مَّن المكلف بالتحقيق فـي جرائم الفساد و هدر المال العام ؟ (إشكالية تطبيق القانون)

Monday 16th of November 2020 07:52:21 PM ,
العدد : 4812
الصفحة : آراء وأفكار ,

 سالم روضان الموسوي*

إن صدور قرار محكمة البداءة في الكرخ العدد 1918/ب/2020 في 15/11/2020 الذي قضى بإبطال قرار مجلس الأمناء في هيئة الاتصالات رقم 23 في 26/7/2020 حول تجديد رخصة شركات الهاتف النقال،

قد سلط الضوء على حجم المال العام الذي يتعرض إلى الهدر بواسطة أوامر وقرارات تنفيذية لا تراعى فيها الأحكام القانونية، وقرار الحكم أعلاه قد يتعرض لاحقاً للنقض لأسباب منها عدم الاختصاص النوعي للمحكمة المختصة في النظر فيه لوجود رأي يرى إن محكمة القضاء الإداري هي المحكمة التي ينعقد لها الاختصاص النوعي، لكن تبقى الأسباب والحيثيات التي تضمنها تؤشر لنا حجم الهدر في المال العام، و بعض المختصين أثار أسئلة كثيرة تتعلق بكيفية محاربة هذا الهدر في المال العام، وهل يشكل جريمة يعاقب عليها القانون ولماذا لا تقوم الجهات التحقيقية باتخاذ الإجراءات القانونية؟

