الإنسانية العابرة TRANSHUMANISM: الـخـلـفـيـات الـثـقـافـيـة والـفـلـسـفـيـة

Tuesday 6th of August 2019 09:51:04 PM ,
العدد : 4486
الصفحة : عام ,

ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي

المؤلف : نِك بوستروم

- القسم الثاني -

يمكننا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر رصد ملامح من الفكرة التي تفيد بأنّ الكائنات البشرية ذاتها يمكنها الإرتقاء بوضعها البشري بواسطة تطبيق العلم والوسائل المقترنة به ، وقد تفكّر كوندورسيه ملياً بشأن إطالة أمد حياة الكائن البشري باستخدام وسائل العلم الطبي :

هل سيكون أمراً مقترناً بدواعي السخف لو إفترضنا بأنّ الإرتقاء بالجنس البشري هو أمرٌ يجب إعتباره عُرضة لتقدّمٍ من غير حدودٍ معيقة تقف في طريقه ؟ وهل سيكون أمراً سخيفاً كذلك لو إفترضنا إمكانية قدوم زمانٍ سيكون فيه الموت أمراً ناتجاً عن حوادث غير طبيعية فحسب ، وبأنّ التداعي التدريجي الذي لاينفكّ يتزايد في الطاقة الحيوية للكائن البشري ليس قدراً مقدوراً لامفرّ منه ، وبأنّ الفترة الفاصلة بين الولادة وحتى الطور الختامي لتداعي الطاقة البشرية ( الموت ، المترجمة ) يمكن أن لايكون محكوماً بزمان محدود بأي شكل من الأشكال ؟ ليس من شكّ في أنّ الإنسان لن يكون خالداً ؛ ولكن أليس في وسعنا إلى إطالة المدى الزمني ، وبثبات لايُقهَر ، بين اللحظة التي يبدأ فيها الكائن البشري بالحياة وبين ذلك الوقت الذي سيأتي على نحو طبيعي عندما يشعر فيه الكائن ذاته بأنّ الحياة ماعادت سوى عبءٍ غير محتمل ولكن من غير أن تثقله العلل أو الإصابات المميتة ؟ 

أبدى ( بنجامين فرانكلين ) توقاً رغائبياً ممضّاً للحركة البشرية التي يمكن إيقافها ( بصورة كيفية وعند الحاجة ، المترجمة ) ، وهو إذ يفعل هذا فإنما يتصادى مع حركة تجميد الجسد البشري بغية الحفاظ عليه لآماد طويلة : 

أتوق لرؤية الأمر ممكناً ..... أن نكتشف طريقة لتحنيط الغرقى بكيفية تمكّننا من إستعادتهم للحياة ثانية في أيّ وقت نشاء ، مهما كان بعيداً في المستقبل . أنا أحمل رغبة مفعمة بالحماسة لرؤية الحال الذي ستكون عليه أميرِكا بعد مائة عامٍ من اليوم ، ولأجل تحقيق هذه الرغبة المُمضّة فأنا أفضّلُ بدلاً من أية ميتة طبيعية أن أحشَرَ مع مجموعة قليلة من صفوة أصدقائي الخلّص في برميل خشبي مصنوعٍ من خشب جزيرة ماديرا ( الأطلسية ، المترجمة ) ..... حتى يأتي ذلك اليوم الذي أستعادُ فيه إلى الحياة بفعل التأثير المنعش لحرارة شمس بلادي الحبيبة ! لكننا ..... في كل الأحوال الممكنة والمحتملة لامحيد من أن نعترف بأننا نحيا في قرن لم يشهد سوى النزر الضئيل من التطوّر ، ولم يزل في طور اليفاعة العلمية لكي نرى مثل أفانين هذه الأفعال المدهشة ( التي ذكرتها أعلاه ، المترجمة ) وهي تقترب من تخوم الكمال في عصرنا الذي نعيشه اليوم ...... 

بعد نشر كتاب داروين المسمّى ( أصل الأنواع) ( 1859) بات ممكناً وبصورة متزايدة تصوير النسخة السائدة آنذاك من الإنسانية لا على أساس كونها ذروة سُلّم التطوّر البيولوجي بل أنها محض طورٍ مبكّر من التطوّر فحسب ، وربما يكون صعود النظرية العلمية في الفيزياء ورسوخ النظرة الفيزيائية في المذهب المسمّى ( الطبيعانية* Physicalism ) قد ساهم مساهمة كبرى في ترسيخ الإعتقاد بأنّ التقنية يمكن أن ترتقي بحياة الكائن البشري : على سبيل المثال ثمة نمط بسيط من الرؤية المادية كان قد إقترحها عام 1750 وبكلّ شجاعة الطبيب والفيلسوف المادي الفرنسي ( جوليان أوفراي دي لا متغي ) في عمله المسمّى ( آلة الرجُل L’Homme Machine ) والذي جادل فيه بأنّ " الإنسان ليس سوى حيوان ، أو مجموعةٍ من النوابض التي تحرّكُ الواحدة منها الأخرى " ، وإذا كانت الكائنات البشرية مصنوعة من المادة التي تطيع ذات القوانين الفيزيائية الحاكمة للمادة التي تقع خارج نطاق أجسادنا فسيكون حينئذ أمراً واجب البداهة إذا ماتعاملنا مع الطبيعة البشرية بنفس طريقة تعاملنا مع الأشياء الخارجية في العالم الذي نعيش فيه ونتعامل معه . 

