الترجمة.. مُحاولة لمساءلة الواقع الترجمي في عالمنا العربي

Wednesday 9th of October 2019 09:20:08 AM ,
العدد : 4524
الصفحة : عام ,

لطفية الدليمي           

القسم الأوّل

تمهيد عام

( حياة واحدة لاتكفي ) :  تلك كانت عبارة الشروع المحفّزة التي دفعتني لولوج عالم الترجمة بكلّ غواياته

التي لم أزل أحسبها حتى اليوم عالماً مسكوناً بالسحر والخيال والتوقعات المدهشة . كلّ كتاب شرعت - أو سأشرع مستقبلاً - في ترجمته هو ( صندوق باندورا ) عجائبي حتى لو كانت لي به معرفة مسبقة ؛ فخوض غمار الترجمة يعِدُ دوماً بمفاجآت لاتنفكّ تدهشني وتدفعني لمواصلة العمل بطاقة عزوم لاتعرف الخذلان أو الإنكفاء .

بدأت علاقتي بعالم الترجمة في ثمانينيات القرن الماضي عندما ترجمت روايتين ومختارات قصصية عالمية ثم مختارات من يوميات أناييس نن، ثمّ تعززت طاقتي الترجمية في العقد الثاني من هذا القرن لسبب أراه من جانبي كامناً في تفجّر الدفق المعلوماتي المجاني الذي أتاحته لنا شبكة الإتصالات العالمية ( الإنترنت ) ؛ الأمر الذي شكّل إنعطافة ثورية في أدواتي المعرفية وتنوّع قراءاتي في الأدب والعلوم ( الفيزياء بخاصة ) والفلسفة إلى جانب السير الذاتية والمذكرات ( التي أعشقها عشقاً خاصاً ) .

   قيل الكثير عن الأمانة في الترجمة ، وعن خيانة النص ، وعن ( المترجم بوصفه خائناً ) لاسيما في بعض النطاقات المعرفية الخاصة ( الشعر مثلاً ) ، من جانبي أرى في عبارة ( أمانة الترجمة ) إلتواءً لغوياً مثلما هي تضليل معرفي : الأمانة المفترضة في الترجمة هي أن يكون القائم بالترجمة أميناً في شعوره المدعم بحقائق على الأرض في أنّ أدواته المعرفية واللغوية ( في لغة الأصل المترجم واللغة المستهدفة بالترجمة إليها ) تحوز قدراً من الكفاية والملاءمة يكفي لخوض غمار الترجمة وفي الحدود التي يتطلبها العمل المستهدف للترجمة ؛ أما عن الأمانة النصية فتلك مسألة أخرى أراها تتمحور في أمانة نقل الأفكار ، ومن الطبيعي أن تستلزم هذه الأمانة الفكرية نقل النص إلى لغة أخرى ذات مداليل سياقية ونحوية تختلف عن اللغة المترجم عنها ، وهذا جهد ينطوي بالطبع على قدر عظيم من قدرة الملاعبة والمناورة ( النزيهة ) المستوجبة في القائم على المهمة .

   ثمة حركة ترجمية تمتلك قدراً مقبولاً من الدينامية والتنوّع في عالمنا العربي وإن كانت أقلّ بكثير ممّا هو سائد في بقاع أخرى في العالم لاتُعدّ ضاربة في التقدّم ( مثل أسبانيا ) ؛ لكنّ المعضلة الترجمية الكبرى  في عالمنا العربي تكمن في غياب الستراتيجية الترجمية  الواضحة التي تكفل تحويل الجهود الترجمية لعمل مؤسساتي بعيد عن الإستعراضات قصيرة النفس التي سرعان ماتتلاشى وتغيب في لجّة النسيان ، وثمّة أيضاً معضلة ثانية أراها في التركيز على ترجمة الموضوعات التي يراها بعض المترجمين تنطوي على عناوين فكرية جذابة ( الأستطيقا ، السيميوطيقا ، التأويلية ،،، الخ ) في الوقت الذي تراجعت فيه تلك المقاربات الفكرية في مظانها المرجعية الأصلية .

   عالمنا اليوم هو عالم محكوم باقتصاديات المعرفة التي بات معها العلم والتقنية مصنّعات ذات مفاعيل  تشكّل البنية التحتية للثقافة العولمية ؛ وعليه لامناص من  منح إهتمام أعظم بترجمة الأعمال العلمية والتقنية التخصصية ( الفيزياء والرياضيات والذكاء الإصطناعي بخاصة ) إلى جانب الأعمال المؤازرة لها ( سوسيولوجيا المعرفة وتأريخها ، المستقبليات ، تأثير المعلوماتية في حياة الكائن البشري ،،، الخ ) .

