الصحفي (باتريك كوكبرن) يكتب في الإندبندنت البريطانية من بغداد .. العراقيون يثورون

Tuesday 5th of November 2019 06:30:02 PM ,
العدد : 4541
الصفحة : عام ,

ترجمة : لطفية الدليمي

نشر الصحفي الأشهر وكبير مراسلي صحيفة الإندبندنت البريطانية ، باتريك كوكبرن Patrick Cockburn ، المقالة التالية في صحيفة الإندبندنت المنشورة يوم الجمعة 4 تشرين أول ( أكتوبر ) 2019 .

المقالة المكتوبة من قلب الحدث العراقي المزلزل من بغداد تلقي الضوء ، وبكثير من التفكّر الهادئ الذي عُرِف عن كوكبرن ، على المحرّكات الحقيقية للثورة العراقية الكبرى التي بتنا نشهد مفاعيلها المتقدمة على الأرض . أقدّم أدناه ترجمة لهذه المقالة ذات الأهمية الإستثنائية لكونها توقّعت توجّه العراق نحو مآلات درامية قد تعيد تشكيل واقعه السياسي والإقتصادي . 

المترجمة 

لطالما أقنع الخوف من داعش والقاعدة العراقيين من قبلُ على كبح جماح تحفظاتهم العميقة التي يختزنونها إزاء الحكومة ؛ لكن لم يعُد الناس بعد اليوم هيّابين أو قلقين خائفين على عوائلهم بعد أن فاض بهم الكيل وماعادوا قادرين على السكوت وهم يشهدون تعاظم الفساد المستشري وغياب الخدمات الأساسية . 

يتأرجح العراق على شفا نقطة مفصلية تمثل إنعطافة كبرى في تأريخه الحديث ، وحيث يترقّب مواطنوه إنتظاراً لما ستقدِمُ عليه الحكومة من حظر تجوال مرتقب وقطع لخدمة الإنترنت ، آملة من وراء هذه الإجراءات التسريع بنهاية عاجلة للتظاهرات الجماهيرية التي لاينقطع مددها العارم .

أمكُثُ الآن في فندق بغداد الواقع في شارع السعدون في مركز العاصمة العراقية بغداد ، وحيث لا أبعد كثيراً عن ساحة التحرير - تلك الساحة التي غدت بؤرة معظم التظاهرات الإحتجاجية في العراق . كنتُ أتوقّع يوم الثلاثاء ( 1 أكتوبر 2019 ، موعد إنطلاق الثورة العراقية التشرينية ، المترجمة ) أن أزور عدداً من قواعد الجيش العراقي شمالي بغداد لإستكشاف إمكانية أن تمثل داعش تهديداً جديداً للعراقيين فضلاً عن مساءلة الفرص السانحة لها للعودة إلى الساحة العراقية . 

لم أذهب أبداً إلى ماجئت العراق لأجله في تلك المهمة الصحفية ؛ فقد حصل عصر يوم الثلاثاء ذاته ، وفي حدود الساعة الرابعة ، أن تناهت لمسامعي أصوات إطلاقات نارية بدت لبنادق آلية قادمة من بعيد . لم آبه لتلك الأصوات أول الأمر مدفوعاُ بالإعتقاد أنّ تلك الأصوات قد تكون لمناسبة زواج أو أية إحتفالية أخرى من الإحتفاليات الشائعة في العراق ؛ لكنّ أصوات الإطلاقات علت شيئاً فشيئاً ثم سرعان ماأشعل الأجواء أصوات أسلحة كثيرة إنطلقت دفعة واحدة من مسافات قريبة . إستوقفني رجلٌ في رواق الفندق الذي نزلتُ فيه وأخبرني : " ثمة عشرة قتلى فارقوا الحياة للتو ، وعملية قتل المتظاهرين في طريقها لكي تكون أقسى ممّا حصل حتى الآن . "

إنجلى لنا الأمر لاحقاً وعرفنا أنّ الحكومة عملت بفعلة القتل هذه على تحويل تظاهرة صغيرة قوامها 3000 من المتظاهرين في ساحة التحرير - الذين ماإنفكّوا يتظاهرون لثلاثة أشهر خلت بالضد من الفساد الحكومي الرسمي ، وفقدان الوظائف ، والخدمات الرثّة - إلى حدث جلل . حاول المتظاهرون عبور جسر الجمهورية الذي يقود إلى المنطقة الخضراء ( موقع البرلمان ومكاتب رئيس الوزراء وسواها من الأبنية الحكومية ) ؛ غير أنّ قوات مكافحة الشغب ذات السمعة السيئة بالنسبة للعراقيين فتحت النار على أولئك المتظاهرين مستخدمة الرصاصات المطاطية والقنابل الصوتية ، ثم سرعان ماانتشر تسجيل فديوي في وسائل التواصل الإجتماعي يمكن للمرء أن يتبيّن فيه عدداً من المتظاهرين ، معظمهم بأعمار لم تتجاوز العشرين ، وهم عرضةٌ لهجمات قوات مكافحة الشغب التي عمدت إلى رشقهم بزخات قوية من الماء الحار . 

