الخريفُ العِراقيُّ المُلتَهِب رصاصٌ.. وموتٌ ... ودِماء

Monday 18th of November 2019 07:07:06 PM ,
العدد : 4550
الصفحة : آراء وأفكار ,

رضا المحمداوي *

تشوَّهتْ ملامح العملية السياسية في العراق على مدى السنوات ال16 الماضية ،واُثقلَ كاهلها بالكثير من الأخطاء والتراكمات، وأرتبكتْ خطواتها وتعطّلتْ حركتها المُنتجة للمجتمع الذي جاء بها الى سدة الحكم ،

وذلك بفعل العوائق والعراقيل التي منعتْ فضاءات الإنجاز والفعل الحقيقي من الحضور والتجسيد على أرض الواقع المتأزم والمضطرب ، فكان أنْ حَضَرَ الفساد السياسي بكافة أنواعهِ وأشكالهِ ومن ثم جرَّ معهُ الخراب وتبعاته فحدثتْ الإنكسارات النفسية التي باعدتْ المسافة بين الشعب والطبقة الحاكمة .

وعندما حلَّ الخريف العراقي في هذا العام 2019 فإنه جاء ملتهباً محمولاً على رياح التظاهرات والإحتجاجات الشعبية التي إنتهتْ الى إعتصامات مفتوحة سواءٌ في بغداد أو محافظات الوسط والجنوب، وعندما تم التصدي لتلك التظاهرات وحركة الإحتجاج بالقنابل القاتلة المسيلة للدماء وارتفعتْ أعداد الضحايا من الشهداء والجرحى والمصابين والمختنقين فإنها عمَّقتْ من تلك الهوة الفاصلة بين الشعب والحكومة ، وتركتْ جروحاً عميقة ً نازفة ً ليس من السهل معالجتها في المدى القريب.

فالرياح الخريفية التي هبَّتْ على العراق منذ الأوّل من شهر تشرين الأوّل من هذا العام ، قد حملتْ معها ملامح التغيير المنشود، أو المطلوب إحداثه في بنية النظام السياسي المُتكلّس والمنغلق على نفسه ، خاصة ً وإن الجماهير المُحتجة والمُنتفضة بوجه النظام السياسي القائم قد دفعتْ فاتورة الدم من أجساد الشهداء والجرحى ، وبالمقابل فإن الحكومة قد لطّختْ أيديها بتلك الدماء البريئة ولا يمكن بأيِّ حال ٍ من الأحوال تبرئة الحكومة والقائد العام للقوات المسلحة عادل عبد المهدي من مسؤولية إراقة الدماء البريئة التي سالتْ في الساحات والشوارع والجسور .

كونكريت... أَمْ حاجز نفسي ؟ 

إنَّ وضع الحواجز الكونكريتية والموانع والمصدَّات على الجسور التي تربط بين الجماهير والحشود المحتجة من جهة ، والحكومة في الطرف الثاني على الجسر من جهة أخرى ينبغي أن لا يكون حاجزاً فكرياً أو نفسياً بالنسبة للحكومة والنظام السياسي برمتهِ في عدم التواصل مع مطالب المتظاهرين الجوهرية والتي باتتْ معروفة لدى الجميع في مطالبتها بإحداث التغييرات الاساسية في بنية النظام السياسي الذي نَخَرَهُ الفساد بكافة أنواعهِ ومظاهرهِ وبجميع إفرازاتهِ ومُخلّفاتهِ، ومن ثم يتوجّبُ على النظام السياسي المُتمثّل بالحكومة ورئآساتها الثلاث البحث عن الحلول الجذرية للأزمة القائمة، ومحاولة فكّ إختناقاتها وإخراجها من عنق الزجاجة التي تم حشر تلك الأزمة فيها .

إن هول الفاجعة المُتمثّل بأعداد الشهداء والجرحى والمُصابين ، وما تركتهُ من جراح ٍ في جسد المجتمع، وما أحدثتْهُ من شروخ ٍ نفسية ينبغي أن يتبعهُ حراكٌ سياسيٌّ من الطبقة السياسية وخاصة من القلة الحاكمة يوازي تلك التضحيات ويتحسس مواقع الألم والوجع الذي تركتْهُ تلك الطبقة الحاكمة في نفوس مواطنيها .

يتوّجبُ والحال هذه وقد دخلتْ التظاهرات شهرها الثاني مع ما أحدثتْهُ من تداعيات ، أنْ تنظر الحكومة والرئاسات الثلاث ومعها القوى السياسية المُمَثلة داخل البرلمان نظرة ً فلسفية ً واقعية ً تُقيِّمُ من خلالها التجربة الفاشلة طوال ال16 عاماً الماضية ومن ثم تنطلق صوب رسم وتقديم صورة لما ينبغي أنْ تكون عليه حياة الدولة والمجتمع خارج الشرنقة الصغيرة التي وجدتْ تلك القوى نفسها فيها طوال تلك السنين ، لتنطلق بعدها وتُحدّدُ معايير ( الحياة الحرة الكريمة) التي يتشدّقُ بها الساسة وقد كتبوها في مُدوَّنتهم الكبرى(الدستور) ثم أحاطوا تلك المُدوَّنة بهالةٍ وأسوارٍ مُقدَّسة ٍ لكي لا يمسَّها أحدهم لا من قريب ولا من بعيد، كل ذلك يتوَّجب النظر اليه في إطار الدولة العراقية الحضارية المعاصرة التي تنتمي للمستقبل وليس تلك الدولة العتيقة التي تتراجع الى الوراء أو التي ظلتْ تراوح في مكانها في أحسن الأحوال طوال السنوات التي أعقبتْ سقوط النظام الصدامي عام 2003.

