الافتتاحية:الدولة المنسية وثلاثية الفساد والإرهاب والطائفية:حل الجيش وتبديد الزمن..

Tuesday 26th of April 2011 07:35:34 PM ,
العدد : 2112
الصفحة : مقالات رئيس التحرير , فخري كريم

 فخري كريم

(5)

 مثلما تحول قانون "اجتثاث البعث" إلى أداة ترويج وتسويق للبعث ولرموزه والمسؤولين عمّا ارتكبه نظامه ومواصلو "رسالته الرثّة"،

فإن قرار "حل الجيش" شقّ دروب الفتنة والتيه وتبديد الزمن أمام إعادة بناء الدولة المتهالكة

 التي تحولت إلى خردوات على قارعة الطريق تتقاذفها أرجل المارة ويتناهب أسرارها صيادو جوائز الحروب والمتلصّصون الذين أضناهم الخوف من التعرف على أسمائهم ووشاياتهم على الأهل والأصدقاء والجيران ورفاق الطريق.

وقد ظل لغز الاجتثاث وحل الجيش طيّ الكتمان، دون أن تكون التفسيرات الاستباقية التي ساقها بريمر والعراقيون الذين كان لهم دور في صياغتهما، على قدر من الكفاية في الإقناع والتبرير. فالتفسير الذي تم إيراده بتواتر وإلحاح، أكد على ضرورة تجنيب العراق مخاطر قيام الجيش في حالة الإبقاء على قوامه وهيكليته وأفراده، بمغامرة الإجهاز الانقلابي على العراق وعرقلة بنائه من جديد. وكان من الممكن أخذ هذه الحجة محمل الجد لو أن الإدارة المدنية للاحتلال والقيادة المركزية لقواته، لم تعمد بالتزامن مع قرار حل الجيش إلى بناء نواتات للقوات المسلحة والشرطة والمخابرات من منتسبي الجيش الذي لم يمر على قرار حله سوى بضعة أسابيع، ولو أن التجميع الجديد لهذه النواتات الهجينة لم يتقرر على عجل وعشوائية، وبلا دراية بسيرة المتقدمين للانخراط في سلكها وتشكيلاتها العسكرية والأمنية. وهي ذات التشكيلات التي ظلت هدفاً للاختراقات من الإرهابيين والميليشيات المسلحة منذ لحظة تأسيسها حتى يومنا هذا.

 ويزداد التساؤل إثارة إذا ما تابعنا الخطوات المتناقضة التي قام بها الجيش الاميركي، ولم تتوقف الحكومة العراقية أمام تداعياتها لحد الآن. فقد أقدمت سلطة الاحتلال على تدمير معظم سلاح الجيش العراقي "الثقيل" بما في ذلك الطائرات والدبابات والدروع، وحولتها إلى "حديد خردة " أباحت للتجار الاستيلاء عليه وتصديره إلى الخارج، مجاناً، على أساس أن ما يقومون به يدخل في باب "تنظيف المعسكرات والمستودعات"! ويستحقون عليه أجوراً، تعتبر "الخردة" في مثل هذه الحالة تعويضاً ضمنياً عنها.

لقد جرى هذا في حين أنها تركت الأسلحة الخفيفة والشخصية نهباً لمن يشاء بين البيوت والمحلات وفي المستودعات المكشوفة وسط قلق المواطنين وشكاواهم واستغاثاتهم لتخليصهم منها دون جدوى. وكان واضحاً أن أحداً لم يفكر بإعادة تكديسها والحفاظ عليها، وهي المهمة التي قامت بها القوى المضادة والميليشيات المسلحة وتنظيم القاعدة وتجار السلاح الذين غنموا أكبر كمية منها وأصبحوا فيما بعد مصدراً سهلاً ورخيصاً للذين سيستبيحون دم العراقيين ويستنزفون قواهم بالإرهاب المنفلت المنتشر في كل مكان.

إن مليارات الدولارات من السلاح العراقي جرى تبديده من خلال قيام الجيش الاميركي بتدميره. ويمكن اليوم رد الحجج التي تساق حول خطر وقوعها تحت تصرف بقايا النظام السابق، وبما يمكنها من مواجهة الوضع الجديد. إذ من الواضح أن مثل هذه الإمكانية كانت معدومة تماماً، إذا أخذنا بالاعتبار أن الجيش تفكك كليا بمجرد دخول الجيش الاميركي إلى بغداد، بل حتى قبل ذلك، في لحظة اقتراب طلائعها من المدن القريبة من العاصمة، وبالتالي لم يكن في وارد أي عسكري المغامرة بالوصول إلى الدبابات والدروع، وكانت موجودة تحت الجسور وفي الطرق العامة دون أن يلتفت لها احد.! وإذا افترضنا أن إمكانية استخدامها ولو بنسبة ضئيلة قائمة، فهل كان نقل هذه الأسلحة إلى معسكرات الجيوش الاميركية وحلفائها متعذراً؟ ولو تجاوزنا الدبابات والدروع، فلماذا تم تحطيم الطائرات العسكرية بنفس الطريقة؟، وهل الطائرات هي الأخرى كانت عصية على النقل إلى أماكن أمينة وتحت أنظار القوات الاميركية؟. ولو افترضنا، مع الخطأ المسبق لهذا الافتراض، أن نقل الطائرات التي كانت قيد الاستخدام صعب ومستحيل، فلماذا تم بقصدية مريبة، تدمير طائرات الهليوكوبتر "المحفوظة" بكراتينها، والمخفية في المستودعات والمخابئ السرية التي تم الاستدلال على مواقعها.

