صوفيا لورين تتذكر البرتو مورافيا والأوسكار والحرب التي عاشتها:رواية امرأتان كسرت قلبي كانت القصة عن بلادنا، عني وعن أمي

Monday 28th of December 2020 06:54:19 PM ,
العدد : 4841
الصفحة : عام ,

كي أصل إلى تلك الليلة، تقبلت بسرور دوراً أعطاني إياه ڤيتوريو دِي سيكا. كان أول مَن لمح بشيرَ نجاح ممثلةٍ من بين الأشخاص الإضافيين،

 الممثلة في داخل المرأة الممتلئة الجسم، والآن بمستطاعه أن يرى الأم في داخل البنت. نعم، لأن هذا الفيلم، «امرأتان»، كان بكلّ معنى الكلمة هو سؤال الأمهات والبنات، الذي لم يكن شيئاً إنما من السهل أن تُحلّ خيوطه. وكنا صوّرنا الفيلم معاً على مدى الأعوام الثمانية الفائتة بين أحياء ناپولي الفقيرة وساحات تراستيڤيري ، أزقة سورينتو، وتلال تشوتشاريا الوعرة، القاحلة.

" امرأتان» هي رواية من تأليف ألبرتو موراڤيا. بوصفه واحداً من أروع الكتّاب الإيطاليين في القرن العشرين، كان من عادته أن يتفاهم مع كارلو وأن يتقاسما المشاريع، القراءات، الآراء. كان كارلو يكنّ تقديراً واحتراماً كبيرين له، وأنا، أيضاً، كنتُ أحبه حباً جماً. بفضل «شيء سيئ جداً إنها سيئة»، الذي تم اقتباسه من إحدى قصصه القصيرة، كنتُ قابلتُ مارسيللو وموراڤيا وعدداً آخر من الكتّاب الكبار ممَن كتبوا "امرأة النهر" .

ثلاثة أعوام قبل «جائزة الأكاديمية»، في بورغينستوك، كان كارلو يفكر في شراء حقوق الرواية، وكان قد سألني عن رأيي في الموضوع. كنتُ قد التهمتها في بحر يومين، ولم أستطع أن أضعها جانباً. «امرأتان» كسرت قلبي. كانت القصة عن بلادنا، عن إيطاليا، كانت عني وعن أمي، عن الحرب التي عشناها وخبرناها والتي كنا نخافها، عن الجروح التي لن تلتئم أبداً. في تلك الصفحات تعرّفتُ إلى الجرأة، الجوع، والجنون الأعمى للتعصب والجهل اللذين كانا جزءاً من الحرب، فضلاً عن الغريزة الأمومية الفدائية التي تعتمل في كيان كلّ امرأة أينما وُجدت.

الشخصية الرئيسة، تشيزيرا، هي burina، امرأة ريفية شديدة الارتباك تعمل في روما، تقع في فخ زواج سيئ حين كانت لا تزال يافعة جداً. تجد نفسها قد أصبحت أرملة ووحيدة مع ابنتها في روما حين يقصف الحلفاء المدينة بالقنابل، تحاول أن تحمي كلّ ما تملكه - مقتنياتها، مخزنها، ابنتها. كان القصف مروِّعاً جداً بحيث إنها تقرر الهرب إلى قريتها ومسقط رأسها، تشوتشاريا، في وسط إيطاليا. الجميع يقولون إنها مسألة أسابيع قلائل حتى تضع الحرب أوزارها، وإن الحلفاء على أبواب بلادهم.

صوت تشيزيرا سحرني: إنها امرأة متفتحة العقل ولديها قدر كبير من الفطرة السليمة وروح قتالية، وكانت تفعل كلّ شيء من أجل ابنتها، روزيتا. طريقتها في التفكير، صادقة جداً، واقعية جداً، إلا أنها مُدركة تماماً لحدودها، لاشتباكاتها مع فوضى الحرب، مع ابتذال الشر الذي يُحيط بها. في مَشهد واحد، قطار متوجّه إلى ناپولي يقف في منتصف الريف، كما لو أنه ضائع، مع أنه ما يزال على خطوط السكة الحديدية.

