الحكّاء المعرفي الذي جمع بين الشاعر والشارع

Tuesday 6th of November 2012 08:00:00 PM ,
العدد : 2641
الصفحة : عام ,

لمؤيد الراوي مذاق خاص، في حضوره الشخصي، حكّاء، أو راوياً، مثل لقبه، وشاعر مخلص لنفسه، قبل أن يخلص إلى أي عقيدة أو منفعة، مقل في الكتابة والنشر، لكنه غني في قلّته، فالإنسان الممتلئ بالتجربة لا يحتاج إلى إسراف إعلامي أو انتشار مجاني يحطّ من المبدع ولا يرفعه.
أكتب عن الراوي، بمناسبة ومن دون مناسبة.
قرأت له قبل أن التقيه، ولما التقيته، أول مرّة في بيروت عام 1979، قرأته أكثر، فها هو أمامي من لحم ودم، طبائع وفكاهات، آمال معطوبة وأحلام مؤجلة، وأحزان غير معلنة.
لم يكن متحمساً لأي فكرة ولا متعجلاً أي نتائج، ولا طامعاً، بغير فكرة جديدة قد يكتبها أو لا يكتبها.
مناسبة هذا الكلام هي أن مؤيد الراوي في أزمة.. ومتى كان المبدع بلا أزمة أو أكثر، فالأزمة شرارة إبداعية، وأزمته، اليوم، هي صحية، قبل أي شيء، لأنها مؤلمة، كي لا أقول خطيرة، كي أخفف الوقع على نفسي قبل أن أخفف عليه وجعه الجسدي المتمثل بأكثر من مشكلة صحية، بينها "السكري" وعرفت أنه يعاني ضعف البصر، أو انعدامه، والشاعر يحتاج القلم والورقة والكتاب والكومبيوتر، وهذا ضاعف من عزلة الشاعر الذي هو معتزل أصلاً.
عندما قصدت بيروت، عاصمة الحرب الأهلية، عاصمة 1979، هارباً سياسياً، قصدت مؤيد الراوي الذي لم أعرفه شخصياً، بعد، سوى أنني تعرفت عليه في ديوان شعري هو الثاني له بعنوان (احتمالات الوضوح) بعد ديوانه الأول (نزهة في غواصة)، ولم يكتب لأي منهما الانتشار، بسبب عجلة الانقلابات والحروب النارية الدوّارة، في كل من بغداد وبيروت، وكتبت عن ذاك اليوان في صحيفة (الفكر الجديد) البغدادية احتفاء وإعجاباً، لكن المقال لم يصله طبعاً، ولم يستغرب هذا بل استغراب وصول الديوان إليّ.
كان زمن كتابتي عن (احتمالات الوضوح) مضطرباً سياسياً قاتماً، في العراق، نهاية السبعينات، والكتابة عن مثل هذه الكتب الشعرية ومثل هذا الشاعر، بالذات، يمثل تحدياً سياسياً لطبيعة السلطة الاستبدادية آنذاك وهي في ذروة عدوانها البوليسي على اليسار العراقي، ومؤيد الراوي "زبون" خطر وقديم لتلك السلطات حيث ذاق مرارة الاعتقال أكثر من مرة، إثر انقلاب شباط عام 1963 وما بعده.
هذا عدا ما يمثله ديوانه (احتمالات....) من نافذة مشرعة على أفكار شعرية جديدة وغير مألوفة، شغوفة بالحرية ومنفتحة على أحلام إنسانية عويصة تأخذ شكل الكوابيس.
.. وإذ أتعرف على الراوي في بيروت تدوم الصلة لنعمل في (رابطة الكتاب والفنانين والصحفيين الديمقراطيين العراقيين) سواء أعضاء في مؤتمراتها أو محررين في مجلتها (البديل) أو أصدقاء، في ما بعد حتى بعد حل الرابطة وتوقف المجلة، فالتقينا مجدداً، مرات عدة في برلين ولندن.
كان الراوي مصباح جماعة كركوك، وعدّه البعض، عرّابهم، وإذا تعرفت الى أبرز ثلاثة منهم، عن قرب في ما بعد، هم فاضل العزاوي وسركون بولص ومؤيد الراوي، في جلسات خاصة وعامة، في سهرات أو مناسبات ثقافية، في حوارات أو في جلسات عابرة، تعزز لدي الشعور بأن مؤيداً هو أكثر زميليه وابني "جماعته" كائناً يومياً متلمساً الحياة الاجتماعية ومتفحصاً قماشتها الخشنة (رغم تحليقاته الشعرية) فكان شخصية تجمع بين الشاعر مع الشارع، سواء في سلوكه الشخصي أو في تطلعه الفكري والفني.