إن صور الفساد الكثيرة وما خلَّفهُ من خراب وتعطيل مُقدَّرات الدولة والمجتمع ، وما تركهُ من إنكسار نفسي كبير في نفوس المواطنين العراقيين والذي تَمَثّلَ في ملامح النكوص العام ، والشعور بالخيبة والخذلان ، لا بُدَّ أنْ يكون حافزاً ،ومنطلقاً جديداً وجاداً وحقيقياً للحراك الحكومي الخاص والسياسي العام من أجل رسم رؤية جديدة لانقاذ الأرض والإنسان في العراق.

حَمْلٌ خارج الرحم !!

الأفق السياسي المسدود مع ضياع بوصلة المستقبل في العراق قد تركتْ آثارها واضحة ً في تحريك الجماهير المحتجة والمنتفضة ، وليس من الصحيح معالجتها برصاص القناصين والرصاص الحي والقنابل القاتلة المسيلة للدماء ، ذلك لأن مثل هذه المعالجة الإنفعالية العاجلة بطابعها الدموي لن تُصلحَ حال الدولة أو الحكومة التي إنبثقتْ نتيجة عملية قيصرية للحَمْل الذي تكوَّنَ خارج الرحم !!

مشاهد القتل التي طالتْ المُتظاهرين وتناقلتْها مواقع التواصل الاجتماعي قبل أنْ تتداولها القنوات الفضائية وتعتمدها المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة ،مع سقوط هذه الأعداد المُتزايدة من الشهداء والجرحى والمصابين الذين باتوا يُعدّون بالآلآف في بغداد والمحافظات المنتفضة يتوجبُ الوقوف عند دمويتها ووحشيتها وبشاعتها مع عدم الاستهانة بمستوى القسوة التي عُومِلتْ بها .

كما أنْ هذه المشاهد الدموية التي طالتْ المتظاهرين يجبُ أنْ تكون بداية ً لرسم خطوط عريضة وكبيرة لرؤية سياسية جديدة لمعالجة الاخطاء التراكمية التي اُرتكبتْ على مدى سنوات طويلة ، ومن ثم محاولة تقديم حلول ومقترحات للخروج من هذا المأزق التاريخي بأقلِّ الخسائر والتضحيات بعيداً عن ضجيج الإعلام والرسائل والخطب والكلمات التلفزيونية المتبادلة .

الهروب إلى الأَمام ..!

لقد خَسرَ العراق الكثير .. وما زال يخسر وتَحمّل نزف وآلآم جراحات كثيرة ما زال جسد المجتمع والدولة يئِنُّ تحتها ، من هنا تأتي ضرورة إنبثاق رؤية سياسية جديدة خارج السياق أو النسق الحكومي المتداول الذي أعاد نفسه مرّات .. ومرّات ، وما زال يراهن على إعادة إنتاج نفسِهِ مَرَّة ً أُخرى من خلال تجاهل هذه التظاهرات ومطالبها الجوهرية ومحاولة كسب المزيد من الوقت الضائع من خلال الهروب الى أمام .

إنَّ تفكيك الطبقة السياسية الصلبة بطبيعتها الصخرية القوية المتماسكة قد يكون مطلباً شعبياً وارداً لكنَّهُ على الصعيد الواقعي ليس بالامر الهيّن ، ذلك لأن تلك الطبقة رغم ما يشوبها من فساد وفشل سياسي وأداري ومالي لكنها بالمقابل ما زالتْ تطمع بالمزيد من المنافع والمكاسب والامتيازات وأموال اللجان والهيئات الأقتصادية التابعة لإحزاب السلطة ، كما أنَّها ليستْ مُستعدةً للتنازل عنها أو ترك نفوذها وسلطتها وقوتها التي اكتسبتها طوال وجودها وإنخراطها في العملية السياسية ومناصبها ووزاراتها ومؤسساتها ووجود مثل هذه الاعتبارات والمُسبِّبات هو ما يدفع القوى السياسية بالتمسك بوجودها داخل أروقة السلطة بكراسيها الحكومية ومواقعها ومناصبها التي إحتلتها في خارطة الحكومة ومؤسساتها .

ركوب موجة هذه الاحتجاجات أصبح صعباً جداً على القوى السياسية الداخلة في العملية السياسية ؛ ذلك لأن موجة التظاهرات الاحتجاجية أصبحتْ عالية ً جداً وليس من السهل الوصول اليها ، ولم يبقَ أمام أحزاب السلطة سوى الالتفاف على هذه الحركات الاحتجاجية من خلال محاولة كسب الوقت بواسطة عمليات التسويف والمماطلة المتزامنة مع القمع الدموي لها وكذلك المراهنة على مرور الوقت من أجل تفتيت صخرة تلك الكتلة الجماهيرية المنتفضة وتفريق جمعها وإفراغها من قوتها الشعبية المتزايدة .

كلمة اخيرة 

نحن لا نستطيع أنْ نُغيِّر من التاريخ شيئاً ، ولكن علينا البدء بصناعة المستقبل .

* ناقد وشاعر ومخرج تلفزيوني