إذا شئت الحديث عن عقبات واجهتني في الترجمة سأقول ليس ثمة عقبات محدّدة ؛ فأنا أترجم الأعمال التي أشبعتني شغفاً وملكت عليّ حواسي وليست الترجمة سوى وسيلتي لنقل بعض ذلك الشغف إلى نظرائي القراء  ، وقد تظهر بعض العقبات الهيّنة عند التعامل مع معضلة ( تعريب المصطلحات أو المفردات الفلسفية والفكرية ) ؛ لكنّ يقيني الراسخ أنّ شغفي ( مسنوداً ببعض جهد في التفكّر وتقليب الأمور بروية وهدوء ) خليق ببلوغ مخارج مقبولة .

كلّ عمل إبداعي لابدّ أن يكون دافعه الشغف ، والشغف هو خصيصة تنبع من الذائقة الفردية والترتيبات الذهنية والسايكولوجية للمرء والتي تتمايز بدورها عن الذائقة الجمعية حتى لو إنطوت على قدر غير قليل من الإبداع . الترجمة بهذا المفهوم عمل إبداعي فردي محكوم بإعتبارات ( الفردانية ) الخالصة حتى لو جاء تلبية لمتطلبات مؤسساتية .

 

هل المترجم محض إمكانية لغوية  ؟

المهارات اللغوية للمترجم لاتكفي من غير ثقافة عامة وحسّ خاص وموهبة تساعد في إلتقاط الجواهر المكنونة ؛ لكن ثمة ماهو أبعد دلالة من هذه التفاصيل التي هي أقرب إلى البداهة المتفق عليها.

   يرى الكثيرون في المترجم نموذجاً قريباً من السحرة الذين يملكون الوسائل والأدوات اللغوية القادرة على ملاعبة الكلمات في لغته الأم واللغة التي يترجم عنها ؛ وعليه سيكون المترجم بموجب هذه النظرة كائناً لغوياً ميدانه الكلمات وأنساقها  النحوية والدلالية إضافة إلى شيء من المنكّهات الثقافية التي تعمل على تطييب مذاق الطبخة الترجمية وجعلها سائغة لجمهور المتلقّين .

   قد تكون هذه الوصفة صالحة حتى بواكير القرن الحادي والعشرين ، وحيث كان المترجم أقرب مايكون لكائن غارق في التقاليد الكلاسيكية التي ترى الثقافة متموضعة بأجلى أشكالها في المصنفات الأدبية ذات السطوة المتعالية ؛ لكنّ هذه الرؤية المتخمة بطغيان اللون الثقافي الأحادي قبل الكولونيالي صارت عُرْضة لصنوف النقد والتعديل مع بواكير القرن الحادي والعشرين ولسببيْن إثنين في المقام الأول  :  الأول شيوع التمظهرات العولمية التي إنتقلت من الجانب الثقافي التنظيري إلى فضاء التجربة البشرية الحسية المباشرة ، والثاني هو تعظيم سطوة العلم والتقنية في إطار مابات يعرفُ بِـ ( الثقافة الثالثة ) التي وجدت دُعاتها والمروّجين لها في طائفة واسعة من الفيزيائيين وعلماء البيولوجيا والهندسة الوراثية والمشتغلين بالأنساق  الرياضياتية والمعلوماتية ومطوّري الذكاء الإصطناعي ، وهذا هو جوهر الامر كلّه : المترجم الذي سينكفئ في مغارته العتيقة لن يكون له موطئ قدم على الخارطة الترجمية في عصر مابعد الإنسانية الذي سنشهد بواكيره في السنوات القليلة القادمة . 

 

الترجمة وإشكالية صراع الحضارات والقيم المتضادة

أرى أنّ التعارضات الثقافية المفترضة مع ماتوصف بأنها ( ثوابتنا ) القيمية ينبغي أن تكون موضع مكاشفة صارمة لاتقبل اللبس أو المخاتلة ، وينطوي هذا الكشف على إزاحة الأقنعة التي تتلفّع بها أسئلة كثيرة يراد إدامتها في منطقة الغموض والعتمة ، ومن أهمّ تلك الأسئلة المزمنة التي طال عهدنا بها : مَنْ له سلطة تحديد الحد الفاصل بين مايعدّ أخلاقياً أم غير أخلاقي ؟ إذا تعمّدنا التدليس وغضّ الطرف والتغافل عن إجابات حاسمة لمثل هذا السؤال ( وأسئلة أخرى نظيرة له ) فسرعان ماسنجد أنفسنا تحت عجلات تطوّر علمي وتقني لن يرحمنا .

   ثمة إشكالية أخرى في هذا الميدان ؛ فليس الأمر مع الترجمة محض حقوق نشر وحسب ؛ بل يمتد الأمر لهشاشة البنية القانونية والإدارية التي تختصّ بنشر الأعمال الإبداعية ، وهي في حقيقتها هشاشة تطال كلّ بنياتنا المؤسساتية التي تتعامل مع حقل الأعمال الإبداعية ، ولامفرّ والحالة هذه من بعض الصبر بغية مراكمة الخبرة وتعزيز البنية الإدارية والقانونية السائدة في الهياكل المؤسساتية . الزمان خير مطبّب لمثل هذه المثالب البنيوية .

