جثث الموتى.. علاجاً للمستحضرات الطبية

Sunday 4th of November 2012 08:00:00 PM ,
العدد : 2639
الصفحة : ناس وعدالة ,

 يخبرنا التاريخ أن عادة أكل لحوم البشر كانت معروفة بين بني الإنسان في حقب من الزمن واستمرت عبر عصور عديدة، ويمكن حصر دواعي تلك العادة في ستة أحوال كما يأتي:
1. أكل القتلى من الأعداء إمعاناً في الانتقام أو ظناً أن ذلك يكسبهم قوة العدو.
2. قتل البشر من أجل الحصول على لحومهم بسبب تفضيلها على لحوم سائر الحيوانات.
3. القتل وأكل لحم الضحية لدوافع نفسية مرضية (سيكوباثية أو سادية).
4. أكل الذين يتوفون من أفراد الجماعة أو القبيلة إظهاراً للتبجيل والاحترام.
5. أكل الموتى الذين يتوفون أثناء المجاعات بسبب الحاجة الملحة للغذاء.
6. أكل دم الإنسان ومسحوق عظامه وأنسجة جسمه المجففة من أجل التداوي.              
وكانت الفكرة وراء وصف المستحضرات البشرية للعلاج الارتباط في اللون أو التكوين أو الموضع بين الداء والدواء. فوصف شرب البول لمرضى اليرقان أو الصفراء، ووصف محلول من الشعر لعلاج تساقط الشعر، ووصف استنشاق مسحوق عظام الجمجمة لعلاج الصداع، ووصف نخاع العظام لعلاج روماتيزم العظام، ووصفت رواسب بول الإنسان لعلاج حصى الكلى. كل ذلك طبقاً لقاعدة: وداوه بالتي كان هي الداء! أما استخدام البول لتطهير الجروح فربما لخلو بول الإنسان السليم من البكتيريا، في وقت لم يعرف فيه الإنسان المواد المطهرة والمعقمة الموجودة حالياً، بل لم يتوفر حتى الماء النظيف، ولذلك كان البول هو أقرب شيء للمحلول المعقم. المثل الذي يقول: إن فلاناً (لا يبول على الجرح) كناية عن البخل مبني على تلك الحقيقة التاريخية.
في القرن السادس عشر كان جراحو الجيش الهولندي إبان حرب التحرير ضد اسبانيا يستأصلون الشحم من القتلى في المعارك، لاستخدامه في علاج الروماتيزم وآلام المفاصل بصفة عامة. كما لم يقتصر الجلادون في القرن السابع عشر على بيع الدم بل كانوا يجمعون الشحم من الضحايا ويبيعونه، وفعل سارقو الأجساد من القبور الشيء نفسه. واستخدم أصحاب محال الأدوية الشحوم الآدمية بعد إضافة مواد عطرية وأعشاب وإعطائها أسماء دوائية وذلك لكي ينافسوا الجلادين وسارقي الأجساد الذين كانوا يعرضون بضاعتهم بأسعار زهيدة.
في العصور الوسطى باع الصيادلة (دم الحيض) المعطر بماء الورد، وخليط من الدماغ البشري مع التوت الأسود وزهور اللافاندر والليلك وغيرها.
وعلى الرغم من دور كل من الإيحاء وعامل الزمن في الشفاء، فإن خواص بعض المواد البشرية المستخدمة كان لها دور فعلي (ولو لم يكن معروفاً وقتها) في الشفاء. وقد يُعزى نجاح قطرة السائل الصفراوي في علاج الصمم إلى خاصية إذابة رواسب (شمع الأذن) التي قد تغلق القناة الخارجية للأذن وتسبب صعوبة السمع. أما تحفيز القيء عن طريق تناول أظافر أصابع الأقدام البشرية فلم يكن لخاصية كيميائية بقدر إحداث الغثيان الناجم عن الاشمئزاز والقرف، ويشابهه تناول البراز السائل كترياق للفطر السام، فإن كان الهدف إخراج المحتويات السامة من المعدة عن طريق القيء فلا شيء أقوى تأثيراً من هذه الطريقة! كما أن المواد القاتلة للبكتيريا في اللعاب البشري كانت وراء نجاح استخدام اللعاب البشري موضعياً لعلاج عضة الكلب والتهاب العين ورائحة العرق الكريهة؛ على الرغم من عدم معرفة تلك الخواص في الماضي.
ونظراً لأن العوارض أو الأمراض البسيطة، كالكدمات والسعال وغازات الأمعاء تزول تلقائياً خلال أيام معدودة، فقد لقيت الأدوية التي وصفت لعلاجها نجاحاً كبيراً واشتهر استخدامها دون أن يكون لها أي تأثير فعلي. لم تكن التجارب الطبية المقارنة على المرضى معروفة في ذلك الوقت كما هي الحال الآن، فلا يصح اعتماد نتائج أي تجربة في هذا الخصوص إلاّ إذا تضمنت تقسيم المرضى أو المتطوعين إلى مجموعات عدة ؛ بحيث يعطى أفراد كل مجموعة دواء مختلفاً، ويعطى أفراد مجموعة معينة أقراصا مشابهة لأقراص الدواء بيد أنها مصنوعة من السكر دون أي مواد أخرى، ولضمان حيادية التجربة؛ يجب حجب المعلومات حول ماهية الأدوية عن كل من المشاركين والباحثين المباشرين، حيث تستخدم شفرة مفتاحها معروف لدى المشرف العام على التجربة الذي لا يحتك بالمشاركين.