وهذه أسئلة لها حظها من الواقعية والمقبولية، مع أن المنظومة التشريعية العراقية قد تضمنت عدة نصوص قانونية تبين الجهات المكلفة بالتحقيق وكذلك المكلفة بالتحري، ومنها ديوان الرقابة المالية وهيئة النزاهة، ويكون دور ديوان الرقابة المالية في الرقابة على المال العام أينما وجد وتدقيقه. وتدقيق أعمال الجهات الخاضعة لرقابته وتدقيقها في جميع أرجاء العراق وعلى وفق ما جاء في المادة (3) من قانون ديوان الرقابة المالية رقم 34 لسنة 2011 ، ويمارس هذه الرقابة عبر تدقيق حسابات ونشاطات الجهات الخاضعة للرقابة والتحقق من سلامة التصرف في الأموال العامة و يلتزم الديوان بأخبار الادعاء العام أو هيئة النزاهة أو الجهات التحقيقية المختصة كل حسب اختصاصه عن كل مخالفة مالية يكتشفها إذا ما شكلت جريمة وعلى وفق ما ورد في المادة (16) من قانون ديوان الرقابة المالية، وهذه المهمة هي تحرٍ وتنقيب عن المخالفة التي تتسبب في هدر المال العام ومن ثم يشعر الجهة المكلفة بالتحقيق والمتمثلة برئاسة الادعاء العام وهيئة النزاهة، أما عن دور هيئة النزاهة فهو دور كبير يماثل أهمية عمل ديوان الرقابة المالية، ومن مهامها الكبيرة والجليلة التحقيق في قضايا الفساد بواسطة محققين تحت إشراف قاضي التحقيق المختص، وعلى وفق أحكام المادة (3) من قانون هيئة النزاهة العامة رقم 30 لسنة 2011، ومهام الهيئة في التحقيق منها ما يتعلق بقضايا الفساد وهدر المال العام، لكن كل هذه الإجراءات تبقى خاضعة لسلطة القاضي المختص، إلا إنها تملك سلطة التحري عن تلك الجرائم وعلى وفق أحكام المادة (10) من قانون هيئة النزاهة وتمارس التحري عبر استخدام وسائل التقدم العلمي وأجهزة وآلات التحري والتحقيق وجمع الأدلة واستدعاء المعنيين للتحقيق معهم بشكل مباشر بعد صدور قرار من القاضي وعلى وفق أحكام المادة (12) من قانون النزاهة، وبذلك فان هاتين المؤسستين، ديوان الرقابة المالية وهيئة النزاهة، ليس لهما سلطات واسعة وإنما مقيدة بقرارات قاضي التحقيق، وأحياناً توجه لهما سهام النقد بعدم قدرتهما على محاربة الفساد وهدر المال العام، والحقيقة غير ذلك فان جهودهم جبارة وكبيرة، لكن يبقى موضوع الأخذ بتحقيقاتهم وتحرياتهم يعود إلى سلطة قاضي التحقيق، وعادة ما تهدر هذه التحريات بقرار القاضي، ولربما السبب يتعلق بمنظومة التحقيق القضائي الذي يعتمد في كل إجراءاته على قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971 المعدل، والذي أصبح لا يواكب التطور الحاصل في آليات مكافحة الفساد، وبات متخلفاً عن تطور أساليب السراق والمفسدين، لذلك سعى المشرع إلى معالجة هذه الفجوة، فاصدر قانون الادعاء العام رقم 49 لسنة 2017 وجاء في الأسباب الموجبة لتشريعه الآتي (للتغيرات التي حصلت بعد صدور قانون الادعاء العام رقم (159) لسنة 1979 ولغرض مواكبة هذه المتغيرات والتوافق مع التشريعات الجديدة ولضمان حسن الأداء في مكونات السلطة القضائية , شرع هذا القانون)، وفي هذا القانون منح جهاز الادعاء العام مهام تتعلق بمحاربة الفساد المالي والإداري عبر وسائل عدة منها، إقامة الدعوى بالحق العام وقضايا الفساد المالي والإداري ومتابعتها استناداً إلى قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم (23) لسنة 1971 المعدل، إلا أن القانون الجديد أتى بأسلوب جديد على المنظومة القانونية العراقية، حيث نقل اختصاص التحقيق في جرائم الفساد المالي والإداري من قاضي التحقيق إلى دائرة المدعي العام، وعلى وفق أحكام المادة (5/ثاني عشر) من قانون الادعاء العام التي جاء فيها الآتي يتولى الإدعاء العام (التحقيق في جرائم الفساد المالي والإداري وكافة الجرائم المخلة بواجبات الوظيفة العامة المنصوص عليها في قانون العقوبات رقم (111) لسنة 1969 المعدل طبقاً لأحكام قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم (23) لسنة 1971 المعدل على أن يحيل الدعوى خلال (24) أربع وعشرين ساعة إلى قاضي التحقيق المختص من تاريخ توقيف المتهم). وهذا النص حصر التحقيق في دائرة المدعي العام حصراً، ولا يجوز لأي جهة قضائية أخرى أن تجري التحقيق، لان المشرع وجد الضرورة في هذا الاختصاص، حيث استحدث لممارسته دائرة في رئاسة الادعاء العام تسمى دائرة المدعي العام الإداري والمالي وقضايا المال العام يديرها مدعي عام لا تقل خدمته عن (15) خمس عشرة سنة تتولى الإشراف على مكاتب الادعاء العام المالي والإداري في دوائر الدولة وعلى وفق أحكام المادة (5/ثالثاً) من قانون الادعاء العام، والملاحظ إن