الريف مكوّن من التراب والصخور، من دروب البغال التي ترتقيها في الهضاب الشديدة الانحدار، حيث تنمو الغلال في دكّات مُدرّجة. إنهم يتسلّقون بجهد كي يصلوا إلى القمة، مُحاطين بالجبال، بحثاً عن مكان آمن لم يعد موجوداً. أكواخ ومنازل خَرِبة، كانت أقرب ما تكون إلى الاصطبلات منها إلى منازل بشر يخافون الله، مزارعون مُضيّفون، وأناس تم إجلاؤهم، جميعهم مُجبرون، بسبب الظرف الطارئ، على أن يُقيموا معاً. تلك الأسابيع الطويلة التي كان من المؤمل أن تُفضي إلى نهاية الحرب تحوّلت شهوراً، وحتى إلى فصول. أناس من المدينة ومن الريف، حيواتهم، أفكارهم، مختلفة جداً، ومع ذلك هم متشابهون، اختلطوا معاً. إلا أنّ كلّ امرئٍ كان يركز على نفسه أو نفسها، وعلى الشيء القليل الذي تركوه. الأفكار المثالية تقلّ قيمتها شيئاً فشيئاً بوجه الجوع، البرد، الخوف. "لا يهم مَن الذي ينتصر، الإنكليز أم الألمان... دعنا نتمنى فقط أن ينتهوا من ذلك على جناح السرعة!".

في الحياة الواقعية كان موراڤيا قد تم إجلاؤه إلى تشوتشاريا مع زوجته إليسا مورانتي . هو، أيضاً، عانى من الجوع والبرد، كما خبر الضجر والخوف، ونام على أفرشة مصنوعة من قشور الذرة التي تخز ظهرك؛ وسط الحشرات والفئران. كان يلتهم خبز الخروب وجبن البيكورونو الصلب، البرتقال وأحشاء الماعز. بعد مضي ستة عشر عاماً، كتب مذكراته على لسان شخصيتيْ تشيزيرا وروزيتا اللتين كانتا تشعران أنهما بعيدتان جداً عن المنزل.

في مدينة صغيرة، الأم وابنتها تبدآن بقضاء الوقت مع شخصية مثالية يُدعى ميشيل، وهو مختلف تمام الاختلاف عن سكان المدينة الآخرين قاطبة - كثير القراءة وتعلّم كثيراً من الكتب، يستعمل كلمات كبيرة حين يتكلّم، ويبدو أن لا أحد يفهمه. ومع ذلك هو يستعمل آراءه كي يوقظ من جديد الأحاسيس الثاوية في أعماق البشر المحيطين به، تلك الأحاسيس التي أُضعفت وأُميتت، كي يهيج فيهم الشوق العارم لإعادة بناء عالم أفضل. شيئاً فشيئاً تكبر صداقتهم، وتغدو صافية كالسماء، كنبتات بخور مريم، نباتات كزبرة البئر وهي نوع من السرخس الذي ينمو بنحو غير متوّقع على طول حافات الشرفات. إنما بعد أن انقضى الخريف والشتاء، ولم تعد هنالك مؤن، يكون الجميع مُجبرين على أن يأكلوا الهندبا البرية، الأشواك ذات العصير الحليبي وريحان الزعتر. القوات البريطانية والألمانية، التي توقفت عند الخط الأمامي في غاريغليانو، أحكمت قبضتها على إيطاليا. بعد أربعين يوماً من المطر والوحل، تجرف الريح الشمالية السُحب بعيداً وتصفو السماوات مرة أخرى، لكن مع ذلك يتواصل القصف الجوي، يندفع بسرعة البرق عبر السماء ويضرب بنحو عشوائي. يبدأ الألمان انسحابهم، إلا أنهم يجندون إلزامياً مزيداً من الرجال فيما هم ينسحبون، ويفعلون ذلك بضراوة حتى تفوق تلك التي مارسوها قبلاً، لأنه بات جلياً أنهم هُزموا. يصل الأميركيون، هم بشر رحماء لكنهم مستقلون، يتسلّقون بكسل «شارع أپيا» فيما هم يتوّجهون صوب روما، ويوزعون الحلوى والسجائر.

