فـي معـرض الفنان مظهـر أحمد الأخيـر(رب الأرض)..العمل الفني حينما يتحول فعلاً اعتراضياً

Friday 2nd of November 2012 05:08:00 PM ,
العدد : 2637
الصفحة : تشكيل وعمارة ,

 

 

 

علي النجار

 

ليست هي لعبة من نوعية تلك الألعاب المصنوعة لكي يزجى بها الوقت جزافا. كما أنها ليست مجرد مزحة يراد بها اللعب على الذقون. كذلك هي لم تكن مجازفة غير محسوبة العواقب. إنما هي مصممة للحفر عميقا, والى ما تحت قشرة الظواهر التي أعوزتنا الفطنة بعض الأحيان, أو غالبا, عن إدراك المغزى المخطط لها مسبقا لإدراك أفضل ما بذاتنا الإنسانية من إبداع يتجاوز المألوف. ضمن هذه المواصفات يمكننا النظر إلى سياقات عرض الفنان العراقي ـ السويدي(مظهر أحمد) الأخير(رب الأرض).   

كان العرض في ليلة افتتاحه في الخامس من أكتوبر/تشرين الأول في قاعة(الكاردن) في مدينة (بوروس) السويدية, لا يختلف عن أي عرض تشكيلي سابق لهذا الفنان. إن لم يشكل جزءا متمما لمشروع عرضه الاستعادي السابق  الذي أقامه في متحف(دالاراناس) في مدينة فالون العام الماضي, حيث يقيم ويعمل. لكن يبدو أن ثمة مفاجئة مؤجلة تنتظر مشاهدي العرض. وكما عودنا الفنان في عروضه العديدة. فليس هو أمر عرضي أن يتم تصوير الأعمال المعروضة وحوارات وانطباعات  المشاهدين لها. لكن الجديد بالأمر هو استحداثه لنصب كرسي أمام كل عمل, ليمنح المشاهد فرصة تأمل مريحة, كما أن امتناعه عن تسعير أعماله وحتى لكل من يستطلع عن ذلك, هو أمر يدعو للتساؤل. فهل  ينوي الفنان الاحتفاظ بأعماله لنفسه, وهذا أمر يخالف شروط العرض التقليدي. أو هل هو مزمع على إعادة عرضها في مكان آخر. أو ربما هو زاهد أساسا بقيمتها المادية. لكن وكما نعلم فان لكل عمل فني سعره الخاص(ولو أن ثمة ريبة في تسعير بعض الأعمال الفنية) لكنها الوسيلة الأهم لدخل الفنان, إن لم تكن الوحيدة لبعضهم. ومن اجل حل هذا الإشكال.  فقد أعلن الفنان أن عرضه غير مكتمل و يدعو المشاهدين لزيارته مجددا بعد ثلاثة أيام, لأنه سوف يضيف شيئا مفاجئا للعرض.

رب الأرض:

  لم يكن عنوان هذا العرض(رب الأرض) وليد صدفة. بل هو جزء من تفكير وسلوك يومي, درب الفنان نفسه على خوض غماره. بعد قناعته بان لكل جهد شخصي دورا ما في زيادة وعي الناس بما يدور حولهم, وبما يؤثر فيهم, سواء كان سلبا أو إيجابا. وبما أن ثمة كارثة تنتظر مصير كرتنا الأرضية, جراء حجم التلوث الناتج عن استخدام أسلحة الحروب(الدمار الشامل) التي لوثت أماكن عديدة من عالمنا الأرضي, وباتت بؤرا مزمنة ومقلقة لتسرب الدمار إلى ما حولها. فمن يضمن لنا بعد هذه الأفعال أن يتناول طعاما, أو يشرب ماء, خالياً من التلوث. وجوهر فكرة هذا العرض قائمة على   الإشارة إلى حجم هذه المشكلة  الإنسانية المسكوت عنها من لدن صناع القرار العالمي, أو العولمي العابر للقارات. إضافة إلى جدلية قيمة العمل الفني الدلالية والمادية.

في مشهد من احد فصول فيلم الأحلام للمخرج الياباني الشهير أكيرو كوراساوا,  سمع عسكري عائد من الحرب  وهو في طريقه لاجتياز النفق, صدى إيقاع خطوات أحذية عسكرية متسارعة آتية خلفه من عتمة النفق . وحينما التفت, وجد فصيله وآمره خلفه يدعوه لقيادتهم. لكن المفاجأة تكمن بكون هذا الفصيل تعرض للإبادة. ولم يكن أمام العسكري (قائدهم) إلا أن يأمرهم بأن يدعوا الأحياء بسلام. وزيادة في إثارة رعب المشهد المأساوي هذا  اصطبغت وجوه العسكر الأموات بالأبيض الشاحب, لخلو أجسادها من دمائها. وكان تضاد الأسود والأبيض مرعبا.

