هاشم صالح في حوار مع المدى: كل ما لم أستطع قوله حتى الآن قلته هنا في هذا الكتاب لماذا يشتعل العالم العربي؟

Wednesday 9th of September 2020 06:40:31 PM ,
العدد : 4767
الصفحة : آراء وأفكار ,

2-2

 أجرى الحوار / كه يلان محمد

الأزمات والإنتكاسات المتتالية في واقعنا المثخن بالتخلف سببها الأساس هو غياب المشاريع الرامية لفك الدوغمائيات المتراكمة على مدار القرون لذلك فنحن نعيشُ في حالة الإنسداد التاريخي ومايزيد من صعوبة التحوّل على الصعيد الفكري والعقلاني هو تعويل الأنظمة السياسية على توظيف الخطابات المتكلّسة لسد الثغرة في شرعيتها فبالتالي لاتوفر هذه البيئة المثقلة بالكراهية مناخاً مواتياً لإزدهار التيار العقلاني الذي يؤسسُ لرؤية إنسانية منفتحة بعيداً عن التموضعات المذهبية والطائفية والعنصرية ،

لكن مع كل هذه الإحتقانات والخيبات المتتالية ثمة مساعٍ حثيثة لتشخيص مكامن الخلل والحفر في الظواهر المسببة للتخلف الحضاري ، ومايقومُ به الكاتب والباحث السوري هاشم صالح من خلال مؤلفاته القيمة ومشاركاته الفكرية المستمرة في المنتديات العالمية والعربية وقراءاته العميقة لأزمتنا المركبة يدعم مشروع التنوير العربي ويمدهُ بمفاهيم معرفية كاشفة لمظاهر الإنحطاط والجمود الفكري،وهو يضع حالة سباتنا العقلي أمام الفكر الأوروبي الذي يستمدُ حيويته من إنطلاقاته المتجددة وقدرته على تفكيك الإنغلاقات المعتمة والتراكمات المعطلة وبذلك لايدع مجالاً لتجاهل ماتفصلنا عنهم من المسافات والعقود المديدة على المستوى الفكري. صدر لـ "هاشم صالح" مؤخراً كتاب جديد بعنوان " لماذا يشتعل العالم العربي؟" من إصدار دار المدى ، وكان لنا حوارُ حول محتويات كتابه هذا ، ومايتصفُ به من الخصوصيات قياساً على مانشر له سابقاً من كتب عديدة .

 هناك معركة على التأويل والتفسير بين التيار العقلاني وخصمه التكفيري. أي دور يمكن أن تلعبه المؤسسات الجامعية على هذا المستوى؟

سؤال وجيه وسوف أجيب عنه على النحو التالي: ينبغي تدشين كليات لعلم الأديان أو لتاريخ الأديان المقارنة في كل الجامعات العربية. عندئذ سوف تندلع معركة التأويل على مصراعيها بين التيار العقلاني وخصمه التكفيري. أما في الحالة الراهنة للأمور فلا يوجد في الساحة الا التأويل التكفيري الظلامي القديم للإسلام. إنه يسيطر سيطرة كاملة على العقول والأرواح ولا أحد يتجرأ على مواجهته. ومن هذه الناحية لا يوجد فرق بين الجامعات الحديثة وكليات الشريعة القديمة. لا أحد يتجرأ على أن يفتح فمه مجرد فتح عندما يتعلق الأمور بالشؤون الدينية. لا أحد يستطيع أن يقول كلاماً آخر عن الإسلام غير الكلام التقليدي الموروث والمكرور منذ مئات السنين. لا يستطيع أي مثقف عربي أن يناظر أي شيخ دين على الفضائيات أو شاشات التلفزيون. إنه مغلوب سلفاً. وذلك لأن الشيخ سوف ينهال عليه بجملة المواعظ واليقينيات المقدسة المعصومة التي لا يستطيع أحد أن يناقضها أو حتى يناقشها مجرد مناقشة. وعندئذ سوف يفحم الشيخ المثقف الحداثي ويخرسه حتى قبل أن يفتح فمه. وإذا ما فتحه فسوف يوافق على كلام الشيخ وينبطح أمامه ويقبل يده وإلا اتهموه بالزندقة والارتداد عن الاسلام. ولكن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر الى الأبد.