في هذه الحرب، كلّ امرئ في مواجهة امرئ آخر، الأنانية والخوف تسلّطا عليه. الجميع يُمسكون بما يستطيعون. كانت تشيزيرا تفرح عندما تفكر في حريتهم الوشيكة وحتى يدفعها ذلك لأن تنسى صداقتها مع ميشيل، الذي كان يُطعمها هي وابنتها طوال الوقت. إلا أنّ فرحها لا يدوم طويلاً. هي وروزيتا كادتا تُغتصبان بطريقة متطرّفة جداً، في اللحظات الأخيرة من الحرب على أيدي أولئك الأشخاص الذين زعموا أنهم جاءوا ليحرروهم.

في صيف العام 1959 ذاك، فيما كنا أنا وكارلو نتنزه في غابة بورغينستوك، يبدو أننا لم نكن نتكلّم إلا عن رواية «امرأتان»، كما لو أنها كانت بمنزلة هاجس لا يكاد يفارقنا. كان كارلو يأمل أن يجد دعماً عالمياً وجمهوراً عالمياً لهذه المغامرة، إلا أنّ كتاب السيناريو في هوليوود، مع أنهم كانوا يقدّرون الكتاب، لم يكن باستطاعتهم أن يروا فيلماً يُصنع منه. «المأساة تأخذ وقتاً طويلاً كي تقع»، قالوا. «إنها رواية بطيئة الإيقاع، لا شيءَ يحدث حتى النهاية». إلا أننا، نحن الذين رأينا الحرب عن كثب، نحن الذين عشنا في جحيمها، نحن الذين تعلّمنا الانتظار خلالها، رأينا الفيلم المُحتمل بنحو واضح جداً. إنها قصة نعرفها حق اليقين.

في الكتاب، تشيزيرا في سن الخامسة والثلاثين، أما روزيتا ففي ربيعها الثامن عشر. كوني في السادسة والعشرين من عمري أنا في المنتصف تقريباً. في بادئ الأمر، آنا ماغناني كان يُفكر بأن تلعب دور الأم، وأؤدي أنا دور ابنتها. جورج كوكور كان من المزمع أن يكون هو مخرج الفيلم؛ كان قد أخرج أحد أفلامي منذ عهد قريب، وكان مُغرماً بآنا إلى درجة الهيام. أفرحته الفكرة، وطار طوال المسافة إلى إيطاليا كي يراها، إلا أنها رفضت أن تتزحزح.

"إنها شخصية عظيمة، إلا أنني لا أستطيع أن ألعب دور أم صوفيا"، قالت من دون أن تلفظ كلماتها بتصنع. «إنها طويلة جداً، متغطرسة جداً، أنا أقدّرها باعتبارها ممثلة، إلا أنه ليس من المناسب أن تجسد دور ابنتي. يتعين عليّ أن أرفع بصري إليها، ما هو الشعور الذي يتوّلد عن ذلك؟".

من دون آنا ماغناني، تراجع كوكور عن إخراج الفيلم، ووجب على كارلو أن يباشر مجدداً من اللاشيء.

في تلك النقطة، تدّخل دِي سيكا في اللعب، جنباً إلى جنب مع تشيزري زاڤاتيني، كاتب السيناريو الكبير وواحد من أوائل كُتاب «الواقعية الجديدة». دِي سيكا، كونه وُلد في تشوتشاريا، هو أيضاً أصرّ على أن تمثل آنا ماغناني في الفيلم، مقتنعاً أنه سوف ينجح حيثما أخفق زميله الأميركي القدير. غير أن آنا كانت جوزة صلبة لا يُمكن كسرها، وكانت متأكدة جداً من منزلتها كي تستسلم. حاول ڤيتوريو مراراً، مستعملاً كلّ سحره وكياسته الاجتماعية . آخر شيء جرّبه هو أن يجعل پاولو ستوپا يُقنعها بأن يقوم باتصال هاتفي تجريبي. «سيدتي، سوف أتعشى مع دِي سيكا أمام شقتك، هل يسعنا أن نأتي إليك لحظة؟» إلا أنّ المحاولات كلّها باءت بالفشل. «البنت يجب أن تكون ذات حضور غير طاغٍ، كما تعرف، إن ممثلة من طراز آنا ماريا پيير إنجيلي... سوف تكون مثالية معها»، أشارت آنا ماغناني.

