تأريخ ما أهمله التاريخ.. رواية (ليون الإفريقي) لـ أمين المعلوف

Sunday 13th of October 2019 06:19:24 PM ,
العدد : 4527
الصفحة : عام ,

شكيب كاظم

ظل التاريخ والكتابة فيه هماً مؤرقاً وضاغطاً على الباحث والروائي اللبناني الشهير أمين المعلوف،المولودسنة١٩٤٩، والعامل في الصحافة اللبنانية حتى سنة ١٩٧٦،

ففي هذه السنة المفصلية في حياة أمين المعلوف، يقرر مغادرة وطنه الذي أحب، وهو يرى أن الحرب الأهلية التي استعرت في السنة الماضية، لا أمل في وضع نهاية لها، وظلت تسعر بعد مغادرة أمين بلده، أكثر من عقد من الزمان، وجد نفسه في فرنسا الحرية والديمقراطية ليكتب من غير خوف ولا وجل، واضعين في الحسبان الوضع النفسي والهوياتي الذي تحياه الأقليات في الوطن العربي منذ قرون، واضطرت إلى الهجرة والرحيل نحو أرض الله الواسعة، لذا رأينا الجاليات العربية في امريكا الشمالية فضلاً عن الجنوبية.

وجد أمين المعلوف نفسه في فرنسا، فكتب باللغة الفرنسية متخلياً عن النظرة السابقة إلى هاته اللغة، التي عاناها الأدباء الجزائريون فضلاً عن أدباء المغرب العربي أيام الإستعمار الفرنسي، فأطلق كتابه التاريخي المعرفي المهم (الحروب الصليبية كما رآها العرب) سنة ١٩٨٣،ليردفه بروايته التاريخية المهمة التي تدرس حوادث مفصلية مهمة في حياة العرب المسلمين في الأندلس ولا سيما غرناطة، وسقوطها بيد الغلاة المتعصبين القشتاليين؛ بقيادة فرناندو وزوجته ايزابيلا، مستغلين الانقسامات المدمرة بين ملوك الطوائف في الأندلس؛ الأخوة الأعداء، الذي كان واحدهم يطرب لسقوط مملكة غريمه،لا بل يتعاون بشكل خفي أو علني ضد أخيه الذي يراه عدواً!.

في (ليون الإفريقي) التي ترجمها إلى العربية مباشرة من الفرنسية؛ الأديب المترجم المتمكن الدكتور زهير مجيد مغامس سنة ١٩٩٣، في ضمن المشروع الترجمي المهم ( روايات الشمس) ،الذي قدم لنا نخبة من الروايات العالمية المختارة منقولة من لغاتها الأصلية،وقد أوقف هذا المشروع الثقافي المهم،الذي لم يقف عنده الدارسون؛ أوقفه الحصار المدمر الذي فرض على العراق في آب/ أغسطس ١٩٩٠.

يقسّم أمين المعلوف روايته هذه إلى كتب أربعة ( كتاب غرناطة) وثانيا (كتاب فاس)ومن ثم ( كتاب القاهرة)،وأخيراً( كتاب روما)، وإذا كان أكثر المؤرخين العرب المسلمين، وهم يكتبون كتبهم التاريخية إنما يقسمونها إلى حوليات؛ إلى أعوام وفي الذهن تاريخ الطبري ( تاريخ الرسل والملوك) أو ( تاريخ الأمم والملوك) لأبي جعفر محمد بن جرير (٢٢٤-٣١٠ه) الذي يفتتح تأرخته بالعام الأول للهجرة النبوية المباركة، وذكر ما كان من الأمور ومنها خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أول جمعة جمعها في المدينة المنورة،ويختم كتابه بالعام الهجري الثاني بعد الثلاث مئة،ونهجت النهج ذاته غالب كتب التاريخ العربية، فإن أمين المعلوف اقترابا من روح العلم والتاريخ وحقائق الأشياء، سار على الدرب ذاته، فإنه يؤرخ في روايته هذه لنحو أربعين عاماً من حياة الحسن بن محمد الوزان، مدوناً العام الهجري وما يوافقه من السنة الميلادية، ليبدأ بالعام الهجري ٨٩٤ وما يوافقه من السنة الميلادية ( ٥/ كانون الأول ١٤٨٨-٢٤/ تشرين الثاني ١٤٨٩).