تلك تساؤلات تتناول جانباً خطيراً من كيفية التعامل مع ثروة عراقية، كان الحفاظ عليها يساهم في إعادة تأهيل الجيش الجديد بسرعة ويضمن تسليحه ولو مؤقتاً، لحين إعادة النظر بفلسفته الدفاعية ومصادر تسليحه ووجهة بنائه. وهذه التساؤلات لا ينبغي أن تذهب أدراج الرياح، بل لابد لها أن تتفاعل ما دام المطلوب في هذه الفترة تنشيط الحوار حول الموقف من تجديد أو تعديل الاتفاقية الأمنية مع الولايات المتحدة والالتزامات المتبادلة في هذا الإطار. لكن الجانب الآخر المرتبط بمسألة قرار حل الجيش أو "الحكم على ميت"، وعواقب ذلك على الفوضى الأمنية التي ما تزال تضرب أطنابها في طول البلاد وعرضها، يكتسب أهمية استثنائية وبالغة الخطورة. فالقرار بحل الجيش، تحقق دون حاجة لفرمان بول بريمر، إذ أن منسوبيه تركوه يتيماً بلا حولٍ ولا قوة، لا "جبناً" ولا "فرارا" بل تعبير بليغ على رفض الجسم الأساسي للقوات المسلحة لنظام صدام وتمرد على سلطته الاستبدادية التي أنهكتها وأهانتها وأذلت كرامتها في حروب النظام ومغامرات الطاغية.

إن ما تمخض عن قرار الحل تجسد في عقوبة "إنسانية" وجهت إلى عوائل الآلاف من الجنود وضباط الصف والضباط بمختلف رتبهم، الذين وجدوا أنفسهم مكشوفين بلا عمل أو مورد، ومنهم من كان مستعداً دون تردد لخدمة النظام الجديد في أي موقع يوضع فيه، شرط الحفاظ على كرامته، وهذا ما لم يتم بفضل الإجراء المتهور لسلطة الاحتلال. والدليل على ذلك أن مئات الآلاف من المنتسبين إلى الجيش والقوات المسلحة الحالية هم من أفراد الجيش المنحل، باستثناء أن استرجاعهم لم يستند إلى فرز عادل سياسي ومهني، بل جرى على أساس المحاصصة المبتذلة التي ضيّعت معالم ووقائع وهويات. ويمكن أن تكون قد ضحت على هذه القاعدة، ووفقاً للأهلية والكفاءة والتجربة والتاريخ المشهود، بعناصر وطنية مخلصة وبريئة مما علق ببعض من أتيحت لهم العودة ولا يزال الكثرة منهم يتعرضون للإبعاد بسبب سجلاتهم وسلوكهم وماضيهم غير المحمود.

قد يقال في معرض تبرير حل الجيش، انه يتحمل مسؤولية ارتكاب جرائم إبادة جماعية في مراحل مختلفة من تاريخه، وخاصة في الحملات العسكرية ضد الشعب الكردي، الأنفال والكيمياوي، والتصدي لقمع انتفاضة31 آذار 1991 وغيرها من الحملات والحروب في الداخل والخارج. وهذا صحيح ، منذ تغيير عقيدته على أيدي البعث بعد انقلابه الدموي في ٨ شباط عام ١٩٦٣ وبعد عودته إلى السلطة في ١٩٦٨، وما لحق ذلك من تصفيات جسدية وسياسية وتبعيثه بنفس الأدوات والوسائل التي اتبعها في عملية تبعيث الدولة والمجتمع. لكن كل ما فعله واتخذه بحق الجيش لم يؤد إلى تفريغه من قاعدته الوطنية. وما نجم عن تبعيث المجتمع وتصنيفاته، إلى "منتمين وان لم يؤمنوا" أو "بعثيين على كراهة منهم" و "بعثيين وان لم ينتموا" شمل العسكريين أيضاً . ولابد من اخذ هذا الواقع بنظر الاعتبار في مجرى معافاة العراق وتصحيح مساراته على كل الصعد ومنها بشكل خاص ميدان المصالحة الوطنية المختلة.

إن من الضروري الالتزام بلا نكوص، بتكريس العقيدة الدفاعية للجيش "عن الوطن " وعدم زجه تحت أي ظرف في التعرض للشعب والمشاركة في التصدي له أو التحول إلى أداة لقمعه.

إن إعادة تقييم القرارات التي اتخذتها سلطة الاحتلال ومنها بشكل خاص قرار حل الجيش  لن تصفّر خسارة، مادية وبشرية ومعنوية، بل تتأتَّ قيمتها من تصحيح المسارات الخاطئة في بناء الدولة وأجهزتها ومؤسساتها. كما أن من شأنها تكريس مفهوم "وطني" للتوازن المطلوب فيها جميعاً، على أسس الكفاءة والنزاهة والاستعداد على البذل لخدمة الدولة، الراعية والحاضنة للشعب، وليس للترضية والولاء للطائفة والحزب وخدمة المصالح الضيقة.

وإشاعة مناخ التوازن الوطني وفقاً لهذه الأسس قد يمهد ويضعنا على طريق اعتماد المواطنة الحرة المتساوية، ويدفع إلى الوراء ولو خطوة واحدة مظاهر التخندقات الطائفية ومفاهيم العزل المرتبطة بها.

وفي مجرى هذا التقييم الوطني لابد من حراك يعيد النظر بما هو قائم من اختلالات في التوازن الذي يريد ملوك وأمراء الطوائف الحفاظ عليها كما هي الآن، والمضي بها إلى متاهات ابعد