كلّما حاول ڤيتوريو أكثر كي يُقنعها، تغدو أكثر عناداً. إلى أن قالت من دون تفكير، لكن ربما لمجرد أن تستفزه، «إن كنتَ تُريد حقاً أن تكون صوفيا في الفيلم، لِمَ لا تجعلها تكون هي الأم؟" .

ما إن قالت ذلك حتى تم إنجازه. مع أنه لم يكن سعيداً فيما يتصل بـ «الرفض الكبير»، ففي صباح اليوم التالي اتصل بي دِي سيكا من باريس كي يقترح عليّ أن أجسد دور تشيزيرا.

"ما هذا الذي تقوله؟ الشخصية تكبرني كثيراً. إنها أُم! كيف يمكنني أن أؤدي هذا الدور؟" .

«أرجوكِ، صوفي، فكري في الموضوع. إنها أُم أنتِ ذات علاقة حميمة معها، لقد شاهدتِ أمهات كثيرات من طرازها، إنها شديدة الشبه بك. سوف نجعل روزيتا أصغر سناً بعض الشيء وهذا هو لب القضية. أرجوك، قولي (نعم).

كارلو أطال التفكير في هذا الرأي، وشجعني بالطريقة التي يعرف هو وحده كيف: (إذا كان ڤيتوريو يعتقد أن بمستطاعك أن تؤدي الدور، فهذا يعني أنك تستطيعين. ثقي به) .

الأحاسيس المتنوعة والعميقة التي بوسع الأم أن تعبر عنها تهز جميع أوتار قلب أيّ ممثلة. تلك الجوانب، تلك النواحي النفسية المعقدة والرقيقة كانت تجذبني على الدوام - ربما لأن، قصتي كانت كما هي عليه - كانت لديّ دوماً عواطف داخلية أشعر بها بقوة على الدوام. ما من سبيل لتجنبها: المرأة - الأم تمثل الجانب الكامل جداً من الشخصية الأنثوية، وبهذا المعنى فهو يتحدى أيّ ممثلة كي تمنحه كلّ طاقتها.

قادني ڤيتوريو عبر هذه المغامرة: «تشيزيرا هي شخصية أُم ممتلئة الجسم. إنها امرأة متواضعة، إنها تعمل دوماً، وهي تعيش من أجل ابنتها. إن مقاربتها للأشياء مقاربة بسيطة وصريحة من دون لف ولا دوران. لقد خبرتِ أصلاً هذه الأشياء كلّها شخصياً، صوفي. إنك تعرفين بنحو جيد تماماً ما الذي أتحدّث عنه. سوف تمثلين من دون مكياج على وجهك، من دون خُدع. كوني كما أنت عليه، أنتِ تُصبحين أمكِ، وكلّ شيء سوف يغدو على ما يرام".

بعد تلك الأعوام كلّها في هوليوود، فيلم «امرأتان»، أعادني إلى الديار، إلى الواقع القاسي لطفولتي. الحرب، التي دُفنت منذ زمن بعيد في داخلي، هي ذي الآن تظهر للسطح ثانية كي تُعطي صوتاً لامرأة جريحة في قصة موراڤيا، لمعاناتها، لجرأتها. فكرتُ في أمي وكيف كافحت كي تدافع عنا، كي تحصل على قوت وماء لنا. فكرتُ في ما يجب أنها شعرت به خلال تلك الليالي حين عسكر الجنود المغاربة عند رواق المدخل وجاءوا كي يدقوا بابنا وهم سكارى. كيف كانت تراقب، من دون أن ينتبه أحد، فيما كان المارينز الأمريكيون يأتون إلى قاعة الاستقبال في منزلنا كي يشربوا البراندي. لأنها كانت تعرف أنه يوجد خطر في الأمكنة كلّها، في الأوقات كلّها، حتى في الأمكنة التي تشعر أنت أنها الأكثر أماناً.