إنه لكي يقدم صورة بانورامية واضحة للحياة في مدينة غرناطة، فإنه يبدأ روايته التاريخية الملحمية الرائعة هذه (ليون الإفريقي)، يبدؤهابسنة ١٤٨٩،ممهدا لسنة سقوط غرناطة 1492، وتوضيحاً للأمر فإنه يطلق على كل عام من هذه الأعوام، اسماً فالسنة هذه 1489 سنة سلمى الحرة، وسلمى في الرواية هي أم الحسن بن محمد الوزان، ويظل أمين المعلوف يبحر بنا في روايته الممتعة معرفياً حتى عام933 للهجرة (8/ تشرين الأول1526-26 /أيلول 1527) ويسميها سنة الجنود الألمان المرتزقة، الذين يعيثون فسادا وقتلا واغتصابا وحرقا لروما، هؤلاء الألمان اللوثريون، الذين سيطر الراهب الألماني مارتن لوثر على عقولهم، مصوراً الكرسي البابوي شراً مستطيراً؛ أتوا من الأفعال المنكرة مالا يخطر على بال "أقسم بالله الذي جعلني أجوب العالم الشاسع، اقسم بالله الذي سامني عذاب القاهرة كما سامني عذاب غرناطة، لم أر في حياتي مثل تلك الوحشية وذلك الحقد، وذلك العنف الدموي، وذلك التلذذ بالذبح والدمار والتدنيس!

أسيصدقني الناس لو قلت إن جنوداً مرتزقة ألماناً مبتهجين قد اغتصبوا بعض الراهبات على مذبح الكنائس قبل أن يخنقونهن؟ اسيصدقني الناس لو قلت إن الصوامع قد نهبت، وإن الرهبان قد جردوا من ملابسهم وأجبروا تحت تهديد السوط على أن يطأوا الصليب بأقدامهم ويعلنوا أنهم يعبدون الشيطان الرجيم، وإن مخطوطات المكتبات القديمة أذكت نيران فرح كبيرة كان يرقص حولها جنود سكارى، وليس من ضريح، أو قصر أو دار قد سلم من النهب، وإن ثمانية آلاف مدني قد هلكوا، وبخاصة من الفقراء، في حين أحتجز الأغنياء رهائن إلى أن يدفعوا فدية؟".ص٥٠٦

لكن الألماني هانس الذي قدم له الحسن بن محمد الوزان، الذي سيسمى ليون الأفريقي في بلاط البابا ليون العاشر، قدم له خدمات جلى؛ علمه ودرسه يوم أوكل إليه البابا، الذي تجلب أصابعه الناعمة انتباه ليون الأفريقي، التي تشبه أصابع من لم يعمل بيديه قط!، أوكل إليه البابا ليون العاشر تعليم سبعة من التلاميذ، منهم الألماني السكسوني هانس، الذي وضع بين ناظري ليون الأفريقي المعركة الناشبة بين ليون العاشر والراهب لوثر، وهو حدث كان ينذر بتخريب أوربة برمتها ،ويجلب على رومة المصائب والبلايا، وكان هانس يأمنه فيبوح له بخلجات نفسه لأستاذه ليون الأفريقي، وكرهه للبابوية قائلا ما جدوى البابا ما جدوى الكرادلة؟ أية آلهة يعبد الناس في روما هذه التي ليس لها من هم آخر غير ترفها؟! هذه الآراء الصادمة تدفع ليون إلى أن يبتعد عن هذا اللوثري المتعصب، الذي يصل به الكره والتعصب إلى وصف روما بالمدينة الملعونة!