وقد نجحت بعض المستخلصات البشرية في تخفيف الآلام بسبب المواد الثانوية المستخدمة في المزيج وليس بسبب المستخلص البشري نفسه، فلا شك أن التأثير المخدر والمسكن لخلاصة الجمجمة كان بفضل الأفيون المخلوط بالمستحضر وليس إلى مسحوق العظم، وكذلك يعود التأثير المهدئ لروث الحيوانات في علاج الصرع إلى الكحول المخلوط بالمستحضر.
الاختلاف بين الطب القديم والمعاصر في استخدام أنواع مختلفة من أساليب العلاج والتطبيب لا يختلف كثيراً عن التباين الحالي بين المجتمعات المعاصرة في العادات الغذائية. كما استخدم القدماء المستحضرات البشرية في العلاج، فقد استخدمت في العصر الحديث ولم تلق أي استهجان يذكر؛ كاستخدام الطب المعاصر لهرمون النمو المستخلص من الغدة النخامية (غدة صغيرة توجد في قاع الجمجمة أسفل الدماغ) لعلاج الأطفال الأقزام، أو نقل الدم البشري في وقتنا الحاضر الذي يذكرنا بالاستحمام بالدم في العصور الغابرة.  
هنا ينبغي أن نتذكر أن الجراح السوفييتي (شاموف) في عام 1928 قام بتجارب حول نقل دم الموتى إلى الأحياء؛ وبدأ تجاربه على الكلاب، فأثبت نجاح نقل الدم من الكلب الميت إلى الكلب الحي بشرط أن يتم ذلك في غضون ست ساعات من الوفاة، ودل ذلك على أن دم الكلاب يظل معقماً وكراته الحمر صالحة لنقل الأكسيجين لمدة لا تقل عن ست ساعات. وبعد سنتين قرر معهد (سكليفوسوفكي) في موسكو أن يستند إلى تجارب (شاموف) ويشرع في تجارب نقل دم البشر الموتى إلى المرضى الأحياء، فجهزت غرفة عمليات ينقل إليها الذين يموتون فجأة سواء في الشارع أم أماكن العمل أم غيرها، وتستنزف دماؤهم قبل أن يُسمح لأقاربهم باستلامهم. ولم يكن استنزاف الدم من رعايا الاتحاد السوفييتي يحتاج إلى موافقة حيث إن القانون يعتبر أجساد الموتى ملك للدولة، ولها أن تفعل بها ما تشاء. ولكي يستنزف دم الموتى تغرس الإبرة في أحد الأوردة الدموية بقاعدة العنق وليس في الذراع مثلما الأحياء، ونظراً لتوقف مضخة الدم (القلب) يوضع الجسد على سطح مائل بمقدار 45 درجة تقريباً بحيث يكون الرأس في الجانب السفلي.
واستمر المعهد في نقل الدم من الموتى إلى الأحياء لمدة ثمان وعشرين سنة، وبلغت كميات الدم المتحصل عليها إبان تلك الفترة حوالي خمسة وعشرين طناً، أي ما يعدل 70% من احتياجات المستشفيات في الاتحاد السوفييتي.
وحسب المعلومات المتوافرة، كان الطبيب الأمريكي (جاك كيفوركيان) الذي استحق لقب (طبيب الموت) والذي تحدثنا عنه في أسابيع ماضية، انه الطبيب الوحيد الذي جرب نقل دم الموتى إلى الأحياء خارج الاتحاد السوفييتي. حاز اللقب خلال بداية التسعينيات من القرن الماضي عندما مارس فكرة (قتل المرحمة) في ولاية ميتشيجان وحوكم وأوقف عن العمل ودخل السجن عدة مرات، ولكنه ربما استحق اللقب قبل ذلك بفترة طويلة عندما قام في عام 1961 باستنزاف الدم من أربعة موتى ونقل دماءهم إلى أربعة من المرضى الأحياء، وجميعهم استجابوا للنقل كما لو كان المتبرعون أحياءً.
لم يخبر (كيفوركيان) أقارب الموتى بأنه استولى على دمائهم، مبرراً ذلك لنفسه بأن دماءهم ستستنزف على أية حال أثناء عملية التحنيط، التي كانت تجرى لكثير من الموتى في ذلك الوقت. كما أنه لم يخبر مرضاه بأن الدماء التي تجري في عروقهم مصدرها أجساد موتى، وبرر ذلك لنفسه بأن هذه العملية أثبتت نجاحها في الاتحاد السوفييتي على مدى ثلاثة عقود، ولا داعي لإخبار المرضى لأن رفضهم سيكون بسبب المشاعر العاطفية ضد الفكرة وليس بسبب كونها خطرة أو ضارة!