شارع الرشيد.. رحلة في ذاكرة سعدون الجنابي

Tuesday 22nd of December 2020 06:55:05 PM ,
العدد : 4837
الصفحة : عام ,

قراءة: علاء المفرجي

وفي مقالة "من ذكريات بغداد" التي كتبها العلامة السوري الدمشقي علي الطنطاوي وهو في الشام سنة 1946 يقول:

"ما الذي هاج في نفسي -هذه العشية- ذكر بغداد، ونشر أمام عيني ما انطوى من ذكرياتها وما مات من أيامها؟ ما الذي رجعني إلى تلك الليالي؛ لياليَّ في بغداد سنة 1936، حتى كأني -لفرط ما تشوقت إليها وأوغلت في ذكراها- أعيش فيها؟ أي سحر فيك يا بغداد جذب قلبي إليك؛ فلم أنْسَك إذ أنا في بلدي الحبيب، ولم أزل أحنّ إليك وأشتاقك؟ بغداد... يا بغداد، عليك مني سلام الود والحب والوفاء".

هذا هو حال كل من يزور بغداد فيتوله بها عشقاً، فما بالك بالذي ضربت جذوره عميقاً فيها، حتى أنه وسم بعض محلاتها باسم عائلته وخبر كل تفاصيلها وخارطتها الجميلة، يتذكر ما انطوى من معالمها التي كانت يوماً يتباهى بها وبسحرها. ولم لا وإحدى درابينه باسم عائلته، بينما ينتصب في منتصف العمار الجامع الذي يحمل أسم جده.

هذا هو الصديق سعدون الجنابي مؤلف كتاب (رحلة في ذاكرة شارع الرشيد) الصادر عن دار الأديب البغدادية، ابن (المربعة) وما أدراك ما المربعة؛ إنها إحدى محلات بغداد وشارع الرشيد التي تجسد التعايش الديني بحق، بل إنها نموذج لروح بغداد، حيث اليهود، والمسلمين، والمسيحيين، ومن الطوائف كلها، وكان هذا حال بغداد يوماً ما. فليس غريباً أن ترى المسلمين يوزعون (الزلابية) في يوم الغطاس المسيحي، أو يصوم المسيحيون في يوم الغفران اليهودي، واليهودي والمسيحي يشاركون المسلم احتفال زكريا.. لا فرق فالجميع لهم دين واحد بالنهاية؛ هو دين المحبة وهو الدين الذي يجمعهم..

ولأن شارع الرشيد كان مكان طفولته وصباه، رواحه ومجيئه اليومي، ولأن عمل والده كان في محلة سيد سلطان علي، فكان أن خبِر الشارع بكل أزقته ومحلاته، وعمارته، وعرف المهن التي تمارس فيه، واسماء العوائل التي كانت تقطن فيه، والمحلات التي تنسب الى هذه العوائل، والمهن التي يزاولونها.

لم يكن موضوع الكتاب عن شارع الرشيد لتوثيق محلاته، وأن كان دقيقاً في ذلك، ولا ليضيف شيئاً عن جغرافية شارع الرشيد لا نعرفه، فالمؤلف ليس بمؤرخ، ولا باحث في البغداديات.. بل هو أكثر من ذلك. 

سعدون الجنابي في هذا الكتاب يوثق ذكريات طفولته وشبابه، على خلفية شارع الرشيد، فتتماهى ذكرياته مع معالم المكان، المكان الذي يختصر تاريخ بغداد الاجتماعي والثقافي والسياسي على مدى قرن من الزمن، وكأن البغداديين وضعوا فيه كل ذكرياتهم وأحلامهم واستودعوا فيه كل أسرارهم، وليس قمرهم، كما رأى ابن زريق البغدادي.. مكان له رائحة طفولته، ومرتع صباه، وصدمة بلوغه، وسرّ شبابه، فاستقر رغم ترحاله، في ذاكرته لايبرحها، أليس هو المكان الأول فحنينه له أبداً، كما يرى ابو تمام.

فتطوف في رأسه جمهرة من النساء البغداديات وهن يتواعدن للذهاب الى السينما، لرؤية الفنان فريد الأطرش والذي يدندنّ أغنياته أثناء إعدادهن للطعام، أو حضور الحفلات الموسيقية في بارك السعدون، أو السادة الذين يسابقون في فن تلاوة القرآن، مثلما تطوف عادات البغداديين وولعهم بالموضة، ومحاكاة نجوم السينما الاميركية.

فتماهى لديه المكان الضاج بالعاطفة، والذكريات، بجغرافيته، فراح يقتفي أثر الذكريات في كل تفاصيل الشارع ليستعيدها ليس كأمكنة مجردة، بل كأمكنة ناطقة بالذكريات، والأحداث، وكأنه يعيشها الآن في عزلته، أليس الذكريات هي الشيء الوحيد الذي نطمئن اليه في العزلة ، كدت أقول الغربة!؟. فيكون الشارع هدفاً له، فيرسم إحداثيات له ويحصره بين بابين المعظم، والشرقي، ليبدأ رحلته الافتراضية في طول الشارع، مثلما هي رحلة كافافي، الذي لم يكن هدفه الوصول الى إيثاكا، بل الرحلة نفسها.. فسعدون الجنابي، يستمتع بالرحلة التي تبدأ بهدوء ورويّة من باب المعظم، كي لا تفوته أن يؤشر لنا كل خطوة في هذا الشارع، بالإحالة الى تاريخها والذكريات التي يعرفها عنه: الدوائر الرسمية، والمطاعم، والملاهي، ومحال التسوق، والجوامع، المراقد الدينية الحنفية والشافعية والحنبلية والرفاعية والقادرية، والكنائس، وعيادات الأطباء، المقاهي، ودور السينما، ماكنزي، ومخزن كلاي، الاورزدي باك، بيت لنج، السفارات والقنصليات، والمتاجر، ومعاهد تعليم اللغة، وتعليم الرقص.

هو يستذكر كل ذلك بحسرة الحاضر الذي طمس الكثير من معالم هذا الشارع، بل شوّه معناه، وخرّب ملامحه، فهو هنا يحاول أن يطلق صرخات استغاثة من أجل شارع ينتهك تاريخه، مثلما انتهكت معالمه.. فالحاضر له شروطه، فهو لم يأت من يشغل الشارع، من تضوع في اريج ذكريات الشارع، بل حمل إليه من هو غريب عنه؛ فبدل اورزدي باك محلات لبيع أدوات رجال الاطفاء، وبدل دور السينما موقف رخيص للسيارات، وبدل صادق محقق، والشرق وآسيا.. محلات للملابس العتيقة.

(رحلة في ذاكرة شارع الرشيد ) لسعدون الجنابي ينضم بجدارة الى المصادر والمراجع، التي تهم دارسي (البغداديات) والباحثين عن أمل في أن يعاد الى بغداد بريقها ومجدها.