مَرْواة.. المرواتي عمّار أحمد مِنْ سِيرة أسمائه الحُزنى : شوارد الشك.. مكائد الاحتمال

Sunday 13th of October 2019 06:18:07 PM ,
العدد : 4527
الصفحة : عام ,

حسن عبدالحميد

ما حصل في الموصل ، و بحكم ما تراكم من نكبات، و ترادف مصائب أبان إحتلالها من قِبل الأشرار الدواعش ، وما تلا بعد تحريرها من جرد تضحيات و رواشح تداعيات ،

يلزم النظر بأكثر من عين تروم الرصد و تناور بفحص أدق التفاصيل الذائبة في نسيج و ثنايا حياة مجتمع أتسم بجديّة التحدي و معاندة الأزمات و تجاوز نوائب الزمن وجَلل الأحداث على مرّ العصور بأخربتها وخواجل جحود ما اقترفت من نواكبها الأيام ، بالعزم على جلي آثار الحصارات عنها بأناة و بحكم حنكة و سواند تدبير ، و صدّ مسببّات العوز بمجاراة التحلي بالصبر وسيلة و مسعى ، بفضل نزعة التطلّع لمّا هو أفضل في مجمل سمات وتصرفات سلوك و طبيعة تفكير المجتمع الموصليّ ، عبر مداخل و مخارج محصلات تاريخيّة و سمت حياة هذه المدينة - بكامل تناغم فسيفسائها الأثنية و الدينيّة ، و تناسقات تعاشقها مع ميراث ما فيها من آثار و معابد و مبانٍ ، جوامع و كنائس و كاتدرائيات ، و شواخص حضاريّة ، و سوانح معمارية - بهذا القدر الواثق من الصلابة و سبل التصدي ، و بما يؤكد من عمق و صدقية من يشبّه الأنهر بالحضارة ، فهي " أي الأنهر " قد تتوقف ، ولكنها لا تعود إلى الوراء - قطعاً - .

 

لا تقل هذه المقدمة عن تقييم مدى أهمية محايثة السعي النازف في توسيع مدارك و مجسات الآفاق التي ولجها " المرواتي " ، في سِفر مجموعته الجاهزة للطبع - في غضون أيام قادمة و قريبة - و اللائبة بوخزات عنوان " من سيرة أسمائه الحُزنى"، كما و لا تقللّ " أي المُقدمة " من سخاء وطأة عناءات ما نكأت تلك المآثر البلاغية و اللحنيّة من جِراحات نازفة بمشرط ذاكرة طيّعة و ملتاعة ، حسبتُها تلوذ لتحتمي بمنحى مقولة كاوية : " ما أقسى أفراح الماضي على الذاكرة " . 

يُلزم " المرواتي " قارئه القبول ببنود ما جاء يروي ، منذ لمعان أول خيط نزف تندّى و سال مُرّاً ، قانياً فوق سفوح أوراق مجموعته - التي نحن بصددها - سارداً ، مُفصِحاً يأنّ مهموماً بوهج شجن دامع لم يتردّد في البوح عن منذ سرد هذا الاستهلال ؛ " ... هو الذي رمى كلَّ أحزانه ذات غدرٍ عظيم فانهار كل شيء " ، ثم يستدرك بعدها مُضيفاً بأفول مضنٍ من حشرجة مرارة حنجرة حكيم طفح بها اليأس حتى فاضت بالذهول و بنذر من حنين الذي لا يطاق.

" نعم هو الذي بكى فَعمّ الفيضان كل الأرجاء" بهذا الدخول المخضرم بالنكبة و الإنبعاث ، و سوالك التحذير يُحيي " المرواتي " جنوح تحلقياته و توثيقاته بنسق عام و بنسج عناوين فرعية بلغ يجترحها " بروح و كثافة حزن مثقل بسواند حيف و سوانح شجن مكبوت ، موشّاة بوثوب قدرة سرد مُقنن بارع يتمتع به منذ البدء بإعلان لوائح تجربته في العام/1990 ، حتى أضحى محكوما بطوع تحدٍ مركونٍ في سياق بحث تتابعي صدحت تحاذيه الموسيقى و يحايثه الشعر مكدوراً من هول ما جرى على أرض رحم ولادته و مراتع صباه و لوامع مراحل حياته حتى مجريات ما حدث للموصل في آب/ 2014 للحد الذي يعلل فيه السارد فكرة أن تكون " كل التفاصيل الكاملة ناقصة بحقيقتها " في نواهل هذه المجموعة التي يتجلّى في محراب حيرتها " المرواتي " و يتفوّق فيها الأسى متهدّجا بشحوب ينوء بقوله : " أختلي بي ، و طالما أبكاني ما لا يدعو آخرين للبكاء ! " ثم سرعان ما يستل نصل سؤال قاطع و حاد يشي ب" لماذا الغواية ذنب حواء فقط ؟ " و لا يتواني بأن يجيب " الذكورة ظالمة " .

تكاد تقفل جميع العناوين الفرعية لهذا العمل المنحوت بمدارك وعي ، و قوة ذاكرة و جهد مبهر يروم رصف على منوال زحف تتوالى فيه مواجع المجموعة وهي تتفرّد بنوى عناوين تبدأ ب " مرواه مع نوته / التائه / الباسم مثل قلبها / الذي ظل يناور/ ربيع موصلي / النحيب / حامل الفانوس و القاموس / مُسرج خيل الكلام / المتسائل / نكىء الجراح / الرائي بعين غيمة / الغريق الهارب / حيران " فيما تنتهي ب" العازف على النأيّ "

حفلت تنوء جميع هذه العناوين بسك وتوريد ممكنات تفاعلية تمّكن من نحتها " المرواتيّ " وفق تمظهرات ذاتية في أنصع حالات تفويض الذاكرة و تحشيدها باتجاه وعي عام ، و تحريض خاص ... أما ... كيف؟!!.

