الروائـــي محيــي الأشيقر وموهبة التألّق بثبات

Friday 9th of November 2012 08:00:00 PM ,
العدد : 2644
الصفحة : عام ,

كانت فرحتي غامرة حين عثرت عليه مؤخرا وللمرة الأولى. ولم يكن ذلك في مالمو السويدية حيث يقيم منذ ما ينيف على ربع قرن أو في لندن أو باريس حيث ظللت لدهر أقيم. ولا في بيروت أو دمشق أو غيرهما من عواصم تشرّد كل منا الأولى بعد هروبنا في أزمنة متخالفة من ملاحقات الشرطة البعثية بسبب أفكارنا وأحلامنا الرومانتيكية المتجذرة يسارا بالفطرة ودون أدنى ندم. إنما في مكتبة "الحكمة" في شارع الإمام العباس بكربلاء وبفضل الأديب طه الربيعي صاحب تلك المكتبة التي تكاد تكون مركزا ثقافيا بذاتها، بل المركز الثقافي الحيوي الأهم، رغم أنها متخصصة بالكتب المستعملة في المدينة المقدسة ورغم أن صاحبها لا يكسب قوت يومه إلا نادراً، مصرا على رجّ العتمة والانحياز إلى الأمل.

محيي الأشيقر كان قد سبقني إلى مكان موعدنا ذاك. تواضعه العفوي والجم، لا يشي للوهلة الأولى بأسرار هذا الروائي المتألق والعصامي. بيد أن اندفاعنا التلقائي في الحال، في مقهى فقير مجاور، نحو أحاديث معقدة في الأدب والسياسة والفلسفة والأصدقاء والتاريخ، جعل الوقت يمر سريعا كطيف. وعلى كل حال، كنا نعرف بعضنا جيدا عبر وسائط شتى من قبل وأحيانا منذ ربع قرن، فيما كانت خصائص مهاراته القصصية الواثقة قد أعلنت بثبات عن ملامح منها سلفا في كتاباته المنشورة وخاصة مجموعة قصصية أولى بعنوان "أصوات محذوفة" صدرت في كوبنهاغن عام 1994 قرأتها بتمعن بعد أن تكرم صديقنا الفنان التشكيلي كاظم الخليفة بمنحي نسخة منها قبل سنوات، ومجموعة قصصية أخرى بعنوان "ضريح الصمت" صدرت في بروكسل عام 1994، ورواية عنوانها "كان هناك" نشرها في كوبنهاغن عام 1997. وعززت هذا التقييم، ملاحظات وذكريات أصدقاء مشتركين ونقاد اكتشفوا مبكرا، في نصه القلق والمثقل بالتأمل، مقدمات موهبة أصيلة لدى هذا الكاتب المولود في كربلاء عام 1952، والمتنقل يافعا منذ 1979 بين دمشق وبيروت حيث نشر في الصحف اللبنانية والفلسطينية، ثم مالمو السويدية وستوكهولم وكوبنهاغن وكربلاء ثانية بعد أن درس المسرح في بغداد.

وإذا كانت مجموعته الأولى "أصوات محذوفة" عانت تقاعس النقاد، فإن "سوسن أبيض" مجموعة محيي الأشيقر الأخيرة، أثارت عن استحقاق اهتماما بالغا منذ صدورها في القاهرة عام 2008 عن "دار شرقيات للنشر والتوزيع" بغلاف لعمرو الكفراوي. إلا أن تجربة محيي الإبداعية تحتاج بعد إلى دراسة شاملة ومتكاملة لاستكناه ملامحها الجوهرية، حيث تَفاعل نزعتين شعرية ومسرحية مع واقعية تغري أحيانا بالهم الفلسفي، ولإبراز إضافاتها العديدة إلى المنجز القصصي العراقي  لفترة العقود الثلاثة الأخيرة. وأكاد أقول المنجز الروائي، لأن قصص الأشيقر المنشورة ونصوصا كثيرة أخرى تنتظر النشر، هي أشبه بأجزاء من رواية واحدة تتوالى فصولها عن غير قصد مستفيدا من قطيعة واعية مع الايدولوجيا كما مع السردية الواقعية وحتى الرومانسية وقابلياتهما دفعة واحدة.