هذا الحدث الذي جعل من تظاهرة صغيرة محدودة تنقلب سيلاً عارماً من التظاهرات الجماهيرية هي التي قد تقلب الطاولة على حكومة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي وتدفعها إلى الإستقالة . فجّرت الأفعال الباطشة لقوات مكافحة الشغب ، وبطريقة لم تنتبه لها الحكومة ، مخزونات الغضب التي يستشعرها كل العراقيين - تقريباً - إزاء مافيات الدولة اللصوصية ( الكليبتوقراطية * ) التي سرقت مايقاربُ الأربعمائة وخمسين بليوناً ( أي ملياراً وهو ألف مليون ) من الدولارات منذ الإطاحة بصدام حسين عام 2003 .

يعلم كلّ العراقيين أنّ بلدهم يختزن ثروة نفطية هائلة تدرّ على الحكومة دخلاً شهرياً في حدود الستة بلايين ونصف من الدولارات ؛ لكنهم ( أي العراقيين ) يعيشون تحت وطأة بطالة واسعة ، ونقص تجهيز الكهرباء ، وفسادٍ متغوّل واسع النطاق ، ومنظومات تعليمية وصحية فقيرة للغاية . بالإضافة إلى ماتقدّم يعلم العراقيون أنّ ثروات عظيمة قد حصل عليها المسؤولون الحكوميون الذين ماتوقّفوا يوماً عن إبتلاع الأموال المخصصة للمشاريع التي لم تبلغ مرحلة الإنجاز أو - وهي الحالة الأكثر شيوعاً - لم تشهد مرحلة الشروع بالإنجاز على الإطلاق وضاعت تخصيصاتها في جيوب المنتفعين الحكوميين الفاسدين . أجهزة كشف المتفجرات ، على سبيل المثال فحسب ، ظلّت لسنوات عديدة أجهزة عاطلة عن كشف أية متفجرات بعد أن تمّ إستيراد الجهاز الواحد منها بمئات آلاف الدولارات في الوقت الذي لم تكن الكلفة الحقيقية للجهاز الواحد تتعدّى بضع دولارات !! . 

إنّ هذا الإحساس المتراكم بالمظلمة الفاحشة التي وقعت على العراقيين هو مابدأ الآن بالتفجّر ، ومالم تستطع الحكومة التعامل معه وإيقافه في الأيام القليلة القادمة فمن غير المتوقّع أن تستمرّ طويلاً . أحد أسباب القوة التي تطبع هذه الثورة الإحتجاجية هي إفتقادها إلى قادة مُعْلَنين ؛ فهي ثورة جماهيرية عفوية بالكامل ذات طيف متنوّع من الشعارات . ثمة قلة قليلة من العراقيين تتوجّس خيفة من إسقاط الحكومة من غير العلم المسبّق بما سيخلفها ؛ لكنّ غالبية العراقيين يرون أنّ القادم ، وكيفما كان ، لن يكون أسوأ بالنسبة لهم ، وعلى هذا الأساس فهم جاهزون وقد أعدّوا العدّة للقفز في الظلام وتقحّم المجهول وتحمّل تبعات فعلتهم كيفما جاءت عواقبها . 

لم يشهد غضب الشارع العراقي إزاء اللصوصية الحكومية واسعة النطاق لموارد العراق خفوتاً منذ عام 2003 ؛ لكن الأغلبية الشيعية غالباً ماتمّ إقناعُها من جانب قادتها السياسيين بوجوب بقائها صفاُ واحداً مع جانب الحكومة للوقوف بوجه احتمالات عودة القاعدة أو داعش . نجحت هذه الحيلة الحكومية غالباً حتى إستعادة مدينة الموصل عام 2017 بعد بقائها أسيرة لداعش الذي جعل منها عاصمة له كواقع حال معلن على الأرض ؛ لكن منذ ذلك الحين لم يكن لداعش حكمٌ على أية بقعة أرض عراقية مثلما لم تشهد بغداد ، ولثلاث سنوات متصلات ، تفجيرات كبرى مثل تلك التي كانت تحصل فيها من قبلُ . لم يعُد العراقيون يبدون أي شيء من مظاهر الخوف الذي لطالما أبدوه تجاه عوائلهم التي قُتِلت ببشاعة في سنوات سابقة ، وقد صاروا اليوم أكثر عزماً وجاهزية لوضع حدّ للفساد الضارب أطنابه في كلّ العراق فضلاً عن الإفتقاد إلى الخدمات الأساسية .