يبرق الجواب جاحداً ، ليس – فقط - من باب كون ذاكرة الفرد أقوى من ذاكرة الجماعة ، بل من دواعي مكونات ذاكرة اهتدت بأضواء " فوانيس القرب " في بعض تماهياتها الوجدانية ، فيما تبتعد أخرى بحكم جدارة البُعد أو النأي بالرحيل أو الهرب للتخلص من وباء داعش الذي طال المدينة بمحيطها و نسيجها على النحو الذي دفع فيه " المرواتي " لان يُقسّم تلك الشوارد و الشكوك في مرتهنات الاحتمال ، وإمكانية التوقع ، وبما تثاقل و تنّقل بوصف الأحداث من قِبله بما يشبه بأحلام حنين تترآى ما بين البيت أو بقالة " الحاج أمجد " أو الهروب من المدرسة مع عمار ابن أبو أمجد - مثلاً- ، أو مقهى " العندليب الأسمر " تارة، أو اللوذ بذكريات " بيروت " أبعد تارات أخرى مستذكراً أجواء " الروشة " و تصوير أغنية " جانه الهوى " وضحكات " نادية لطفي " في فيلم " أبي فوق الشجرة " ، و ما كاد يغفل تناسيّا أم هرباٍ من واقع شاحب مُرّ، حتى يصحو ذاهلا بالقول ؛" ما كنا نعلم حينها ان الهواء سيختنق و ان الهوى سينشف " .

يدفع السارد - أحياناً - بعربة جموح حصان سيطرة اللهجة الموصلية بكثافتها التغيمية و الدلالية و تحلياتها المحلية الغارقة بالعذوبة و التورية والشجن ، على جملة من سلوكيات و تمهيد عادات و مكائد بريئة ، وغيرها مما يثقل من مرارة الاحساس بالحنين الذي يلخصه نازفاً ؛ " حين تكتب التماعة مكثفة عن هذه الفجيعة ستكتب ؛ " كان ياما كان في جميل الطفولة و الأمان مدينة أسمها أم الربيعين... صار يا ما صار بعد زحف العربان و انتشار الغربان وهيمنة الوضيع والخوّان أطلال مدينة أسمها أم الرعبين !! " 

يحدث أن تدنو شذرات السرد الحكائي على نحو إغوائي جدير و متمكن ، في عموم تحديثات هذه المجموعة ، كما أعمال " المرواتي " التي أهلته بخطف هذاه التسمية أو الكناية بما يقارب و يتقابل مع الكثير من معتملات تصوراته ، و مداخيل غاياته الإبداعية ، من تلك التي يستثمرها بمثابة استمالات تحريضيّة منبثقة من تجليات و إستحداثات مفردية و معنوية تملك طاقة ذلك التحريض اللغوي و اللحني و التنويري في أبلغ مساعيه الواثقة ، من أجل تعمير صرح تجربته.

ثمة عالم واسع تشاخص يتكوّن من و حدات و مصغرات لفظيّة سرعان ما تتضافر مع مساند فنون و محافل إلهامات برع بوضعها مستثمراً دفئها وحنو خصوبتها ، وبما يفيض لينعش أفاق كتاباته ونوادر ألحوناته الموسيقا - غنائية تحت سقف بيته ، الذي هو عالمه وملاذه الآمن ومهارات سطواته المغردة و الساردة بصدوحها الشعري و علو كعب نبرات سرده الصوتي في متون تهاليل أصوات، وخيوط شعاعاته و شذرات سردياته الخاصه بعالمه المتوحد و المتفرّد مع ذاته و على مختلف مناسيب حالاتها الانسانية / النفسية و الوجدانية على حدٍ متوازن حتى في أشد نوبات قلقه و خوفه المبرر على جملة ما حصل، و "ضاع ما ضاع في الموصل ، وغاب النصوع و اندثرت الأحلام ... أيام سينما الأفلام في شارع يعج بالأناقات" ، أو كيف يفرّ الوقت من الساعات ، و يتجذّر - أكثر- المستحيل بالرغبات ؟ " وفي غيرها من لوافت التماعات أضحت بمثابة عتمات و سواكن حزن ومناجم ضيم ، حتى تناكد "المرواتي" مع واقع أحداث ما مرّ و ما جرى، من مجريات عبر تهّجدات نائحة نراها تتحيّن لتقول ؛ "يا سيدي .. في هذا الزمن الذي شّح فيه الوصال .. و تيّبّس التقبيل ألا تسمع أنين الدمع على اعتاب العيون" ، وغيرها من فواهر "من فارهة" تصادم أحزان قاتمة و مسرات تجمّدت في محيطات ذكرى من شواخص حسرات و مِحن ومتواليات آلالام ما فتئ يناديها بهذا الرِسم من العتاب و الشجن ؛ "آيتها الفادحة – حناناً – يا أمي التي ظلت تطبخ لأبي الاولاد و تطبخ لنا الطعام و تعد للطغاة الشهداء ، ليهنأوا بانتصاراتهم المزيفة"