مظهر أحمد اشتغل على مفهوم التحولات ليس الأوفيدية بل المأساوية التي خضعت لها بعض شعوبنا الأرضية. إن لم تكن كلها بشكل ما ، مستغلا أداته الفنية  كملونة, وصياغة إشارات دلالية. ووعي مفرط بدرس إعادة الصياغة الفنية  المعاصرة التي اعتمدت مبدأ تهديم عناصر العمل وإعادة صياغته. أجرى محاولته الأولى  قبل عرض أعماله بعدة أشهر , وفي غرفة مظلمة رسم عليها بالصبغة البيضاء. في محاولة منه, لسبر مناطق إدراك ما وسط عتمة المجهول. ثم فاجأته النتائج غير المتوقعة والتي لم تخرب العمل الفني الذي كان جاهزا للعرض قبل خمس سنوات, والتي عززت من قدرته التعبيرية. وكانت هذه المحاولة, أو التجربة الأولى له في مجال حوار المجهول. وما دمنا قادرين على ذلك. إذاً لماذا لا نتجنب لا وعي مجهولية إقامتنا الأرضية, بما نهيئ لها من أدوات الدمار. وكانت جدلية تناقضات الأبيض أسود حاضرة هنا أيضا.

من قتل منا, وبكل المسميات, سواء كان شهيدا, أو مفقودا, أو مغتالا. فقد ذهب بلا رجعة. مع كل ما أطلقنا عليه من صفات مبجلة أو نعوت أخرى. وبقي أحياؤنا ما بين انتظار موقت أو مؤجل يحيلنا للجزء الآخر من أحلام أو نبوءات هذا المخرج الياباني حينما يحاصر التلوث الإشعاعي احد الشخصيات, ويجد نفسه وسط محيط طبيعة كارثية.  فلا الإنسان من حوله بات إنسانا, ولا النبات هو نفسه. وليس له من مخرج إلا رمي نفسه في البحر.  فيا ترى هل نحن نفقه مغزى هذه الرسالة(الإشارة) ونتنبه لحجم ما أصابنا من تلوث اليورانيوم المنضب, وعلى امتداد رقعة العراق الجغرافية, إن لم تتجاوزها لجغرافيا المحيطين بنا. وكل الشواهد تؤكد حجم الكارثة. وليس العراق وحده ينوء بأعباء   نتائج هذه الكارثة. إضافة إلى أن فثمة ثقوبا أرضية أخرى. ولو بأقل درجة من التلوث. وفي نية مظهر أن يجعل من ضمن نتائج تغييرات عرضه , إشارات إنذار افتراضية لعواقب هذه الكوارث الأرضية.

    أنليل هو( رب الأرض) في الميثولوجيا السومرية. أداته الفأس. مظهر احمد جعلها محور عرضه هذا. لكنه حولها إلى مجرفة ذهبية  تتوسط عرضه, و لوى جزءها المعدني لتصبح غير صالحة لا للحرث ولا لأي استعمال, لقد عطل الفعل الإلهي الأسطوري, ولم يعد الذهب ذهبا إلا في المتحف. لكنه ليس التعطيل الوحيد الذي حاوله الفنان. لقد عاد بعد ثلاثة أيام من العرض ليلغي كل تفاصيل رسومه المعروضة من خلال تغطيتها باللون الأسود فقط, ولم يبق من اثر لملونة أعماله هذه إلا حفر لعناوينها على السطح الأسود. لقد حولها مفهوميا إلى:( فاكهة , طير  زهرة ,  طفل ,  صديق ,  حيوان ,  شاعر ,  موسيقي). فهل تحولت مظهرية أو مغزى هذه الرسوم فعلا إلا:( فاكهة, طير, زهرة, طفل, صديق, حيوان, شاعر, موسيقي). بالطبع كلا بفعل دمار أسلحة الإبادة التي يتناقض فعلها ومسميات هذه الرسوم المؤنسنة. إذاً هو  فعل احتجاجي. واضحة نواياه المتعددة.

في مقدمة كتابه(الفنون والآداب تحت ضغط العولمة) يتساءل المؤلف(جووست سمايرز(1): (إذا كان من الأساسي للديمقراطية أن يتم تقديم الفنون والآداب على نحو فردي ذي صلة ولو بدرجة ما بالمجتمعات الفردية, يصبح من حق المرء أن يتساءل عن آثار العولمة الاقتصادية. مع اخذ كل الاعتبار, نجد أن احترام الجهود المحلية  ليس من بين أوليات نظام التجارة الحرة العالمي. فهل يعني هذا الحياة الثقافية في كثير من المجتمعات).