المشرع لم يشترط أن يكون مدير عام هذه الدائرة قاضياً، وإنما موظفاً قانونياً، واعتقد أن السبب في ذلك لإعطاء المرونة في آليات التعامل مع الفساد في الدوائر وقدرة الحركة دون قيود تمليها على القاضي وجاهة منصبه، فضلاً عن ذلك أتى القانون بمبدأ جديد وهو تأسيس مكاتب للادعاء العام المالي و الإداري في الوزارات والهيئات المستقلة يمارس اختصاصه في التحقيق بجرائم الفساد المالي والإداري وعلى وفق إحكام المادة (5/رابع عشر) من قانون الادعاء العام، وأرى أن لا ضير في ذلك ولا يعد إنقاص من ولاية القضاء، لأن هذه المكاتب هي جزء من مكونات جهاز الادعاء العام وليس من مكونات مجلس القضاء الأعلى، وعلى وفق ما جاء في المادة (89) من الدستور ، والتي تعززت بنص المادة (1) من قانون الادعاء العام التي جاء فيها الآتي (أولاً: يؤسس جهاز يسمى جهاز الادعاء العام ويعد من مكونات السلطة القضائية الاتحادية يتمتع بالاستقلال المالي والإداري ويكون مقره في بغداد. ثانياً: يتمتع جهاز الادعاء العام بالشخصية المعنوية ويمثله رئيس الادعاء العام أو من يخوله)، حيث قضت المحكمة الاتحادية العليا بان رئاسة الادعاء العام هو جزء من مكونات السلطة القضائية وليس جزءاً من مكونات مجلس القضاء الأعلى وإن وجود رئيس الادعاء العام في مجلس القضاء الأعلى، فأنه يمثل الادعاء العام في المجلس وليس لأنه جزء من المجلس، وعلى وفق ما جاء في قرارها العدد 136 وموحداتها 137/اتحادية/2017 في 5/2/2018 ، لكن ما يؤسف له إن هذه الدائرة المهمة في محاربة الفساد وهدر المال العام لم يتم إنشائها لغاية الآن ودور الادعاء العام معطل في اتخاذ الإجراءات التحقيقية بخصوص إهدار المال العام، مع أن الاختصاص أصبح منعقداً له حصراً، وما يلفت النظر وجود أفكار لسلب قدرة جهاز الادعاء العام في أن يكون مستقلاً ولا يخضع لمظلة مجلس القضاء الأعلى، كذلك السعي لإلغاء هذه النصوص التي تسهم في محاربة الفساد خصوصاً بعد إلغاء مكاتب المفتشين العموميين، ولمسنا ذلك في تصريح عضو لجنة النزاهة في مجلس النواب (بهار محمود) لـصحيفة الصباح في عددها الصادر يوم 12 /11/2020 حيث قالت (إن اللجنة القانونية ناقشت التعديلات الخاصة بقانون الإشراف القضائي التي تضمنت مادتين تريد السلطة القضائية تعديلها، وهي في الوقت نفسه مخالفة للدستور، وبعد اجتماع اللجنة مع رئيس الإشراف القضائي واعتراضها عليه، فقد طلب مجلس القضاء سحبه، واللجنة لم توافق على ما قدمه مجلس القضاء الأعلى في هذا التعديل، إذ إنهم يريدون سحب الشخصية المعنوية من هذه التشكيلات) ، كما أن من يقوم بالتحقيق هو المدعي العام الذي ينتدب من القضاة في مجلس القضاء الأعلى، وله عدد من المعاونين من الموظفين أو من المحامين الذين من الممكن التعاقد معهم ، وعلى وفق أحكام المادة (4/ سابعاً) من قانون الادعاء العام التي جاء فيها الآتي (1-يعين معاوناً للادعاء العام قانوني حاصل على شهادة أولية في القانون وله خدمة لأتقل عن (3) سنوات في المحاكم او الدوائر القانونية أو ممن له خدمة لا تقل عن (5) خمس سنوات في المحاماة بعد اجتياز الاختبار التنافسي والدورة التأهيلية مدة لا تقل عن (6) ستة أشهر في معهد التطوير القضائي أو المعهد القضائي) وتفعيل هذا النص سوف يوفر فرص عمل للمحامين بشكل مؤثر ويمكن أن يصبح نائباً للمدعي العام لاحقاً بعد توفره على الشروط الواردة في تلك المادة وعلى وفق الآتي (لرئيس الادعاء العام تعيين معاون الادعاء العام نائباً للادعاء العام إذا كانت لديه خدمة لاتقل عن (3) ثلاث سنوات كمعاون للادعاء العام بعد اجتازه الدورة التأهيلية والامتحان التنافسي) ، وفي المادة أعلاه وضح القانون مهام معاون المدعي العام بالآتي ( يمارس معاون الادعاء العام المهام الآتية :أ- تمثيل الحق العام في كل دعوى تكون الدولة طرفا فيها ويكون خصما الى جانب الممثل القانوني للدائرة المعنية. ب-القيام بالمهام التي يتولاها الادعاء العام بعد تكليفه من رئيس الادعاء العام) .

ومن خلال ما تقدم فان مهمة التحقيق في جرائم الفساد المالي والإداري أصبحت من مهام جهاز الادعاء العام حصراً ويكون للقضاء سلطة التوقيف فقط إذا ما طلب ذلك الادعاء العام على وفق أحكام المادة (5/ثاني عشر) من قانون الادعاء العام، ونأمل أن يكون قرار محكمة البداءة حافزاً لاستنهاض همم الجهات المكلفة بالتحقيق في قضايا هدر المال العام بما فيها جهاز الادعاء العام ذلك الجهاز المكلف بمهام عظيمة تتناسب وحجم الاهتمام الرسمي والشعبي بما يتولى من مهام.

* قاضٍ متقاعد