وأكتب عنه، الآن، بلا مناسبة لأن الكتابة عن شاعر، مثل مؤيد، تتعلق بالكوني والعميق والامتداد غير المحدود للموهبة وهي تتجلى حياة كاملة عابرة للمناسبات.. شاعر مترحل بين الدهشة و "جمر ما سيأتي" كما في قصيدته إلى صديقه "جليل القيسي حارس المدينة":
رَأيتَ، ما لم نرَ: (في مِحْجَريكَ عينانِ من عقيق)/ أبصَرتنا، نَرحَلُ بريحٍ خفيفةٍ تضربُ قلوعنا .آملينَ الدَهْشةَ، نَحمِلُ جمرَ ما سيأتي، وأنتَ بنَفْس الحريق الذي شَبَّ، مَكَثْتَ/ لسَفينَةٍ
تُبحِرُ/ مِنَ/ الماضي/ تنتظرُ لها ماء الطوَفان .شاخِصاً في الزمانِ، تُرَتّبُ تاريخهُ/ تضعُ هذا الشخصَ هنا/ وذاكَ الشخصَ هناك/ لا لِمَوَدّةٍ، و إنّما الأرواحُ هكذا، تَتَخاصَمُ/ وتتصالحُ/ بَعدَ كلّ غمْرٍ، فتأتي السفينةُ جانحةً/ تبدأ برَتقِ قعرها/ مثلما تُهَذّبُ بالكلماتِ طفلاً يتعلمُ الكلام،
ثمّ تنحَتُ من الصلصال سِفْراً/ للبقاءِ، وسِفراً للرحيل".
يضع الراوي بصمته الخاصة في قصيدته الخاصة: الفن أولاً!
.. وماذا يضع الشاعر "غير الفن أولاً" في قصيدته؟
للأسف صارت قصائد الشعراء، لاحقاً، تلهث خلف منافع متنوعة، لا تبدأ بوليمة الحاكم ولا تنتهي عند طموح الشهرة، والراوي بين قلائل جداً، لم يضع لقصيدته هدفاً منفعياً، غير الشعر وتوصلات الشعر ومكابدات الشعر.
كان الراوي، محدثي، في بيروت وبرلين ولندن، حكاء معرفياً، فذاكرته هي ذاكرة العراق الثقافي/ السياسي، لكنه "يحكي" عن العراق من وجهة نظر مخالفة للتاريخ العلني للبلد، وعندما ذكرت أمامه بأنني قرأت في كتاب سياسي صدر منتصف التسعينات "من حوار المفاهيم إلى حوار الدم" في كتاب المرحوم علي كريم سعيد وهو يتابع ذاكرة طالب شبيب، عندما قرأت اسم مؤيد الراوي ضمن قادة الحركة الطلابية في كركوك وتعرضه للسجن، لم يتوقف الراوي أمام هذا كمأثرة، بل كواقعة لا أكثر وحرص على أن يتجاوزها إلى قضية أخرى.
مؤيد الراوي مدمن شاي بخلاف ما هو شائع عن الأدباء والمتأدبين وإدمانهم الخمرة، والشاي مشروب اجتماعي واسع الانتشار، وأكثر "ديمقراطية" من الخمرة، فالأول عمومي والثانية نخبوية، والأول علني والثانية سرّية (في المجتمعات المنغلقة والمحافظة) والشاي مشروب يتيح الفرصة للحديث المسؤول والمتوازن والحريص على التقاليد العامة بينما الخمرة مشروب يشتت الرأس فيشتت الكلام ويودي بتسلسل الأفكار وتركيز المفاهيم، وهكذا كان الراوي الإنسان، كائناً اجتماعياً، لم تغره أعمال الذهن ولم تشغله كثيراً عن مكوثه في المنطقة العيانية الأقرب لنبض الآخر واحترامه ومشاركته، وهذا يحصل حتى في شعره الخالي من العاطفة المتكررة والغنائية المعروفة، فابن الحياة اليومية والشارع العام هو ابن الفكرة الجديدة بمدلولاتها المعاصرة الماثلة في قلب المشهد وذكائه:
"نراهم قابعين في مدن مسورة، كل في مربعه الرمادي نائم،
مطوف بأطياف جثث.
جثث نحن
نتهامس مع الجثث.
في العام 68 ونحن في دورتنا الميتة، نرتب الأشياء فينا وننظف الشرايين بمضخات الدم، يجيء ضباط ذوو نجوم معدنية. يطفئ الضباط كواكبنا، ويدخلون بيوتنا باحثين، مثل اللصوص، عن الغنيمة".
هو قلب المشهد المزمن ونحن في دورتنا الميتة فلا نحيا إلا بالشعر وليأخذوا الغنيمة كاملة.