يُقالُ أن عصر التنوير قد خبت جذوته بعد أن صار ضحية لطموحاته المبالغ فيها ، وهكذا أخلى السبيل أمام بزوغ الحركة الرومانتيكية Romanticism وشيوع ردّات الفعل المناهضة لقواعد العقلنة الآلية الممنهجة ولكلّ محاولات السيطرة العقلانية على الطبيعة ؛ الأمر الذي يمكننا معاينته في بعض الكتابات مابعد الحداثية ، وفي حركة العصر الجديد ، وفي الحركات الكثيفة المناصرة للسياسات البيئية المرشّدة ، وكذلك في بعض أشكال الحركات المناهضة للعولمة ؛ لكن برغم كلّ هذا مايزال ميراث التنوير القائم على قناعة راسخة بقدرة العقلنة البشرية والعلم هو أعظم العناصر المُشكّلة للثقافة الحديثة . يلخّص الفيلسوف ( كانت ) الأمر كلّه في مقالته ذائعة الصيت المعنونة ( ماهو التنوير ؟ ) المنشورة عام 1784 وبالكيفية التالية : 

التنوير هو تخلّي الإنسان عن قلّة خبرته التي يصنعها هو بنفسه ، وقلّة الخبرة هنا ( وهي كناية عن عدم النضوج ) هي إنعدام قدرة المرء في إستخدام فهمه الخاص من غير أن يكون منقاداً بتوجيه آخرين . إنّ مثل هذا الشكل من قلّة الخبرة يكون مصنوعاً بطريقة ذاتية عندما لايكون سببه إنعدام الذكاء بل فقدان القدرة والتصميم ، وقبل كل شيء الشجاعة ، في أن يستخدم المرء ذكاءه الشخصي من غير أن يكون منقاداً كالأعمى لما يمليه عليه آخرون ؛ وعليه فإنّ شعار عصر التنوير هو : Sapere Aude ! إمتلِك الشجاعة لكي تعرف . إمتلك الشجاعة لتستخدم ذكاءك الشخصي ......... 

قد يُظَنُّ أنّ العنصر الأكثر إلهاماً للفكر العابر للإنسانية هو الفيلسوف فريدريك نيتشه الذي جاءت شهرته بسبب مبدئه المعروف عن الإنسان الخارق der Übermensch :

أنا أدعو بتعاليمي إلى الإنسان الخارق . الإنسان العادي هو شيء لن يلبث أن يجري تجاوزه . ماذا فعلتم لكي تتجاوزوا هذا الإنسان ( العادي ) ؟ كل الكائنات البشرية ( الحقّة ) خلقت شيئاً يدوم بعدها ويتعالى على ذواتها ؛ فهل ترغبون أن تكونوا محض فروع تافهة في هذا الطوفان العظيم إلى حدّ قد تعودون فيه وحوشاً بدائية أم تمضون لتجاوز فكرة الإنسان العادي الماكث في دواخلكم ؟ 

إنّ ماكان يدور في عقل نيتشه ، على كلّ حال ، لم يكن يمتّ بأيّة صلة للإنعطافة التي يمكن أن يأتي بها التحوّل التقني بقدر ماكان إشارة إلى نوعٍ من التحليق بالنمو الفردي والنقاء الثقافي إلى مستوياتٍ غير مسبوقة في بعض الأفراد الإستثنائيين ( الذين رأى فيهم نيتشه القدرة على تجاوز " أخلاقيات العبيد " المقترنة بالمسيحية والكفيلة بتقويض أسس الحياة المستحقة للعيش ) . 

لكن برغم بعض التماثلات السطحية غير الجوهرية التي تتشارك بها الرؤية النيتشوية مع فكرة الإنسانية العابرة فإنها (أي الإنسانية العابرة) - مع كلّ مواريثها من جذور عصر التنوير ، وتأكيدها على الحريات الفردية ، واهتمامها الإنساني برفاهية كلّ الكائنات البشرية وحتى الكائنات الحسّاسة غير البشرية - ربما لها حيّز أعظم من المشاركة مع فكر أحد معاصري نيتشه : المفكّر الإنكليزي الليبرالي وأحد الداعين لمبدأ المنفعة ( جون ستيوارت مِلْ ) .

* أطروحة فلسفية وجودية مفادُها أنّ كل شيء له كينونة فيزيائية ، ولا يوجد شيء فوق أو ما وراء المادة الفيزيائية . تُعدّ المدرسة الفيزيائية شكلاً من أشكال الأحادية الوجودية التي ترى وجود نوع واحد من المادة في الطبيعة ، على النقيض من المثنوية والتعددية . ترتبط المدرسة الفيزيائية ارتباطاً وثيقاً بالمادية . 

( المترجمة )