ولذلك أقول: سوف تحصل زلازل فكرية في العالم العربي مستقبلاً. وأولها وأعظمها زلزال يخص القرآن ذاته حيث ستنكشف تاريخيته لأول مرة. وهذا الزلزال سوف يصعق العالم العربي والاسلامي كله في الصميم. لا أستطيع أن أقول أكثر من ذلك الآن ولا أن أغامر بنفسي أكثر مما غامرت. بلى سأغامر وأتهور وأقول ما يلي: حتى الآن لم يظهر من القرآن الا جانب واحد هو الجانب الإلهي السماوي العالي المتعالي. ولكن في السنوات القادمة سوف يظهر الجانب الآخر المطموس كليا منذ ألف سنة أي منذ انتصار الحنابلة على المعتزلة وأقصد به: الجانب الأرضي البشري التاريخي. فالقرآن نص له علاقة بالبيئة والظروف التاريخية التي ظهر فيها: أي الجزيرة العربية والقرن السابع الميلادي. كل مفرداته وصياغاته التعبيرية وحيثياته وأسماء الأشخاص والأعلام والأماكن الواردة فيه تدل على ذلك. كما أن له علاقة وثيقة جدا بالكتب التي سبقته: أي التوراة والانجيل على وجه الخصوص. قصص بني إسرائيل وموسى ابن عمران وعيسى ابن مريم وهارون وزكريا ويوسف ويعقوب وداود والأسباط الخ تملأ القرآن كله تقريباً من أوله الى آخره. تاريخية القرآن سوف تنكشف تدريجيا كما ينقشع الضباب عن عمق الوادي. والحقيقة الهائلة المطموسة منذ ألف سنة سوف تُقدم للمسلم على دفعات أو جرعات متلاحقة والا صعقته أو قتلته في أرضه. ليس من السهل تحمل وطأة الحقيقة وبخاصة اذا كانت حقيقة عظمى ثم بشكل أخص إذا كانت مطموسة طيلة كل تلك الفترة الطويلة. نعم سوف ينزل القرآن الكريم يوماً ما من السماء الى الأرض. وسوف تنكشف علاقته المباشرة أو غير المباشرة بالحيثيات الأرضية. ولكن تحمل ذلك سوف يكون أصعب علينا من تجرع السم الزعاف. لذلك أقول بأن هذه الحقيقة الضخمة، هذه الحقيقة الهائلة، هذه الحقيقة المخفية، سوف تنكشف تدريجياً على دفعات وإلا صعقتنا في أرضنا. تأمل يا أخي الكريم بالأطروحة التالية: يمكن القول بمعنى من المعاني بأنه لم يظهر في اللغة العربية حتى الآن الا كتاب واحد هو القرآن. على مدار ألف وأربعمائة سنة لم يظهر إلا كتاب واحد. في السنوات القادمة قد يظهر كتاب ثان. بهذا المعنى أقول بأنه سيظهر وحي جديد في اللغة العربية لاحقاً. لا أقصد بذلك أن القرآن سوف يُلغى أو يفقد مفعوله أو يحل محله قرآن جديد. معاذ الله. القرآن سوف يبقى على مدار الأزمان. ولكن تفسيره سوف يختلف كلياً. لأول مرة سوف يظهر التفسير الحقيقي للقرآن. لأول مرة سوف يظهر الوجه الحقيقي للقرآن. وبظهوره سوف تنبثق شموسٌ وأضواء لا تكاد تُصدق. بظهوره سوف تنعتق أرواحٌ ونفوس. هذا هو الحدث - الزلزال المنتظر. بهذا المعنى أقول بأنه سيظهر وحي جديد في اللغة العربية لاحقاً. نقصد بالوحي هنا أن المعنى الحقيقي للقرآن سوف ينكشف (أو يُوحى به) لأول مرة. وهذا هو المعنى الأصلي لكلمة وحي في اللغة العربية: أي الظهور الصاعق أو الانكشاف والتجلي المتدرج. إذا ما حصل ذلك فسوف نتحرر عندئذ من تلك الهيبة العظمى الساحقة أو الرهبة اللاهوتية التي تسيطر علينا عندما نفتح القرآن وتمنعنا من رؤيته كما هو: أي كنص لغوي له علاقة بالزمان والمكان. سوف نتحرر بشكل خاص من رُهاب آيات القتال وكذلك الآيات التكفيرية العنيفة الواردة في النص الأعظم للإسلام. ولن نعود نكفر الآخرين بجرة قلم اعتماداً عليها كما هو حاصل الآن بل وعلى مدار القرون المتطاولة. عندئذ سنتمكن من التفريق بين الآيات الكونية التسامحية الأخلاقية العليا في القرآن/ والآيات التكفيرية الغاضبة الخاصة بظروف عصرها الصراعية فقط. القرآن قرآنان: قرآن تسامحي/ وقرآن تكفيري، قرآن منفتح/ وقرآن منغلق، قرآن تنويري/ وقرآن ظلامي. ولكن للأسف لم يأخذ الفقهاء منه الا البعد الثاني أي التكفير والانغلاق والحرب والضرب. بل واعتبروا آيات التسامح والانفتاح منسوخة من قبل آيات التكفير والقتال! كلما كانت الآية عنيفة، ساحقة ماحقة، أعجبتهم. أما آيات التسامح والصفح والغفران والاعتراف بالأديان الأخرى بل والتودّد لها أحيانا فلا تعجبهم لأنها "رخوة" في نظرهم. وبالتالي فلا تليق بالإسلام الذي ينبغي أن يتسم دائماً بالقوة والجبروت وإرعاب الآخرين وإجبارهم على اعتناقه تحت حد السيف وإلا فهم كفرة فجرة لا يستحقون إلا قطع الرؤوس.. وساد هذا المفهوم القروسطي المتشدد على مدار القرون وعم الأجيال العربية والاسلامية كلها. ولذلك نلاحظ أن الثقافة الدينية السائدة في العالم العربي حالياً بكل مدارسه وجامعاته وفضائياته وبالطبع جوامعه ومساجده هي ثقافة ظلامية مُرعبة تحولت الى مشكلة عالمية في وقتنا الراهن. وماذا يمكن أن نقول عن مدارس الطالبان في أفغانستان والباكستان! شيء مخيف وظلام ما بعده ظلام. هذا ماشرحته مطولاً على مدار الكتاب.