لكن, وبما أن العولمة الاقتصادية طالت كل شيء في حياتنا المعاصرة. فان قوانينها باتت تتصرف بالنتاج الإنساني الجميل بما يتوافق ومصالح تكتلاتها الكبرى المادية. ونحن نعلم بان ثمة كارتلات إعلامية تسيطر على النتاج العالمي وتعممه, أو تستغله حسب تصنيفاتهم. ومن ألعابها التي لا تخفى على احد,  احتكار المعلومة وتحديد ثمنها سواء للنشر أو الاقتباس  كذلك أسعار النتاج الفني الذي يتبنونه هم وحدهم. من ـ مزادات أو إدارات متاحف أو مروجين  أو حتى  رعاتهم شخصيا ـ, وما بين ذلك من قنوات تطول حتى غسيل الأموال. ويتم من وراء كل ذلك اللعب بمقدرات هذا السوق الفني بحيث يتم حجب أو تهميش أو تبخيس قدر كل ما عدا من تم اختياره من قبلهم, وتسويقه ضمن اطر مصطلح  الذائقة العالمية المعاصرة, ومن اجل الحفاظ على سعر العمل الفني الأسطوري كجزء من أساسيات نظامهم الاستثماري. ومعلوم أن قلة قليلة من مجموع النتاج الفني والثقافي العالمي الفعلي هو الذي يتمتع بهذه الامتيازات التي تحافظ على شروطه التسويقية بأعلى مستوياتها. إذاً, هي تجارة بلا ضوابط إنسانية مطلقا, وثقافات شعوب عديدة تتعرض للتخريب من جرائها. فهل تعمد مظهر احمد أن يسلط الضوء على هذا الشأن الثقافي المهم ؟ نعم هو فعلها احتجاجا على صدمة أسعار الأعمال العولمية المهيمنة على المفاصل العليا للعروض الأوروبية وما يقع تحت سطوتها من العوالم الأخرى. ومن اجل لفت الانتباه لهذه الظاهرة فقد ثبت مظهر أسعار أعماله بعد أن ألغى تفاصيلها الشكلية(اللونية) بالأسود فقط. فهل من يجرؤ على شراء عمل منها. ولم يكتف بذلك بل وجه دعوة لتواصل الحوار حول فعلته الاحتجاجية هذه.

    يستشهد مظهر بمأساة الفنان الهولندي العالمي فان كوخ.! ونحن معه نقول أيضا: ماذا جنى هذا الفنان من كل مبيعات أعماله الأسطورية بملايينها العديدة بعد معاناته خلال فترة حياته حتى مماته المأساوي؟ من المستفيد من كل هذه الملايين ؟أليس من الأجدر به أن يتمتع ولو ببعض منها حينما كان يعيش على هامش المجتمع الذي كان ينظر إليه بريبة.

أسئلة محيرة. لكنها لا تزال محتفظة بعلامة استفهامها. لذلك, هو مطلب عادل أن يستحق المبدع ثمن إبداعه. لا أن يذهب هذا الثمن وبكل تضاعيفه غير الشرعية إلى جيوب الدهاة القدامى والجدد. فهل هو حداد(بالسواد) ما نفذه مظهر على أرواح من غادرنا من مبدعي أزمنة الغفل الماضية. أم هو احتجاج على السائد و المقنن من هذا التصرف نفسه, المؤسساتي العولمي ؟

لقد سعى مظهر(وكما يقول) إلى أن يجعل المشاهد بحاجة إلى استقبال العمل الفني (عن طريق العين, ثم العقل, والقلب). وكان التأمل(المشاهد جالسا أمام العمل). ثم التغيير الدراماتيكي الثاني لشكل العمل. وصولا للحوار المعمق.

التغيير الثالث والأخير الذي أجراه مظهر هو في جعل خلفيات الرسوم تواجه المشاهد. مع تجريد بعضها من أطرها وتثبيت  حافاتها النسيجية أسفل اللوحات المعلقة ، ليصنع مركبه(البيرفورمانس) الجديد بفعل تحطيمي آخر. لكنه ترك عملا واحدا كما كان. هذا العمل هو(الطير) المحفورة كلمته على الأسود. فهل هو أمل جديد ينبثق من رحم الأرض المعتم, ليحلق بعيدا في سماء لا تمسها نوايا الشر الأرضي.

رغم كل ما أثاره هذا العرض الملتبس. من جدل وتساؤلات. من قبول أو امتعاض. من  لغط  يدور حول إعادة تقييمنا العمل الفني والثقافي بشكل عام. زمن انتباه لدور المبدع لإثارة الأسئلة. ثم التذكير الرمزي لعدم خلط الحقائق بالأوهام.