كيف تموت منتحرا؟

Saturday 20th of February 2016 12:01:00 AM ,
العدد : 3578
الصفحة : عام ,

أعترف الآن انني فكرت بالانتحار يوما ما، وكدت أنفذه فعلاً، فلا أجمل من أن يحقق المرء آماله بالانتحار، الذي يعني الموت، الموت الذي يعني الحرية، ألم ينتحر آدم حينما مارس حريته؟ حينها خرج من الجنة ؟ لكننا، لكي ندينه نسبنا له ذلك البيت البائس الذي يصور ال

أعترف الآن انني فكرت بالانتحار يوما ما، وكدت أنفذه فعلاً، فلا أجمل من أن يحقق المرء آماله بالانتحار، الذي يعني الموت، الموت الذي يعني الحرية، ألم ينتحر آدم حينما مارس حريته؟ حينها خرج من الجنة ؟ لكننا، لكي ندينه نسبنا له ذلك البيت البائس الذي يصور الأرض مظلمة.




وما أسهل أن تنفذ فكرتك الأخيرة هذه عن طريق النهر، ربما ستجد صعوبة ما في بداية الأمر، فأنت لا تملك قيوداً تساعدك على الموت المطهر، الجميل والسهل، كما يملكها المفتش جافير، النسخة الأخرى لجان فالجان، وهو يلقي بنفسه في نهر السين، أما أنت فستلقي بنفسك في شط الحلة، لا أنت نسخة من أحد، ولا أحد نسخة منك، وبعدها بقليل، بقليل فقط ستظهر جثتك طافية قرب استدارة مرقد الفارسي، حيث سورة النهر، وستشاهدك النساء الزائرات هناك مع بناتهن الجميلات، وهن يفين بنذورهن...
حينها ستتوحد مع الماء ولن تأكلك دواب النهر، لأنك شاعر، كما تزعم لنفسك، شاعر بما لا يشعر به الآخرون، وربما كانت إحدى آمال من يسمي نفسه شاعراً أو كاتباً أو روائياً هي لفت أنظار الناس له بوصفه شخصية تقولُ وتفكرُ أفضل من الآخرين!! أو إنها شخصية لم تستطع أن تتفوه ما تؤمن به تحت قيود وضغوط اجتماعية قوية، لكنك ما إن تهم بتنفيذ فكرتك المجنونة هذه حتى تفكر في عبثيتها، من يضمن لي أن فكرتي هذه قد تحققت وبخاصة إن الكثير ممن ينتحرون في بلدك هم ممن  خارج الوسط الثقافي؟ ربما كان عبد المحسن السعدون هو المنتحر المثقف الوحيد الذي استطاع أن يترك تمثالاً كاملاً لجسده الذي اخترقته الرصاصة، وشارعاً طويلاً مازال يحمل جسد بغداد المثقب بالرصاص دون أن تموت، أكان انحداره من أسرة ثرية إقطاعية هو السبب في احترام انتحاره الذي يعد كفراً في الفقه الإسلامي السائد في المنطقة!؟ أم بوصفه أحد رواد النخبة الأنتلجينسيا السياسية الصاعدة تواً في العراق الجديد ولا تريد هذه النخبة لنفسها أي إدانة ما؟!!
من سيصدق حينها إنك كنت تحمل فكرة ما، فكرة لم تستطع أن تبوح بها! أو انك قد تعرضت إلى منع قسري لأحد حقوقك الطبيعية؟
وما ان تقف على حافة النهر لكي تلقي بنفسك فيه، تماماً كما وقف كونتن على حافة النهر في حزيران 1910 بعد نهاية السنة الدراسية ... حتى تفكر في أنك ستكون شيئاً آخر، بالتأكيد أفضل من كونك منتحراً، وأنت في بداية السنة الدراسية، وأنت لا تملك ساعة يدوية ثمينة مثل ساعة الجيب التي رماها كونتن وقد توقفت في لحظة الموت تلك. ربما ستكون شاعراً مثل السياب أو الشابي أو كيتس، ولا بأس أن تموت مبكراً مثلهم، حينها سيتعاطف الآخرون معك، وستدخل أنطولوجيا الشعراء المبكرين موتاً، وربما ستكون روائياً كبيراً مثل همنغواي، ودون خوف من الموت، دخل في جبهات القتال الخطرة بوصفه مراسلاً حربياً، انتحر لأنه اكتشف أنه لا يستطيع كتابة روايته الأخيرة كما يقولون، وحينها سيختلف الآخرون على سبب انتحارك، وسيزداد عدد قرائك ...