بكلمة أخرى، لست متخصصاً في الأدب القصصي المقارن كي أتناول بمسؤولية حيثيات المعطى الفني في "سوسن أبيض" أو مجمل تجربة مؤلفها الإبداعية. بيد أن آراء مهمة كثيرة سبقتني في محاولة تقييمهما بجرأة وإسهاب أحيانا، كما لدى الأساتذة هاشم مطر أو سعد عبد الرحيم أو عبدالكريم هداد أو حسين سرمك حسن والعديد سواهم برغم بعض الحماس الذي لا نجاة منه عادة، تطرح دلالات واثقة على استثنائية خصب التجربة ذاتها. فحسب هاشم مطر مثلا يندرج أدب محيي الأشيقر ضمن التجارب الحداثية الكتابية العربية لسعيه إلى "جعل النص متفوقاً على نفسه" لجهة شكل الحكاية وشخوصها وأبعاد عقدها وسبله إلى حلها عبر لغة سرد مبتكر توحي بالبحث عن "زمن جديد". وهي لغة سلسة متدفقة وملتوية غامضة في آن، في رأي سعد عبد الرحيم، تقترب أحيانا من التداعي الحر أو من لغة المتصوفة في بعض المواضع متنقلة "بين مستويات وأنساق مختلفة في السرد"، يستخدم المؤلف في مقابلها "طرقاً متباينة في البناء القصصي حتى في نسيج القصة الواحدة". لكن عبدالكريم هداد، يجد في قصص الأشيقر أيضا، "مقدرة إبداعية في تحريك شخوص روائية داخل مساحة القصة الضيقة"، معتمدا على شخوص مبتكرة وخيالات قريبة من تلك المتوهجة بفعل سطوع الضوء السينمائي المبهر، تتفجر بما تحمله من عالمها المتسارع بالانكسارات والخيبة، "عابقة ببيئتها العراقية المختلفة الاتجاهات الحياتية والفكرية".

لكن "سوسن أبيض" - التي تضم خمس قصص هي "نار لائذة بالخزف" و"كآبة بيضاء" و"الدور الأخير" و"حسب رغبة انغمار" و"فاكهة الغرباء"، كتبت بين عامي 1993-1998 في كوبنهاغن- لا تعنى في الواقع في أن تنبش "معاناة" الكاتب في الغربة أو تعكس جوانب من حياة "الوحشة والإحباط والمرارة التي يمضيها المبدعون في المنفى" كما اعتقد جزافا عدد من النقاد متوهمين أن المبدع، في ما يسمونه المنفى ويقصدون المهجر، لا شغل ولا عمل له سوى معاناة الوحدة والوحشة والفراق والنفي. بل وجدنا تلك النصوص، لا سيما المتأخرة منها، لا تهتم بتلك الأمور بتاتا أو تعاكسها، منهمكة بصراعات وجودية لا تنتهي، معبرة عن حالة إبداعية سلسة وطبيعية، وتفردية وكونية في آن، هي تلك التي يعيشها أي مبدع أصيل، وأينما وجد نفسه مهاجرا، يجتاز بها مرحلة البراءة وكل ما يقترن بها من مشاعر حسية أولى. فالعالم، وحسب اللحظة المعنية، كله وطن أو منفى أو مهجر بالنسبة للمبدع شرط أن يكون حقيقيا.

وفكرتنا الجوهرية الأخرى، ببضع كلمات، هي أن هوية محيي الأشيقر، وجيله من المبدعين العراقيين في بلدان الشتات، جيل الثمانينات والتسعينات خاصة ومهما كانت مشاربهم الفكرية أو اللغوية، لم تنضج في حاضنة أو بيئة عراقية محضة أو على الأقل حاضنة عراقية تقليدية إنما نشأت وشبت وأزهرت واثمرت في بيئة "هجينة" وبصفتها هذه حققت، في نماذجها العالية، عمقا خاصا وخصبا وتوترا في بعدين على الأقل هما الكوسموبوليتية والتعددية في تباين واضح مع موازياتها في الداخل التي ظلت أحادوية وأصالوية  في  مجالات الإبداع كافة في الواقع وعلى صعيدي التقنيات والمحمولات.