أضيف هنا ما يلي: اني ضد الرسوم الكاريكاتورية وبقية الاستفزازات التي تصدر عن اليمين المتطرّف في الغرب ضد النبي والقرآن والإسلام عموماً. ولكن ينبغي أن يعلم المسلمون ما يلي: ما دام تراثهم يحتوي على آيات وأحاديث وفتاوى تحل تكفير الآخرين وقتلهم شرعاً فسوف يجابه بالعداء والكره على مدار العالم بأسره. وبالتالي فالكرة في ملعبنا. لنحاول تنظيف تراثنا من هذه المقولات التكفيرية القديمة ولنقدم عن ديننا صورة تسامحية تنويرية وعندئذ لن يعود أحد يتحرش بنا. أساس المشكلة يكمن هنا. وبالتالي فكفانا صراخاً وزعيقاً: اسلاموفوبيا! اسلاموفوبيا! سوف تظل الاسلاموفوبيا سائدة ما دام هذا الدين يقدم عن نفسه صورة كريهة بل ومرعبة للآخرين. ينبغي العلم بأن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يخيف العالم حالياً بشرقه وغربه من خلال الجماعات التكفيرية التي لا حصر لها ولا عد: النصرة، القاعدة، داعش، التكفير والهجرة، جيش الإسلام، جيش محمد الباكستاني، لواء التوحيد، حراس الدين، بوكو حرام، جماعة وحرض المؤمنين، وعموما كل التنظيمات المتفرعة عن الجماعة الأم: الأخوان المسلمين. كل الجوانب التنويرية المشرقة من تاريخ الإسلام غائبة أو مغيبة أو مطموسة حالياً من قبل هذه الجماعات الظلامية المتطرفة.

*من أين تستمد التفاؤل ونحن نفتقر الى من يشخص مرضنا الحضاري؟ بما أنه لا يوجد عندنا فلاسفة في حجم ديكارت وسبينوزا الخ؟

يا أخي الكريم سوف أقول لك ما قاله الشاعر: ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل. الانسان لا يستطيع أن يعيش بدون أفق، بدون مستقبل، بدون أمل. إذا كان الوضع الحالي مسدوداً فهذا لا يعني أنه سيظل مسدوداً الى أبد الدهر. سوف يظهر فلاسفة عرب أو مسلمون يقبلون بمناقشة العقائد الدينية كما حصل في أوروبا بدءاً من القرن السابع عشر. والواقع أنهم ظهروا في الماضي. فالمعري كان ناقداً عظيماً للعقائد الموروثة. رسالة الغفران يمكن اعتبارها بمعنى ما أكبر استهزاء بالعقائد الدينية الجماعية للمسلمين. ولكنه استهزاء عبقري، مكبوت أو مكتوم تحت ستار التقية. بهذا المعنى فالتنوير العربي الإسلامي ظهر قبل التنوير الأوروبي بعدة قرون ولكنه توقف فجأة للأسف الشديد. ولكن المعري كان يصرح أحيانا بشكوكه وتساؤلاته ولا يكتمها دائماً. وكان قادرا على أن يتخذ مسافة واضحة عن المعتقدات الدينية التي تلقاها وتشربها مع حليب الطفولة كما يقال. كان قادراً على أن يضع المعتقد المسيحي على قدم المساواة مع المعتقد الإسلامي وهو المسلم أبا عن جد! وإلا فكيف يمكن أن نفهم أبياته الشهيرة التالية:

في اللاذقية ضجةٌ

ما بين أحمد والمسيح

هذا بناقوس يدق

وذا بمئذنة يصيح

كلٌ يؤيد دينه

يا ليت شعري ما الصحيح؟

هذه الأبيات تؤسس لتاريخ الأديان المقارنة بالمعنى الحديث للكلمة. انها تدل على أن المعري كان متحرراً من التقليد المتحنط والمتكلس والمتحجر. كان متحرراً من تلك اليقينيات التراثية العدوانية التي تقول بأن هذا الدين أفضل من كل ما عداه، وأنه وحده الصحيح وبقية الأديان ضلال في ضلال، أو مزورة أو محرفة الى آخره.

وأخيراً سأقول ما يلي: إذا لم يكن عندنا مثقفون في حجم ديكارت وسبينوزا وفولتير وديدرو الخ لكي يحرروننا من تراثية التراث ودوغمائيته وتحجره فإنه يكفي أن نترجم أعمال كبار المستشرقين الأكاديميين لكي نتحرر. إني أعرف أني سأثير عاصفة من الغضب بهذا الكلام. ولكن لايهم. هذه هي الحقيقة. تنوير التراث الإسلامي يحصل الآن في الغرب لا في الشرق. بل وحتى المثقفين العرب أو المسلمين فإنهم مضطرون للهجرة الى الغرب إذا ما أرادوا أن يفتحوا فمهم ويقولوا كلمة واحدة لها معنى عن الدين الإسلامي. أنظر حالة الباكستاني فضل الرحمن، أو الجزائري محمد أركون، أو التونسي عبد الوهاب المؤدب، أو الايراني داريوش شايغان، على سبيل المثال لا الحصر. وبالتالي فالتنوير موجود ولكنه غير معروف أو غير مترجم بشكل كاف الى العربية أو الكردية أو التركية أو الفارسية الخ.. كل النهضات الكبرى قامت على أكتاف الترجمات الكبرى. فلنترجم اذن، يا أخي الكريم، فلنترجم!

 مشروع التنوير يتطلب حاضنة ينطلق منها. هل ثمة مكان من المتوقع أن يتحول الى منصة للاستنارة في الوقت الراهن؟ نقول ذلك وبخاصة أن عددا من الحواضر أو العواصم العربية التاريخية تعاني من أزمات طاحنة؟

يا أخي الكريم الحاضنة هي هذا الفضاء الواسع الذي يجمعنا الآن ونحن نتحاور عن بعد دون أن نعرف بعضنا بعضاً بشكل شخصي. إنه يجمعنا على الرغم من بعد الديار والمسافات. الحاضنة هي صفحات الويب أو الأنترنت. بعد ثورة المعلوماتية الحديثة لم نعد بحاجة الى مكان محدد لكي ننطلق منه. لم نعد بحاجة الى دمشق أو بغداد أو القاهرة أو بيروت الخ.. مكاننا أصبح أوسع بكثير أو بما لا يقاس. مكاننا أصبح العالم بأسره. التنوير العربي أو الإسلامي سوف يظهر هنا. نقول ذلك وبخاصة أن الانترنت يتيح لك مساحة من الحرية لا تتيحها لك جامعات العالم العربي قاطبة.

لتوضيح كلامي بشكل أفضل وعلى سبيل النكتة الرائعة سوف أقول ما يلي: عندما سمع فولتير بأن الأصوليين الظلاميين يضيقون على ديدرو ويهددونه بسبب الموسوعة الشهيرة التي اتهموها بالكفر والإلحاد اتصل به وقال له: أترك باريس فورا وتعال الى هنا، الى منطقة محررة من اللاهوت والكهنوت عند الملك المستبد المستنير فريدريك الثاني. فقد أعطانا مكاناً أو حيزاً كافياً لكي نفكر فيه بحرية وننتقد العقائد الدينية كما نشاء ونشتهي. وهو مستعد لحمايتنا إذا ما فكر الأخوان المسيحيون المتطرفون بالاعتداء علينا جسدياً. ولا يلزمنا إلا مطبعة لكي ننشر كتبنا و نطلق صواريخنا ضد الظلامية والظلاميين. ولا زائد لمستزيد!