كان أمراً متوقعاً أن تنفجر المظالم الاجتماعية في لحظة مفصلية قادمة لامحالة ، وفاقم التعامل الحكومي مفرط القسوة من تأجيج عوامل الغضب المكبوت واستحال ثورة بدأت شرارتها يوم الثلاثاء الماضي ( 1 تشرين الأول " أكتوبر " ) ، ولازال السبب الذي دفع الحكومة العراقية لهذا التعاطي بالغ القسوة مع التظاهرة الأولى أمراً يكتنفه الغموض حتى لكأنه أحجية ؛ غير أنّ التكهّنات السائدة في بغداد بشأن هذا الأمر ترى بأن رئيس الوزراء قد إستسلم بالكامل لنصائح صقور قواته الأمنية الذين يفتقدون إلى الدربة والمهارة في التعامل مع الآليات المفترضة في السياسة العراقية . 

غير أنّ ممّا يستحقّ الإشارة إليه هو الفشل الذريع للحكومة في إبداء أية إستجابة معقولة لطلائع التظاهرات ، وتفاقم الأمر بعد أن إرتكبت أولى أخطائها المميتة . " كان ينبغي على رئيس الوزراء أن يُبدي شجاعة على القيام بأفعال من قبيل الإعلان عن أعتقال مائة من المسؤولين الحزبيين والحكوميين الأكثر فساداً " هذا ماأسرّني به أحد الأصدقاء ؛ لكن لم يحصل شيء من هذا القبيل ، وراح الوزراء في المقابل يتحدثون بأحاديث مسهبة عن سعيهم لمعرفة الأسباب الحقيقية التي قدحت شرارة هذه الثورة الإحتجاجية وهم يعرفون تماماً - مثلما يعرف الجميع - أنّ هذه الأسباب واضحة لكلّ أبناء الشعب العراقي : الفساد ، فقدان الوظائف ، غياب الخدمات الأساسية . 

ماالذي سيحصل لاحقاً ؟ من الواضح أنّ الحكومة لاتستطيع فرض طوق أمني وعزل معلوماتي كامل ومحكم على العاصمة بغداد التي تضمّ سبعة ملايين نسمة لوقت طويل غير محدّد . أرقب الآن - حيث أقيم في فندقي البغدادي - جموعاً من المتظاهرين الذين راحوا يتجمهرون في الشوارع المحيطة بالفندق ، وثمة كثير منهم يزمعون الإنطلاق نحو ساحة التحرير . قد تستطيع الحكومة بقطعها خدمة الإنترنت إعاقة العلاقة التواصلية بين المنتفضين بقدر ما ؛ لكن لايبدو أنّ الأمر سيكبح عزيمة هؤلاء في المضي بإنتفاضتهم في وجه المسؤولين الحكوميين الفاسدين . 

يُبدي الناطقون الحكوميون رفضاً واضحاً للحديث إلى الصحفيين بشأن هذه التظاهرات الإحتجاجية ، ربما لأنهم لايرغبون في الظهور كمن يؤيّد الإجراءات الحكومية إزاء هذه التظاهرات . يمكن تلخيص واقع الحال العراقي بالآتي : مالم يستطع رئيس الوزراء العراقي التعامل مع هذه التظاهرات بما يضعها تحت السيطرة في الأيام القليلة القادمة فإنّ إدارته الحكومية قد تشهد إنفجاراً داخلياً يطيح بها ويجعل البلاد منفتحة على إحتمالات درامية يصعب توقعها اليوم .

* الكلِبتوقراطية Kleptocracy: مصطلح يعني نظام حكم اللصوص ، ويعني في الأدبيات السياسية والقانونية نمط الحكومة الذي يراكم الثروة الشخصية والسلطة السياسية للمسؤولين الحكوميين والقلة الحاكمة ، الذين يكوّنون الكلبتوقراط ، وذلك على حساب الشعب ، وأحياناً دون حتى ادعاءات السعي إلى خدمتهم ، وعادة ما يكون نظام الحكم في تلك الحكومات ديكتاتورياً أو استبدادياً في الأصل ؛ ومع ذلك فقد تظهر الكليبتوقراطية في بعض النظم الديموقراطية التي انزلقت إلى نظام الأوليغاركية ( حكم القلّة ) . ( المترجمة )