سينما القاع في كفرناحوم

Wednesday 7th of August 2019 07:35:02 PM ,
العدد : 4487
الصفحة : سينما ,

ميسلون فاخر

"كفر ناحوم" لنادين لبكي فيلم ينتمي لسينما الواقع، اشتغلت مخرجته على محاكاة الواقع وهذا ما يعدّ ميزة في حد ذاته،

قصته ربما تكون حقيقية، يشعرك منذ الوهلة الأولى بانسيابية الكاميرا ويجعلك تعتقد أنك في الشارع مع هؤلاء الناس وليس متفرجاً. هو الفيلم الثالث لنادين، ويبدو على صناعته نضج وتفوق على أفلامها السابقة رغم أن بعض الجوانب الفنية الجمالية كانت ضعيفة وربما كان يمكن لنادين أن تتجنب تلك الهفوات بمونتاج متمكّن. تعمّدت صانعة الفيلم توظيف أشخاصٍ عاديين وليسوا ممثلين ليمنحوا الجو العام صدقاً إضافياً وهي تطرح مشاكل الطبقة الفقيرة المعدمة في لبنان واللاجئين السوريين وظاهرة الرقيق الجديدة -خادمات المنازل- والتهريب والمخدرات وزواج القاصرات والتحرش الجنسي والإنجاب غير الشرعي. كان الفيلم إدانةً لكل مجتمعاتنا العربية دون توجيه البوصلة لأية مدينة عربية معينة فقد كانت رغبة المخرجة أن تجعلها إيحاء لكل مدننا العربية بلا استثناء، وفي جوٍّ مشحونٍ بالألم والدموع تاهت الوجهة وتعثرت الخطوات. الفيلم من تصوير كريستوفر عون الذي كان موفقاً أكثر من غيره في جعلِ الكاميرا قريبة جداً ومنحِها وظائف متعددة لتطرح من خلال تلك العدسة أسئلتها الفلسفية والسياسية على لسان الطفل زين الرافعي الذي واجه أهله في المحكمة: "ليش خلفتوني؟"، وهو سؤال المخرجة الذي اعتُبِرَ من المآخذ على الفيلم، إذ كيف لطفل لا يملك وعياً استثنائياً أن يفكر بسؤال فلسفي يواجه به ذويه. هناك جو سوداوي في كوادر تصوير المهمّشين بألوان باهتة مظلمة وقبيحة وصراخ وزعيق متواصل من كل صوب لإيصال رسالة ضمنية بأن هؤلاء الفقراء هم سبب رئيس في خيبتهم في الحياة لما يحملونه من سوء تقدير وتصرفات غير محسوبة تمسّ مستقبلهم ومستقبل أطفالهم، فهم بذلك لا يستحقون الحياة لبربريتهم وعليهم التوقف عن الإنجاب. المشهد الجنسي لوالد زين ووالدته في غرفة صغيرة مكتظة بأطفال جاء ليتلاءم مع ما أرادت نادين إقناعنا به حول مدى حيوانية هؤلاء المهمشين، كل هذا كان نوعاً من الإلحاح في رسم تلك الصورة المعتمة لهؤلاء العابرين على سطح الحياة. حين نأتي للجانب الآخر من الصورة، في تصوير الأثرياء نجد نادين تمنحهم صورة براقه وكأنهم ملائكة يستحقون الحياة، عزز ذلك ظهورُ القاضي اللبناني بوقار وهدوء وكأنه ملاك. كانت الكوادر مبهجة والإنارة مريحة للعين تجعلنا نتراقص تفاؤلاً، وشتان ما بين الموت والحياة. وكأنها بذلك الموقف تذكّرنا بما فعلته الأمم المتحدة ذات يوم في حرب سراييفو حين ألقت بطائراتها حبوبَ منع الحمل وكأنها تقول لمسلمي البوسنة "توقفوا عن الحب فالحياة ليست لكم"، ثم أظهرت طواقم