وأنا أسير متراجعاً عن حافة النهر التقي بالحلاج مصلوباً!! أتراه فكر بالانتحار مثلي، لكنه نفذه بطريقة أخرى، طريقة تجعله شهيداً في مجتمع يعج بالشهداء؟؟ ربما، حسناً ... سأكون شاعراً، ليس مغموراً بالتأكيد، ثم أموت بطريقة تشبه موت هاملت، ألم يعتقد هاملت أنه يفكر أفضل من الآخرين؟ ألم يجلس في الشمس أكثر مما ينبغي؟  وأنا أيضاً جلست في الشمس بانتظار قصيدة جديدة، ألم يكن وحده هو من يبصر الشبح/ الحقيقة؟ وأنا أيضاً كنتُ في طفولتي لا أخاف من الجن المنتشرين قرب مراقد الأولياء في محلة المهدية، ألم أخرج بعد المغرب كي أتأكد من وجودهم!!؟ ... لكنه مات منتحراً بطريقة أخرى.
وأنت تسير متراجعاً، أو خائفاً من الموت، أو من فكرة الانتحار البغيضة في المجتمع، وتفكر بجدوى إقدامك على تلك الفكرة المجنونة ... ستتعرف إلى المسيح متأخراً، ستجده مضحياً، فمن أجل فكرة ثقافية ترك عدداً من النساء المريمات الجميلات بانتظاره وهن بكامل زينتهن وعشقهن ... وهل ثمة أخطر من الخطيئة؟ من يتحمل عنا هذه الخطيئة!!؟ خطيئة عدم فهم البشر لرسالة المثقف التي ما برح المسيح يحملها على هيئة صليب ومحبة.
وما زلت متراجعاً عن حافة النهر، قرب الجسر الجديد ... فإذا بي أبصر دعبل بن علي الخزاعي، الشاعر غير المعروف في الكتب المدرسية وهو يحمل صليبه على ظهره منذ خمسين سنة كما يقول، وهو يطلب من يصلبه عليه ... أكان دعبل يفكر بالانتحار مثلي؟ ربما، هكذا قلت في نفسي وأنا أقرأ في كتاب اللامنتمي، لقد كان من الممكن أن يدخل دعبل الخزاعي في هذا الكتاب، ألم يهجُ الناس جميعاً في بيته الشهير؟؟ ألم يفكر بالانتحار بطريقة أخرى؟ ربما.
لكن لورنس، أو ت. س. لورنس، تمييزا له عن د. هـ. لورنس، كما عرفته في كتاب اللامنتمي مات منتحراً، مرة مات بزيه الغريب في الصحراء العربية كي يبتعد عن ضباب لندن، ومرة أخرى مات منتحراً وهو يعمل في سلاح الطيران الملكي بعد أن عجز عن تحقيق رسالته الثقافية في الصحراء العربية، ومرة أخرى مات منتحراً على دراجته البخارية، ومازال يحمل بعض أسرار الثورة العربية ... يقولون: إن مخابرات دولة ما كانت وراء مقتله، ولا ادري أي رواية سأصدق؟؟ ربما كانت الروايات صحيحة جميعاً.
أما الشاعر الشاب طرفة بن العبد فقد انتحر لإيمانه بمصداقية السلطة!!! لا يريد أن يصدق أن السلطة تكذب، حمل الرسالة إلى البحرين مطمئناً، فيما لبث المتلمس في إحدى قرى النجف في بانيقيا متشككاً برسالة السلطة. لم يدرك طرفة بن العبد أن موته كان رسالة للمتحدثين ضد السلطة!! أما هو فلا أعتقد أنه قد هجا السلطة، وإلا لما كان قد ذهب إلى عمرو بن هند بحثاً عن الجائزة.
