أسبريسو: تعرف إيه عن المنطق؟

Sunday 23rd of February 2020 09:41:13 PM ,
العدد : 4617
الصفحة : الأعمدة , علي وجيه

 علي وجيه

كم مرّة شعرتَ بأنّكَ تدور بحلقةٍ مفرغة، أثناء حديثك مع أشخاص عديدين، حين تحاول أن توصل لهم وجهة نظر، وهم لا يفهمونها، ولا يحاولون فهمها، ولا فهم السياق، ولا المتبنّيات، ولا عناصرها، ولا إمكانية الوصول لمشترك فيها؟

أتصوّر أن كثيرين توقّفوا عن إبداء الرأي، والحديث حتى مع الأقارب، أو سائق التاكسي الذي يتمنى أن يحكم العراق أسبوعاً، توقّف الجميع عن النقاش، خصوصاً السياسيّ منه، ووصلت الأطراف المتناقضة إلى نتائج يقيّنية قاطعة، لا يأتيها الباطلُ من بين يديها ولا من خلفها، كلّ شيء ثابت وأزليّ، وغير قابل للخدش ولا لعلامة استفهام واحدة.

والأمر لا يتعلّق بالتمسّك بالرأي فحسب، بل بِما يلقي بظلاله على أرض الواقع، من عنفٍ لفظيّ، وعنفٍ جسديّ أحياناً، وحملات تكفير وتخوين، وإن أردنا أن نبدو حالمين قليلاً أو نسقط في "التأويل المفرط"، لنقول إن جزءاً كبيراً من مشاكل العراق متعلّقة بعدم وجود مُخرَجات ومُدخَلات منطقيّة، للتعاطي مع الآخر، والأمر منسحبٌ على جميع نواحي الحياة العراقية خصوصاً، والعربية عموماً.

إن واحداً من مقاتل هذا المجتمع وأمراضه المستعصيّة هو عدم بناء الأطفال تربوياً، وإن فتح أحدنا حقيبة شقيقه الصغير أو ابنه، ليرى ما يدرسون في مدارسنا المتهالكة، لهالَنا المستوى المعلوماتيّ الضحل، الذي يديمه بعض المعلّمين بالخرافات وتلوّثات الشارع الشعبويّ الرث، وهم يحشرونه في أدمغة الأطفال والجيل الجديد، فضلاً عمّا يُنتجه التواصل الاجتماعي، والإعلام، من محتوى سيئ لا يُسهم إلا بإنهاك وإطفاء خلايا الدماغ لدى الصغير، وتشويهها لدى الكبير.

تواجه حالاتٍ غريبة على الدوام تنطلق من منطلقات غير منطقية ولا عقلانية، في التعاطي مع الشأن العام، حتى ليحضر بيت المتنبي الشهير باستمرار في ذهنك: 

وليس يصحُّ في الأذهانِ شيءٌ / إذا احتاجَ النهارُ إلى دليلِ 

وما يصحّ شيء، وتجد أنّ هناك مَن يبرّرُ القتل، وآخرين يبرّرون كوارث أخرى، بينما يقدّس كثيرون كثيرين دون أن يعرفوا لماذا، ويدافع كثيرون عن منظومات عديدة دون أن يقرأوها، كي يقنعوا الآخر، بالأقل بأنّ لديهم أدمغة تفكّر، ووصلت إلى هذه النتيجة.

ما زلتُ أرى، وأنا حالمٌ، أنّ عدم وجود أيّ مادة دراسية عن المنطق في المدارس العراقية، وصولاً للجامعة، وما بعدها، هي التي جعلت غالبية الشعب العراقي غير قابل على التعامل بطريقةٍ منطقية، ومن يفكرُ بطريقةٍ منطقية، موضوعية، غير عاطفية، يحتاج الى مكتسبات خارجية، من ناحية القراءة وما إلى ذلك، وكلما ازدادت مكتسباته، ازدادت فرص انقطاعه عن الكلام مع الآخر، لأنه يبدو كمن يتعلم لغةً أخرى، تجعله غريباً عن القطيع، أو المجموع الذي يكتفي بالتكرار دون الابتكار، والاتباع دون التفرّد.

تتفوق الحوزة العلمية بتدريس المنطق، كتاب الشيخ محمّد رضا المظفّر، بشكلٍ نظريّ، لكن هذه المادة، ومثيلاتها، لا يعرفها الطفل لا من المدرسة، ولا من العائلة، ولا من أيّ جانب آخر، الا اذا ابتسم الحظ له واطّلع على مؤلفاتٍ خارجية.

ولو قمتُ باستدعاء أمنية سائق التكسي، الذي يتمنى حكم العراق أسبوعاً، فسأقول: لو كنتُ وزيراً للتربية، لأمرتُ بتبسيط كتاب المغالطات المنطقية لعادل مصطفى، وتعليمه للأطفال، هذا الكتاب التحفة الذي يكشف لنا أيّ خواءٍ عقليّ يحيط محاوراتنا، خصوصاً في الفيسبوك.

تكادُ تُشبهُ تجارب الأمم التي نجحت بعد انهدام بعضها، وهي أن تقتنع بالخسارة، ثمّ تبدأ باستثمار البشر، وصنع طاقة عقليّة منهم، وهذا ما حدث ولعلّ أبرز نماذجه اليابان وكوريا الجنوبية، التي تشكّل فضيحة شقيقتها الشمالية، بين استثمار الفرد وبين تجهيله وقمعه، وإن أرادت هذه البلاد التنفّس، عليها أن تبدأ من الكائنات التي تراها في 7:30 صباحاً، تحمل حقيبة ملوّنة، وتبتسم لك، قبل أن يتلقّفها الكبار ليصنعوا منها قطعاناً لا تفكّر!