قراءة في كتاب (في الطابق الرابع) .. انفتاح التعبير من السرد الحكائي إلى السينمائي

Wednesday 13th of November 2019 06:33:09 PM ,
العدد : 4547
الصفحة : سينما ,

أحمد الناجي

(1)

هل يحتاج نوفل الجنابي الى تعريف ينصفه؟ وبجاهزية القريب من بداياته البكرية، أستطيع القول على نحو موجز، وبثقة عالية:

هو الأديب الذي تملك حساسية فطرية، وطل قبل نصف قرن من السنين في كتابات تحمل مؤشرات الموهبة الواعدة، قدم بها نفسه، وعرف عن موهبته المميّزة بين أقرانه، وحاز في عمر مبكر على حضور في الوسط الأدبي بمدينته الحلة الوديعة، ولكن نتاجاته الإبداعية المتسمة بالابتكار والتمايز والمغايرة، ظلت محدودة الانتشار، لم تأخذ طريقها للنشر، ولم توفر له حضوراً لافتاً في مشهدية الساحة الثقافية والأدبية العراقية، وإذا انقطع في ذلك الحين عن النشر، فلم يكف لحظة عن هوسه في الانكباب على القراءة، ولم ينقطع عن ممارسة الكتابة.

غادر نوفل العراق أواخر سبعينيات القرن المنصرم، فارقه على الكراهة، وهو لم يبلغ الخامسة والعشرين من عمره، الى حيث يكون الأمن والأمان والرزق في أرض الله الواسعة، وعقب نصف قرن من السنين، لم ينقطع عن النشاط الإبداعي، الذي يتسع لذوي المواهب، ونوفل أحدهم، استطاع أن يصل بمنجزه وتحققاته الى مكانة متمايزة، تعد تجاوزاً كبيراً قياساً مع بداياته، وقد تشكلت تحت أطر عديدة من الإشتغالات الاحترافية في الصحافة المكتوبة والإعلام التلفزيوني المرئي، تتبدى أشد وضوحاً وتألقاً في مختلف المنجزات الابداعية، فهو الصحفي والسارد والخطاط والمصور الفوتوغرافي والمصمم الغرافيكي وكاتب سيناريو الأفلام الوثائقية الذي شرب سحر السينما، حتى ارتوى، وتعرف على أسرارها، فانتقل في مغامرة على سلم الجرأة والشجاعة، وايقاظ الراقد في أغوار النفس التحتانية، مرتقياً بخطوات راكزة، وممسكاً بعديد من المهارات، وخبرة الأيام والليالي الى حيث تكون أرفع مهن صناعة السينما، وأرقاها من حيث المرتبة الأعمق معرفة والأكثر براعة، متصدياً الى مهام متشابكة بوشائج متينة، تجتمع تحت سقف شركة (نوفل الجنابي للإنتاج)، ويفصح لنا عن ماهية نشاطه هذا، بقوله: "لا أقصد بالإنتاج الفيلم فحسب، بل الإنتاج في مجمله، كتابة وإعداداً وتصويراً وثقافة تقنية" (ص175).

يهتم هذا الكتاب الذي جاء تحت عنوان (في الطابق الرابع حيث صنعت أفلاماً صنعتني) بتسليط الضوء على تفاصيل تجربة حافلة بالجهد الدائب، تجمع بين العمل المهني والإبداع، ويفصح عن امتدادات سيرة ذاتية على نحو غير مألوف للمتلقي، لحظة بوح تضعك أمام أفاق ثقافية فسيحة، ومختلفة من ناحية زاوية النظر عما هو معتاد في كتابة السيرة، فهي حصيلة رحلة مضنية أخذت من صاحبها مأخذاً، ومثلت ايقاعاً منسجماً مع ذاته، اتخذ القلم للتعبير عن حياته وأفكاره التي جاءت بين دفتي ثالث كتبه في (220) صفحة، كتاب حافل بأبواب أو فصول سميها ما شئت، عددها يقرب من الثلاثين، كل باب منها ينفتح على فضاء من الحكاوي والذكريات، تسرد شيئاً أو بالأحرى أشياء عن تحققات الذات على المستوى المهني، أشرقت في إبداعات مدهشة، مثلت خروجاً عن الاشتغال التقليدي، تراكمت خلال رحلة عمل دؤوبة في مجال صناعة الأفلام السينمائية الوثائقية. 

ومما يلفت الأنظار أن الكتاب ضم مجموعة من الصور النادرة، والتي حرص على اظهار الكثير والكثير منها على جانبي معظم الصفحات، وعرضها بطريقة فنية مبهرة غير مطروقة من ناحية مساحة الصورة وموقع تسكينها، ومن المسلم به على وجه اليقين، أنها رفدت المتن السردي، وأغنت الكتاب بمعلومات مكملة بالغة التأثير، وأضفت جمالاً على وريقاته وتنضيده واخراجه النهائي، وهذا كله جاء عبر التنسيق اللافت بين المتن المكتوب والصورة المصاحبة.

عندما نظرت نحو الغلاف وتأملت تكويناته، وقفت منبهراً بروعة التصميم الذي يخرج عن الجمود والرتابة، ويعكس التكامل والانسجام والتناغم بين عنوان الكتاب والصورة الفوتوغرافية الماثلة وسط الغلاف، وأول ما يتبادر للذهن مظهرها الذي يأخذ شكل المربع، وهو الشكل الرمزي للاستقرار بامتياز، وتقبع بداخله كافة العناصر المكونة للمشهد البصري، ولكن ما تسيّد فيها هو تكوين نوفل الجنابي الشخص الجالس، الذي يظهر بسعادة غامرة وزهو واضح، مما يعكس دلالة كونه مرتبطاً بالحياة الذي يحيا ارتباطاً وثيقاً، كما تتبدى من ناحية أخرى دلالة انشداده بحيوية وقناعة تامة الى مهنته، ومستمتعاً بالعمل الذي يؤديه.

أما اللون الأحمر الذي يؤطر الصورة الفوتوغرافية ويملأ فضاء الغلاف أعلى الصورة وأسفلها، فهو في العادة يرمز الى دلالات كثيرة جداً، حتى أنها تتباين وتبدو متناقضة في بعض الأحيان، كما يفيدنا فيليب سيرنج في كتابه (الرموز في الفن والحياة والدين)، ولهذا لابد أن نستعين ببداهة قراءة العلامة من خلال علاقتها مع بقية العلامات الأخرى، وعند النظر الى اللون الأحمر على أنه مرتبط بالأساس بطاقة الحياة، يمكننا تأشير دلالة رمزيته التي تعبر عن الحياة المتحركة والمتحولة، وبذا يسهل التقاط المستتر والمخفي من خيوط الارتباط الذي يُشكل العلاقة الرمزية، والمتسقة تمام الاتساق بين دلالة هذا اللون وبين متن الكتاب المشحون بتفاصيل تجربة صناعة الأفلام الثرية، وإذا توخينا الدقة، فأن التماس الرمزي الحقيقي كائن بلا أدنى شك مع الطبيعة الحركية للفيلم السينمائي، وعلى وجه الخصوص مع سياقات الصورة المتحركة، ولا تفوتنا الإشارة هنا، الى غرائبية تأطير الصورة الفوتوغرافية على الغلاف باللون الأحمر الذي يبدو متنافراً مع غيره من الألوان، ولكنه في الوقت نفسه، يؤدي وظيفة كسر رتابة المألوف في تصميم الغلاف، ويمنحه سمة الابتعاد عن الأشكال التقليدية المعروفة.