وكان مصير عدد من العشاق الموت؛ لأنهم عشقوا سيدات من خارج الطبقة التي ينتمون إليها، كان على جوليان بطل ستندال في الأحمر والأسود أن يموت وقد أحب سيدة القصر الذي يعمل فيه. وكان على أحد ابطال نجيب محفوظ أن يسقط اجتماعياً غير مأسوف عليه وقد حاول الوصول إلى طبقة أخرى عن طريق الزواج. وأجبرت السلطة الصحراوية عدداً من العشاق على الانتحار، فقد انتحر وضاح اليمن في ذلك الصندوق المروع دفاعاً عن أم البنين، وأم البنين تمثل السلطة، ولو كانت أنثى من عامة الشعب، لسمعنا الآن أخباراً وقصائدَ عن علاقات جنسية أو لقاءات غرامية عفيفة بينهما، شأن الأخريات في قصائد للفرزدق أو الأعشى أو عمر ابن أبي ربيعة.
وانتحر قيس بن الملوح جنوناً دفاعاً عن شرف القبيلة، وانتحر قيس بن ذريح رضاءً لوالده الذي هو الرب الثاني في السلطة الصحراوية المقدسة. ولكي يصمت المنتحرون، منحهم النص المقدس رتبة الشهادة (( من عشق، فعف، فمات، مات شهيدا) أما من تكلم نيابة عنهم فكانت كتباً تزين الأسواق في مدامعها.
ومنحت رتبة الشهادة أيضاً للضحايا المنتحرين الذين قاتلوا في سبيل إعلاء كلمة الحق، كما يقولون، أو دفاعاً عن الحرية أو ضد الدكتاتورية، كما نقول، فكان أن تسلم السلطة من يشبه أصحاب السلطة السابقة، أو تفوق عليها.
وضمت كتب الحمقى والمغفلين مادة وفيرة عن أشخاص لم يستطيعوا أن يتقبلوا واقعهم، فانتحروا جنوناً، كما هي شخصية البهلول العربية، أو المهرج في بعض المسرحيات، ولما كانت السلطة الصحراوية لا تحبذ الاختلاف وتعدد الآراء؛ فقد جعلتهم مادة للتندر في مجالس الخلفاء والعلماء، وكأنهم فرصة للراحة من وعثاء البحث والمناقشة في اللغة والتفسير والفقه وسياسة الرعية، وربما أنطقتهم العامة بما لا تستطيع قوله لأصحاب السلطة وتابعيهم من العلماء!
ومن الحلة أيضاً انتحر المهندس اليهودي أحمد سوسة، وجذور آل سوسة تمتد كثيراً في تأريخ العراق، وكانت أسرته قد شغلت أول ماكينة كهرباء في الحلة، ذهب إلى مصر وانتحر هناك، لقد انتحر ليبقى، كان قد تخرج مهندساً في إحدى الجامعات الأمريكية، لكنه هنا في وطنه لا يستطيع أن يكون مديراً عاماً، وكانت مؤهلاته العلمية والفنية تمنحه تلك الدرجة ... يقولون إن ثمة رأي خفي يمنع اليهود من إشغال هذا المنصب!! أما المرحوم ساسون حسقيال، أول وزير مالية في العراق الملكي الجديد، وأول مدافع عن حقوق العراق المالية بقضية الشلنات الذهبية المعروفة، فقد عينه السير برسي كوكس بنفسه كما تعلمون. عاش أحمد سوسة بدينه الجديد، وغالباً ما كان يزور محلة المهدية ليلتقي بصديقه الدائم الحاج جاسم حمادي الحسن، وكان كلما اشتاق إلى دينه القديم، يكتب ما تيسر له من آيات العهد القديم في تأريخ العرب واليهود.
لكنني متأخراً أيضاً أقرأ في كتاب تطور الشعر العربي في العراق واستمع إلى عبد المحسن الكاظمي وشعراء آخرين يمدحون آل سعود، الأعداء التقليديين لعرب الجزيرة المتحضرين، كالهاشميين مثلاً، ثم يهاجر الكاظمي إلى مصر فيهجو هناك الملك الهاشمي فيصل الأول، وكأنما يريد أن ينتحر...
وأنا أبتعد الآن كثيراً عن حافة النهر قرب الجسر الجديد، وقد تغيرت معالم المنطقة الآن بعد بناء جسر كونكريتي جديد، وأصبحت المنطقة مكشوفة فلا تستطيع الانتحار دون أن يشاهدك الآخرون ... أكتشف الآن أن الكثيرين مثلي ومعهم بعض القراء الآن قد فكروا بالانتحار!!! لكنهم نفذوه بطريقة أخرى، أتراني أنفذه بطريقة أخرى، ربما؟؟؟