الأمم المتحدة متباكيةً تستعرض تعاطفها مع الناجيات من المجازر. هناك مشاهد عالية الإنسانية وتؤطر لعلاقة رائعة بين زين وشقيقته سحر، وكذلك علاقة زين بابن الخادمة الإثيوبية وعنايته به تسكب في قلوبنا المزيد من التعاطف مع زين وإنسانيته العالية، هذا النوع من الطرح رغم أنه ينجح في أفلام المهرجانات ويحقق الجوائز ربما إلا أن الفيلم فاز بجائزة لجنة التحكيم فقط رغم ترشيحه للعديد من الجوائز. ولكن هل الفيلم يصمد ويبقى في الذاكرة؟ لأن رسائله واضحة تبقى المراهنة على الشحن العاطفي الذي اشتغلت عليه المخرجة طوال الساعتين اللتين هما مدة الفيلم وظهور مشاكل من نوع آخر تشتغل على إزاحة المشاكل التي قدمتها في فيلمها. أما فيما يخصّ حضورها التعسّفيّ الذي أجبرتنا عليه بإقحام نفسها كمحامية وكأنّ المجال لا يتحمّل أن تظهر أي سيدة أخرى بدلاً منها لتكون محامية زين، فأقول: رغم أنني من المعجبين جدا بطلّتها وشكلها المبهج الذي خفف من قتامة المشهد، لكن كمعالَجَةٍ موضوعية، فهو مأخذ آخر على الفيلم. ظهور فرقة من الراقصين والراقصات في السجن لترفّه عن المساجين في عيد الميلاد وكأنهم يقولون لنا "نعم نحن نتعاطف مع آلام الفقراء ونراقصهم لكن خلف قضبانهم الحديدية" كان مشهداً استفزازياً وبدا كأنه جزء من رسائل صانعة الفيلم لمزيد من الانفعال المضاد. الفيلم بصعوده ونزوله بالإيقاعات يشعرك بأن السيناريو مكتوب من عدة أشخاص للتناقضات التي حملها إيقاعه، علماً بأنه تناوب على كتابته ثلاثة كتّاب سيناريو، لكنّ هذا لا يدينه بل يُعتبر جزءاً من قوته وهو في نفس الوقت يحررنا من الجو المشحون عاطفياً الذي أرادات به المخرجة أن تشحذ مشاعرنا من أجل تأكيد فكرة موجّهة للنازحين "كفوا عن كونكم لاجئين"، لأنه كما اتضح من العمل ليست هناك أي إدانة من قريب ولا من بعيد ولا حتى أي تلميح بسيط للمجتمع ومؤسساته المتناقضة وكأنه مجتمع بريء من كل إدانة. رغم كل تحفظاتي، أرى أن الفيلم جريء يشاكس عالم التابوهات، وهذا مهم.

في النهاية يمكن أن نتوصل إلى أن «الواقعية» في السينما هي مجرد فكرة ومحاولة لتصوير الواقع بأسلوب مختلف يعطي الانطباع بأن ما يراه المشاهد "ليس شغل سينما" أي ليس فيلما وأحداثاً مفبركة أو تمثيلاً، بل هو واقع أعيدت صياغته بحِرَفية ليجعل منه المخرج شيئاً يضاهي الواقع أو يتفوق عليه بجنونه، وحين يعتاد المتلقي على هذا الأسلوب ويدرك الصنعة التي يتم بها يكون الأوان قد أتى لخيارٍ آخر وتيارٍ آخر من تلك المدرسة (الواقعية) يحاول من جديد التلاعب بوعي المتلقي لإيهامه ومدّ صلات حميمة بين ما يعرض على الشاشة وبين الواقع المرير الذي يحيط بنا.

عالمنا مؤلم في النهاية، ولكنّ من يأتي به على صورة شريطٍ سينمائي يتفوق على أوجاع واقعه يستحقُّ كل التقدير.. ونادين منهم.