موسم الفقدان يخدش زمن التوهّج : عبد الإله النعيمي توسّد ظلال ذاك الزمن...!

Saturday 22nd of June 2019 09:23:47 PM ,
العدد : 4454
الصفحة : مقالات رئيس التحرير , فخري كريم

 فخري كريم

كما عاش يتعثـر بخجله، رحل عبد الإله متلفعاً بعباءة حسِّه المرهف بغياب الوطن الذي ظل حلماً يتشوّف لمعانقته واقعاً يبدّد يأسه ووجع من كانوا مثله الأعلى في البحث عن نهاية غير ما صار إليه الوطن ، مثل الذين هجرونا إلى حيث رقدتهم الأخيرة في مقابر الغرباء بعد أن أدار لهم الوطن ظهره عسفاً وإنكاراً ..

كتب لي قبل بضعة أسابيع السطور التالية :

" أبو نبيل العزيز

يبدو أني ملتحق بالركب . منذ ١٣ نيسان والأطباء جرّبوا كل شيء . الآن وصلنا الستارة الختامية .!

وليس عندي سواك أتوجه إليه للاهتمام بيسار ووالدتها إنعام العبايجي ، وأنا واثق إنك لن تقصر .."

خانتني العبرة ، فلعبد الإله ، وإن لم أذكر يوماً ، إضاءة من توهج أيام تتسلل إلى أعماق جيلٍ زاخر بالعنفوان ، والأمل ، وطاقة العطاء ، والصبر على المكاره والنوائب والتعسف ..

كنت التقيه كل يوم في "طريق الشعب" في سبعينيات القرن الماضي ، لا تسمع له صوتاً، ولا يوشوش بنميمة ، وحين يغضب ، يصعب على من لايعرفه ، إدراك ما علاقة ابتسامته بالغضب ، ويستحيل عليّ أن أتذكر عبارة خادشة أو تعبيراً موبوءاً عن أيٍ كان . كان لا يشبه سوى نفسه ، نائياً بها عن كل ما يراه من تشوّه جارحٍ في سلوك بعض مجايليه من المثقفين . 

ولم اكتشف المخبوء وراء ملامحه اليومية إلا بعد سنوات عجافٍ ظلًمت حياتنا مرحلة تسّيد البعث وطغيانه على مصائرنا ومستقبل شعبنا . وقد فرّقت الأيام بين الآلاف من خيرة بنات وأبناء ذلك الجيل الحالم ومثقفيه ، وكنت قد انتقلت إلى الشام وبيروت لأنظم هجرة الملاحَقين وأعيد من تأهّل منهم " تدريباً واستعداداً " للعودة إلى كردستان والإنخراط في الحركة الأنصارية ، أو التوغل عميقاً في أرجاء الوطن في العمل السري .

في تلك الظروف المنذرة بالكبائر ، رأيت أن أبادر لوسيلة تُجنّب الحزب المساءلة ، وكان في وضع انتقالي ، واستمرارٍ في العمل العلني ، ومراودة من بعض قيادييه لإعادة الحزب إلى أحضان " الجبهة " وطريق الشعب تواصل الإصدار ، ومقره العام يتشبث بالبقاء فأصدرت بياناً عن ظهور " الحركة الديمقراطية ضد الإرهاب " وإصدار " الاحتجاج " كلسان حالها ، ولم أجد غير عبد الإله ليكون شريكي في ذلك النشاط حافظاً لأسراره حتى على قيادة الحزب .

كنا نسهر الليل ، أكتب أنا ، وعبد الإله يترجم إلى الانكليزية ويطبع على الآلة الكاتبة ، ثم نتابع معاً تفاصيل الطباعة والرزم والتوزيع على حلقات ضيّقة في مختلف البلدان دون أن يتعرف أحد على مصدر الإرسال ، بالتمويه على أن " روما " هي مركز الحركة وإصدار الاحتجاج والبيانات الصادرة عنها ..! 

وئدت الحركة بعد انتشار بنميمة من قادة في الحزب الشيوعي اللبناني الذي ربطته علاقة مصلحة مع البعث ، وتحفّز التيار الداعي للمصالحة والعودة الذليلة إلى جبهة البعث بإصدار قرار تصفية وجود الحركة وإيقاف الاحتجاج ووضعي في مواجهة المساءلة ودائرة الشبهات بمحاولة خلق بديلٍ للحزب ..!

أستعيد هذه المساحة المضيئة ، لأّذكّر بمأثرة عبد الاله التي ظلت طي الكتمان ، ولم يحاول يوماً إماطة اللثام عنها ، إدعاءً أو محاولة للنيل من الحزب ، وظل مترفعاً عن الصغائر حتى لحظة رحيله .

الفقدان والكتمان متلازمان لا يفترقان في حياة الذين وهبوا حياتهم للمستقبل . 

ورغم كل الأهوال والمحن والرثاثة وسقوط الأصنام والإشكال ، فإن الآلاف من النساء والرجال في هذا العراق " الناكر للجميل " يُكملون سيرة عبد الإله ، ويغادروننا وهم يطوون أسرار مكابداتهم وتضحياتهم ، حتى تلك الأسرار التي تميزهم بوصفهم خارج سرب المتواطئين ضد الحقيقة ..!

أيكون عليّ أن أنعى بعضاً من صميمي ، وقد تثاقلت الأيام لكثرة ما حل فيها من عبث بمصائر وطن مستباح ، وشعب مغلول الإرادة ، مستلب الحقوق يحيطه إينما توجه الجور ونكران جميل ..