التجارب الترجمية في عالمنا العربي :

تجربة كتاب ( عالم المعرفة ) أنموذجاً رائداً

ثمة العديد من التجارب الترجمية المحترمة في عالمنا العربي ، وليس للمرء إلا أن يذكر بكلّ التقدير تجربة كل من : مشروع ( كلمة ) ، والسلاسل المصرية في الترجمة ( مشروع الألف كتاب ، إصدارات المركز القومي للترجمة ،،، إلخ ) ، مشروع المنظمة العربية للترجمة ؛ لكنني أرى من جانبي أنّ مشروع كتاب ( عالم المعرفة ) هو المشروع الأكثر نجاحاً بين التجارب المؤسساتية للترجمة في عالمنا العربي .          

   لايغيب عن بالي ذلك اليوم الشتائي عندما اقتنيت مطبوعاً جديداً بعنوان ( الحضارة ) جاء ضمن سلسلة ثقافية كويتية بعنوان ( عالم المعرفة ) ، قرأت الكتاب بشغف وراقني كثيراً الطاقم التحريري الذي يشرف على هذه السلسلة وبخاصة إسم الدكتور - الفيلسوف الراحل ( فؤاد زكريا ) الذي عمل لسنوات طويلة أستاذاً للفلسفة بجامعة الكويت والذي لطالما أتحفنا بمؤلفاته ومترجماته الفلسفية والفكرية الرائعة،ثمّ تناوب في السنوات اللاحقة بعض أهم الأسماء الثقافية العربية في الإشراف على هذه السلسلة الفريدة .

   تابعتُ هذه السلسلة الفريدة في كتاب ( عالم المعرفة ) منذ عام 1978 وحتى يومنا هذا، وصار من تقاليدي الثقافية الشهرية التي أحرص عليها هو الحصول على نسخة من هذا الكتاب وقراءته كاملاً أو قراءة أجزاء مهمة منه في بعض الأحيان، وترسّخت لديّ خلال العقود الأربعة الماضية قناعة مؤكدة بأن هذا المطبوع الثقافي المهمّ يمثل جانباً من أهم جوانب السياسات الثقافية المؤسساتية الناجحة على مستوى العالم العربي وربما العالم بأسره .

   من المؤكّد ثمة عوامل عديدة دعمت نجاح هذا المشروع الثقافي الرائد وأمدّته بوسائل الإستمرارية، وأوّل تلك العوامل هو توفّر السياسة الثقافية الداعمة لنشر الثقافة على أوسع رقعة جغرافية يمكن بلوغها في العالم العربي وبعض مناطق العالم كذلك بدفعٍ من رؤية ترى في المطبوع الثقافي وسيلة ناعمة من وسائل الإرتقاء الحضاري إلى جانب ترسيخ سمعة الدولة الراعية لهذا المشروع وتقوية مكانتها الإعتبارية على الخريطة الجيو- سياسية في المنطقة والعالم بأسره ،وثمة عامل يكمن في تبنّي المشروع ضمن سياق هيكل مؤسساتي يؤمّن الدعم المالي اللازم للمشروع من غير تعثّر من جهة ويساعد على طباعة أعداد معقولة من هذا الكتاب من جهة أخرى ، ولو علمنا أن سعر النسخة من الكتاب تُباعُ بما يعادل ( دولاراً أمريكياً واحداً ) وأنّ ( ثلاثة وأربعين ألف )  نسخة من الكتاب تُطبَعُ شهرياً لعلمنا حجم الدعم اللوجستي والمالي الهائل الذي يقدّم لهذا المشروع الثقافي الرائد .

   امّا إذا شئنا الحديث عن هيكلية المواد المنشورة ضمن سلسلة ( عالم المعرفة ) لوجدنا أنها إبتعدت منذ البدء عن المؤلفات والمترجمات السائدة في  أوساط النشر العربية التي تعتمد على ( الصرعات ) الثقافية ذات الأسماء الرنّانة الفخمة واعتمدت بدلاً عنها أعمالاً رصينة من الناحيتين الأكاديمية والفكرية في ميادين العلوم والفلسفة والدراسات الأدبية والثقافية ، ويُلاحظٌ في هذا الشأن التأكيد على جبهات العلوم والمعارف المتقدمة والمشتبكة من جانب ، والتأكيد على ترجمة الأعمال حديثة النشر من جانب آخر ، وهذا مايمنح هذه السلسلة خصوصية فريدة بالمقارنة مع المطبوعات الأخرى .

  لن تخفى على المتابع الجاد لهذه السلسلة الشهرية مدى التطوّر في إختيار العناوين الحيوية ذات المساس المباشر بأكثر الموضوعات المعرفية راهنية وتأثيراً في حياة الإنسانية مثل : ( الكوارث البيئية ، تأثير المعلوماتية في إعادة تشكيل الوعي الفردي ، الدراسات المستقبلية ... الخ ) .

   تجربة كتاب ( عالم المعرفة ) تجربة ثقافية رائدة بحقّ ، وتستحقّ منّا كلّ تقدير وعرفان .