لقد حفظ هانس الود والثقة المتبادلة، فينقذه من هذه الفاجعة التي ألمت بروما، فيوصله وزوجته ( مادالينا) وولده ( جوسيب) إلى مدينة نابولي حيث يعمل صديقه التونسي ( عبدة السوسي) والذي كان في انتظاره وهو الذي حثه مرارا على مغادرة روما، وهو ينظر إلى الآتي من ظهر الغيب؛ العصف الذي سيعصف بروما، والاعتداء على الكرسي البابوي ممثلاً ب( كلمنت الثامن) الذي كان يسمع أوصاف اللوثري هانس القاسية ضده، فينقله ( عبدة) نحو بلده تونس.

أمين المعلوف في روايته التاريخية الرائعة هذه ( ليون الأفريقي) الذي يرى الناقد المجري الماركسي جورج لوكاش، في كتابه النقدي المهم ( الرواية التاريخية) وتولى مهمة ترجمته الدكتور صالح جواد الكاظم،يرى لوكاش ( 1885-1971) إن الرواية التاريخية نشأت في مطلع القرن التاسع عشر،وذلك زمن إنهيار نابليون، إذ ظهرت رواية (ويفرلي) للروائي الاسكتلندي السير وولتر سكوت (توفي في 1832) ظهرت سنة 1814، وإن كنت لا أميل إلى مثل هذه التحديدات، فلعل ثمة روايات لم يصل لوكاش إليها، أقول في هذه الرواية يقدم أمين المعلوف تاريخا ما وقف عنده المؤرخون الذين- غالباً- يقفون عند المثابات المهمة والزعماء والقادة، فيأتي أمين المعلوف ليقدم لنا تاريخاً لما أهمله التاريخ؛ هذه الدقائق المهمة، عادات الناس، سلوكهم في الرخاء، وسلوكهم في أيام المحن، الأطعمة ، الألبسة،طقوس الزواج، وإنه استقراء دقيق لحيوات الناس ينقلها لنا على لسان بطل روايته؛ السارد المركزي حسن بن محمد الوزان، ولأن أمين المعلوف لا يرغب في الهويات، وله كتاب بشأنها سماه ( الهويات القاتلة) ولأنه لا يميل إلى تعبير ( الجذور) الذي كتب ( اليكس هيلي) رواية مدوية سماها( الجذور) باحثا عن جذوره الأفريقية، فإن أمين المعلوف يبسط رأيه بالجذور في كتابه المهم ( بدايات) يرى أن غيره يتحدث عن الجذور، تلك ليست مفرداته، فهو لا يحب هذه الكلمة، فالجذور تتوارى في التربة تتلوى في الوحل، تنمو في الظلمات، تبقى الشجرة أسيرة جذورها، لو تحررت مني وتركتيني فستموتين أيتها الشجرة، ولأنه جوّاب آفاق وهجرات فما رغب في الجذور وما أحبها، إنه يقترب من البدايات، الأصول (origines)فقدم لنا روايته ( ليون الأفريقي) ، والتغيرات التي طرأت على حياته والأسماء التي أطلقوها عليه، رغبة أو عنوة، وزيجاته المتعددة، من زوجات مغايرات لدينه، وتكلم لغات عدة بسبب النشأة والتعلم وتقلب الأحوال؛ فتكلم العربية والتركية والإسبانية والبربرية واللاتينية والإيطالية العامية، لأن اللغات والصلوات كلها تخصني، بيد أني لا أمتّ إلى إحداهن بصلة،.وهذا ما يريد أمين المعلوف إيصاله للمتلقي، وهو يرى التعصب الذي عصف بوطنه لبنان ووطنه العربي، ومن قبل ذلك تعصب وقسوة محاكم التفتيش في إسبانيا، على العرب المسلمين واليهود، وطردهم من .ديارهم نحو المجهول.