تجاربهم وانتشارها عالميا ، بالاضافة الى تمكنهم من خلق اتباع وتلاميذ موهوبين ومخلصين للمنطلقات النظرية التي يتبناها أساتذتهم . فمن خلال ترؤسه لقسم العمارة في معهد إلينوي التكنولوجي ، استطاع "ميس فان دير رو " ان يؤطر نظريته التي تذهب الى ان المعرفة الدقيقة والإحاطة الكاملة بالتراكيب الانشائية النابعة من خواص المواد الجوهرية هو أس العملية التعليمية وجوهرها في مجال دراسة العمارة . 
و انطلاقا من هذه النظرية الأولية ومن منظومته الفكرية الشاملة ، نستطيع ان نتفحص منجزه المعماري بخاصة مبنى قسم العمارة ذاته ، الذي تم الانتهاء منه عام 1956 حيث عدّ في حينه معلما عالميا للعمارة الحديثة بوصفها البساطة المتناهية ، التي جسدت قيما جمالية جديدة وأصيلة نتيجة توظيفه الفضاء الشامل ، مستفيدا من تكنولوجيات صناعة المواد ، التي وفرت حرية عالية في تأسيس هكذا فضاء ، ثم العمل على تقطيع هذا الفضاء وظيفيا عبر استخدام جدران واطئة ومتحركة . هذا الأسلوب الجريء الذي يكاد يطبع كل منجزات "ميس " المعمارية ، بما فيها البيت الريفي الشهير آلذي حرص فيه ميس على ابعاد نسيجه عن الاندماج مع الطبيعة المحيطة في تصور وظيفي جديد مغاير لما كان يعمل عليه فرانك لويد رايت في بيت الشلالات مثلا . 
ان الدكتور خالد اكتفى هنا بهذه الإشارة المحايدة ذات الصِّلة بالعمارة ومحيطها ، مستشهدا بوصف غير موفق لأحد النقاد في علاقة المبنى وخضوعه لاشتراطات بيئته ، التي طالما كان الدكتور يؤكد عليها في مناسبات متعددة ، ان علاقة المنشأ المعماري بمحيطه برأيي الشخصي هي ليست كعلاقة السيارة التي توقفت صدفة في غابة كما يصف هذا الناقد ، ان السيارة هي طارئ عرضي مؤقت على المكان ، يختلف جوهريا عن وجود عمارة بعمر افتراضي طويل يقطنها بشر تفرض عليهم البيئة شروطها الكاملة .
- ليست مقترحات ميس التكوينية التي ظهرت على منجزه المعماري الثر والتي تمثلت بشواخص معمارية عديدة في مقدمتها الأبراج السكنية في شيكاغو وسيغرام بلدنغ في نيويورك هي اهم منجزات هذا المعمار البارع فحسب ، بل ان عقلانيته وتوظيفه الدائم لأكثر الأساليب حداثة ومعقولية في نهجه المعماري ، قد طبعت اثرها المهم على مجمل الإنجازات المعمارية ، التي ولدت في العقد الثاني الذي أعقب نهاية الحرب ، عبر تاثيره المباشر في تلامذته ومجايليه ، الذين قدموا عطاء مهما وبارزا في عمارة الحداثة ، تلك التي وجدت طريقها بعد الحرب ، ومن بين هؤلاء فيليب جونسون والذي اشتهر بداية مع تصميمه البيت الزجاجي لسكنه الشخصي في ولاية كونيكتيكيت ، حيث جاء هذا التصميم بحسب رأي المتابعين تعبيرا دقيقا واعلانا صارخا لافكار أستاذه ، فالمبنى تطبيق حرفي لمقولة ميس ( القليل يعني الكثير ). و ترك اثره الواضح كذلك على المعماري الاميركي البارز إيرو سارينين وسواه ليتعدى هذا الأثر اميركا متجاوزا إياها الى خارجها حيث هجرة تكنولوجيات المبنى المتعدد الطوابق الى دول مختلفة من العالم طبقا للبيئات والظروف والمواد المتوفرة فيها .
- لقد أضحت طروحات ميس بفضل هؤلاء المعماريين وسواهم ظاهرة عالمية تتجول على هيئة شواخص حداثية في العواصم والمدن الحديثة ، قادنا اليها المؤلف في رحلة معاينة وقراءة معمقة قل نظيرها ، وضعنا برشاقة أسلوبه واقتصادية عبارته امام بنايات صديقة تفصح عن جمالياتها بكل صراحة وثقة . فيالها من دروس مجانية يقدمها الكتاب لكل عشاق الجمال، الذين تعوزهم خبرة التعرف على بناية ، خبرة قراءة شكلها ووظيفتها وموادها حتى لتتكشف لنا عن تحفة جمالية فريدة وليست كتلة صماء من الكونكريت والزجاج والحديد وسائر المواد .