فالقصة العراقية لكتاب الخارج في التسعينات وكذلك الرواية، واكبت وضاهت معاصرتها في الداخل على كل الصعد تاليا، رغم صعوبة الفصل بينهما، بحكم ما عرفته هي أيضا من معاناة تجربة متميزة بذاتها وحرية داخلية فعلية وعميقة واحتكاك بالتجارب العالمية، والأمثلة عديدة، رغم أن فن القصة والرواية العراقي في العقدين الأخيرين من القرن الماضي، ظل، وبفعل حصارات لا تحصى، يراوح في استلهام بل محاكاة تجارب ونماذج ناضبة الأعماق إلا في ما ندر. وهو حال سيتلاشى تدريجيا مع مطلع القرن الجديد حيث عاد المبدع العراقي في الداخل إلى التصالح مع حريته من جديد بفضل سقوط القمع والكبت ملتقياً، وفي كل المجالات، مع مبدعي المهجر الذين هم بدورهم تحرروا من براثن الحنين والأنين.

هناك قطعا رتابة وسطحية وحتى سرقات في نصوص وأعمال المؤلفين والفنانين العراقيين في الخارج خلال فترة الظلام البعثية في العراق. إلا أننا نتحدث هنا عن النماذج اللامعة ما دمنا بصدد أعمال محيي الأشيقر الذي يمتلك مفهومه الخاص عن هذا الكائن المسمى بالمنفى تارة أو المهجر أو بغير ذلك تارة أخرى.

في قصص مجموعاته "سوسن أبيض" و"أصوات محذوفة" و"ضريح الصمت" كما في روايته "كان هناك"، ثمة بهجة داخلية خاصة لا منتمية ووجودية حقيقية يبثها محيي الأشيقر، تعبر عن نفسها بضربات فنية وجمالية تتوازن فيها المغامرة الإبداعية مع "رسائل" أو مضامين تسعى لأن تكون حرة وبسيطة بالحدود التي يسمح بها ميل طوعي إلى لغة مكثفة حتى حدود الرمزية أحيانا، لغة يحد من غلوائها حذر مؤرق من الوقوع في إغراء الشعرية المفرطة بل فيها استلهام لعوالم مفعمة بالنبض اليومي، المنتج أو المستبطن، ومهارة وسلاسة في الجدل الداخلي، قد تكون مكتسبة جزئيا من سنوات دراسة المسرح لديه، كاشفة ومشحونة بهمّ زج مكونات حية أكبر ما يمكن ومتباينة المضامين والمصائر إلى أبعد حد. 

وفي هذا الصدد ثمة ولع في منح تلك المكونات تلوينات وتنويعات عراقية إنما ظاهريا وحسب، لذا يصعب حبس فن محيي الأشيقر القصصي في أطر مفاهيم نوستالجية أو التزامية منبثقة عن معارضات ذهنية ووهمية من شاكلة عراق/مهجر أو وطن/منفى أو خارج/داخل ما شابه حتى الأكثر براءة بينها.

ومحيي يخبرنا هو نفسه أن الشائع عن مفهوم المنفى هو أنه تجربة متعارضة مع تجربة المكان أو الوطن الذي ينتمي له الإنسان، لكن ما جرى للعراقيين في العموم هو خروج على الشائع أو المتعارف عليه في هذا الشأن، إذ وجد العراقي نفسه مرارا، خاصة إبان حقبة التسلط والاستبداد منتميا لمنافيه الروحية والمكانية.. بأكثر من صورة وتعبير، بسبب عنف السلطة وحروبها المتكررة إلى درجة القول إن المنفى بحاجة إلى تعريف مثلما الوطن. إذ يظل السؤال الجوهري لديه "ما هي قيمة الإنسان، ما هو معناه، وكيف يمكن حماية كرامته وتأمين حقوقه؟".

فواقع ووقائع حياة العراقيين في كثير من الأحيان "أكثر خيالاً من الخيال.." كما أن مفردات كربلاء وبغداد وبابل والسماوة والديوانية والبصرة وأرياف الفرات الأوسط، وتالياً بيروت ودمشق وعدن والقاهرة ومسقط وستوكهولم ومالمو وكوبنهاغن، ليست  مجرد أسماء أعلام لأمكنة، بل هي "أنوار ومباهج وتواريخ من أعمال الروح والجسد والذاكرة". وهذا الجوهر الاستثنائي تحديدا ما تنهمك في استبطانه، وأحيانا الكشف عنه، قصص محيي بأدوات فنية قد تكون مستلهمة أو مركبة أو مبتكرة، إلا أنها تبدو خاصة أيضا. وكل هذا ينتظر من يقدم على دراسته في محاولة جدية ومنهجية وشاملة.