في أصول الديمقراطية...

Sunday 14th of March 2004 07:16:17 PM ,
العدد : 73
الصفحة : مقالات رئيس التحرير , فخري كريم

فخري كريم

اقترن إقرار قانون إدارة الدولة الانتقالي بالإجماع، بقدر من التوتر والاستعصاء والتأجيل، أعقبته تحفظات عدد من أعضاء المجلس، ممثلي التيار الإسلامي الشيعي.

لقد أبدى الموقعون جميعهم تقريباً، ملاحظة أساسية مفادها، أن القانون ما هو إلا تحصيل حاصل “توافق سياسي”. يجسد التطلعات العامة لهم، لكنه لا يلبي كل مطالبهم “الخاصة” فالقانون من هذه الزاوية “يرسي لأول مرة، بعد عقود من الإلغاء والإقصاء والاستبداد، قاعدة دستورية، مؤقتة لإدارة البلاد، يعتبر خطوة هامة على طريق بناء دولة القانون والحريات والحقوق المتساوية، وضمانة لتجنيب دفع البلاد نحو شمولية استبدادية جديدة، مهما كان طابعها أو لونها أو مضمونها.

إن هذا التقييم الإيجابي المتحفظ لا يخفف من قلق مشروع إزاء بعض الأوساط التي تسعى لفرض مثل هذه الشمولية على البلاد ولو على قاعدة “شرعية” منتزعة من حالة الفوضى السائدة والانفلات الأمني، ومراكز القوى السرية، ومخلفات الدولة الاستبدادية المنهارة.

ومما يثير القلق أيضاً الاستقواء بالسلاح المستباح ومستودعاته المنتشرة في شتى أنحاء البلاد، التي تعبث بها أياد لا يمكن للشعب أن يأتمن أصحابها على حماية الديمقراطية، خصوصاً وهناك من لا يمانع في أن تولد دولتنا وديمقراطيتنا بولادة “منغولية”!

في مثل هذه الظروف، من حق مختلف الأوساط الشعبية أن تقلق على مستقبل وطنها، ومن حقها أن تبحث عن ضمانات لاحترام إرادتها، لكي لا تكون ضحية نوايا البعض ممن يرى في الديمقراطية شكلاً مناسباً ووسيلة ميسرة لإمرار مشروع لا علاقة له بالديمقراطية.

فالديمقراطية لا تستقيم بدون الاختلاف والمعارضة.

ومن المبادئ الأساسية للديمقراطية احترام حق التظاهر والاعتصام والتنظيم وتشكيل التكتلات السياسية، باعتبار ذلك كله في اساس حرية الرأي والمعتقد والنشر وغيرها من الحقوق الضامنة للديمقراطية نفسها.

وفي مثل أجواء كهذه ينضج الفرد العراقي ومعه تنضج الحركات الشعبية، وتترعرع وتنمو وتتوسع عناصر وهياكل المجتمع المدني، لتتحول كلها إلى صروح تكرس الديمقراطية وأسس دولة القانون والحريات.

ولابد من العمل في سياق 1ذلك لتطوير وتأمين شروط وعناصر العملية الديمقراطية التي لا يمكن اختزالها في الانتخابات او الاستفتاءات أو مجرد التظاهر والتعبير عن الرأي.

من هنا فإن من حق المتحفظين الإسلاميين الشيعة داخل مجلس الحكم وخارجه التعبير بالوسائل السياسية عن تحفظاتهم والعمل من أجل أخذها بنظر الاعتبار عبر وسائل الإقناع وبالإنطلاق من المصالح الوطنية العليا.

كما إن من واجبهم الأخذ بالاعتبار أيضاً، مصادر القلق لدى أوساط شعبية وسياسية واسعة، ومنها كثرة صامتة، ترى أن بعضاً من المعنيين بهذا الصراع يكيل بمكيالين ويسعى للتعامل مع الديمقراطية باعتبارها وسيلة للوصول إلى السلطة وليس كقاعدة للحكم.

ومما يثير قلقاً مضاعفاً،... أن بعض أوساط المتحفظين من “البيت الإسلامي الشيعي” يتكلم باسم الشيعة كلهم دون أن يمنح مثل هذا الحق، بل والأكثر من ذلك أنهم في الوقت الذي يؤاخذون مجلس الحكم على أنه غير منتخب، يمنح نفسه الحق في تقييد هيئات ينتخبها الشعب،... يستقوون ويلوحون بالمرجعية التي لا شك أنها تحتل مكانة أثيرة دينياً، لدى جمهرة المؤمنين والمقلدين وسائر المسلمين لكنها ليست مرجعاً سياسياً وهي فوق ذلك ليست منتخبة أيضاً، ولهذا الاعتبار ولاعتبارات أخرى معروفة لا يمكن أن تكون مرجعاً للقرار السياسي في بلادنا لأنها قد تخلق تداعيات سياسية إن في طبيعة النظام المنشود أو وجهة تطور البلاد ديمقراطياً وهو ما يجري التأكيد عليه دائماً من قبل الأوساط الإسلامية الشيعية إنها غير واردة.

إن تعزيز دور المرجعية الدينية ونفوذها كمصدر إيماني للمسلمين، يحّمل الدوائر السياسية، كلها وخصوصاً الأحزاب والتجمعات السياسية الإسلامية الشيعية مسؤولية الحفاظ على هذا الدور والنفوذ وتوسيعهما في إطار مسؤوليته كمرجع للإفتاء والإرشاد والاجتهاد في قضايا الدين والسهر على ضمان حرية العبادة وممارسة الطقوس والشعائر الدينية.

وهذا التوصيف ينسجم ويعكس طابع المرجعية المذهبية الشيعية الذي يتجاوز بحكم موقعه ومهامه حدود الدول والأوطان والجنسيات وهو ما يعفيها من أي اعتبار له علاقة بالسياسات المحلية أو شروط ممارستها في حين أن مصادر القرار السياسي الوطني تتطلب مواصفات وشروطاً ذات طابع محلي وطني لابد من احترامه وأخذه بنظر الاعتبار إذا كنا نحرص على إزلة أي التباس أو قلق من تداعيات سياسية.