كما هو حال كل شيء جديد ، يولد ويمضي ليتحول عن مساره ، كانت عمارة ميس تفضي الى نتائج ليست قريبة من منطلقاتها الأصيلة ، وكما هو مآل كل جديد يتكرر ، تكون بانتظاره الاعتراضات والانتقادات التي توضع في طريقه ، فقد واجهت هذه الموجة التي دشنها ميس بموجة مضادة من الاعتراضات ، تلك الاعتراضات أملاها بحسب المؤلف ، الإحساس بالإعياء والسأم من جراء تكرار اللغة الفنية التي أدمنها مقلدو ميس الكثيريون عبر تغيبهم المتطلبات الحسية ، وانعدام النبرة الانسانية في منتوجاتهم المعمارية ، هذا من جانب ، ومن جانب اخر فان تسارع تطور النزعة الاستهلاكية للمجتمعات التي تبنت هذا النهج المعماري جعلت من الاعتبارات التجارية والتسطيح الدعائي ينحط بفهم هذا التيار الى مستوى بعيد عن تطلعات مدرسة ميس فان دير رو . 
لعب تأثير هذين العاملين مجتمعين دورا مفصليا في تغيير المزاج العام في إشاعة طراز معماري شامل وموحد ، وراحت النخب الأكاديمية والإعلامية تفتش عن عمارة بديلة من نتاجات المدرسة العقلانية.
بحسه الفريد في قراءة المزاج العام انقلب اهم المعماريين وأكثرهم شهرة وتاثيرا ، انقلب لوكوربوزيه على المنجز العقلاني الذي بلغ طريقا مسدودة ، ليعود بالعمارة الى قيمها الجمالية ويضعها في قلب مفاهيم الحداثة مرة اخرى ، دون ان يتخلى عن الهم الاجتماعي كأحد اهم معايير التصميم ، و من هنا انطلقت عمارة الحداثة من جديد مدفوعة بقوة هذين العاملين ، لتستقر في ضمير وعقل مسار الفكر المعماري ، الذي نادى به لوكوربوزيه منذ عشرينات القرن الفائت .
الوحدة السكنية .. المودلير
في إطار نهجه الاجتماعي ، تمكن لوكوربوزيه في فترة ما بعد الحرب من اثارة الأوساط المعمارية بتبنيه نمطا جديدا للإسكان اطلق عليه " الوحدة السكنية " دشن اول تجاربه المهمة في مدينة مرسليا الفرنسية ، ليتكرر فيما بعد في مدن أوروبية اخرى ، فقد نجح الى حد مبهر في " دمج طبيعة الإسكان التقليدي مع مزايا الإسكان التعاوني " في إطار وظيفي بالغ الدقة والتصميم دون ان يتخلى عن الجوانب الجمالية المتفردة ، التي عرفت بها أعماله ، وقد استغرق المؤلف هنا في توصيف تلك المزايا التصميمة ، مفترشا خارطة التصميم معلقا على أركانها وزواياها متفقدا أروقتها وممراتها . ليعرج على وصف المعالجات الجمالية المبهرة ، التي اقترحها خيال المعمار على واجهة هذا الصرح المعماري ذي الأثر التاريخي في عمارة الإسكان ، احدى اهم منتوجات عمارة الحداثة و من أجرأ مقترحاتها .
- ومن اجل إيجاد نوع من التوازن الهرموني بين مكونات الوحدة السكنية ، لجأ لوكوربوزيه الى منظومته القياسية الخاصة التي هي واحدة من اروع مبتدعات القرن العشرين ، وربما قبله بكثير ونعني بها ( المودلير ) التي مازجت بين النسبة الذهبية التقليدية مع تناسبات جسم الانسان . 
ان الوحدة السكنية المرسيلية هي ليست كل شيء في جعبة هذا المعمار العملاق ليقدمه بعد نهاية الحرب الكونية ، ان الدكتور خالد السلطاني يأخذنا بعد الانتهاء من الإحاطة بها من كل جانب ، يأخذنا مباشرة الى كنيسة رونشامب ، تلك اللوحة الفنية الباذخة الجمال والفرادة التي أبدعها خيال الفنان وعقله ، لتبقى علامة استثنائية في عالم العمارة ، وواحدة من أسراراها البليغة ، تلك الموسيقى التي تعزفها النوافذ على أشعة الشمس ذلك النغم العبقري وهو يتردد بين الظل والضوء . 
اعتقد ان اي تلخيص لقراءة المؤلف لهذا العمل التشكيلي ( النحتي - المعماري) يعد نوعا من التجني على بلاغته الخاصة ، ذلك ان تلك القراءة لم تأت كالعادة مثل سائر تفحصاته الإنجازات المعمارية التي ورد ذكرها هنا ، بل هي في الواقع تقدم درسا في النقد الجمالي ، لقد ابدع الدكتور خالد ايما ابداع وهو يتأمل هذا الرمز التشكيلي الشاخص ، والذي تعدت شهرته الآفاق على صغر حجمه النسبي ، و توقف وظيفته على جانب واحد لم يعد حيويا في عمارة الحداثة كما هو الحال مع العمارة القوطية وعمارة عصر النهضة وكذلك عمارة الباروك التي اولت دور العبادة اهتماما فاق اهتمامها في كل مجالات انوجادها.