حين قدّموا إليونورا براون لي، الفتاة اليافعة التي تم اختيارها لأداء دور روزيتا، أحسستُ حالاً أنني مسؤولة عنها، عنا. كان وجهها خجولاً وذكياً وكان العمل الذي ينتظرنا عسيراً. كيف يتسنى لي أن أكون أمها؟ أتعذب من أجلها؟ كيف يسعني أن أساعدها كي أجعلها تضع ثقتها فيّ؟ كانت غريزتي قد شجعتني على أن أتوّلاها بالحنان نفسه الذي أحسستُ به حين كنت أنال الاهتمام والرعاية إبان سنوات الطفولة، بالحب نفسه الذي حُميتُ به وعُونقتُ به. وقد حالفني الحظ في ذلك.

كانت إليونورا قد وُلدت في ناپولي، وهي ابنة امرأة ناپولية وأمريكي تقابلا أثناء الحرب، وكانت خالتها ترافقها عادة إلى موقع التمثيل. كانت في الثالثة عشرة، هي فتاة صغيرة أكثر من كونها طفلة، ذات عينيْ طفلة في جسم فتاة مراهقة.

كان دِي سيكا أستاذاً في اختيار غير المحترفين للتمثيل في أفلامه. كان قد برهن على ذلك في «ماسح الأحذية»، في «امبرتو دي»، وفي «معجزة في ميلانو». لكنه في فيلم «امرأتان» كان حقيقة قد تفوّق على نفسه. كان دوماً يحصل على ما يُريد، مهما كلّف الأمر. فيما كان يصوّر أحد المَشاهد الدرامية جداً، المشهد الذي تقع فيه روزيتا في حب صديقهما ميشيل، الذي لعب دوره جان - پول بيلموندو ، بحيث إنه حتى مضى شوطاً بعيداً جداً كي يُخبر إليونورا أن والديها تعرّضا إلى حادثة.

«أنا متأسف، عزيزتي، أنا متأسف..." يقول بصوت مؤثر مليء بالشفقة. «إنهما الآن في المستشفى، حالتهما الصحية خطيرة، إنما لا أحد يُخبرنا... هيا، هيا، يا طفلة...".

إليونورا بدأت تنشج كثيراً، وتعين علينا أن نوقف التصوير. كان من المستحيل أن نستمر في العمل. ڤيتوريو مضى خطوة واحدة أبعد.

"إليونورا!" قلت ومضيتُ حالاً إلى جوارها. «هذا غير صحيح! إنه يقول أشياء غير صحيحة لمجرد أن يجعلك تنشجين بالبكاء! هيا، تغلبي على ذلك، ابتسمي...".

إلا أنّ الصدمة كانت كبيرة جداً عليها ووجب علينا أن نتوقف برهةً من الوقت.

بطبيعة الحال، لم يكن هيناً بالنسبة لفتاة صغيرة أن تعبر عن عواطف مؤثرة كهذه بنحو عفوي. حين أخفق ڤيتوريو في مساعدتها، أو حين كان يفلح من خلال المبالغة في ذلك، كنتُ أتدخّل، كي أخفف الألم، كي أُلهم، كي أوحي. في مَشهد تكون فيع روزيتا عارية تماماً فيما أنا أساعدها في الاستحمام، بذلت كلّ ما استطعتُ عليه كي أساعدها في التغلّب على ارتباكها والاحتفاظ بشعورها بالحشمة فيما تكون هي عارية تماماً.

في الوقت الذي نتمكن فيه من معرفة إحدانا الأخرى بصورة جيدة جداً وأن نحب إحدانا الأخرى، مثل أم وبنت، وتفسيرها لروزيتا سوف يظل عالقاً في ذاكرة التاريخ السينمائي. كانت تجربة ذلك الفيلم عميقة جداً بحيث بقينا صديقتين ونحن عادة نتحدّث بعضنا مع بعض حتى في يومنا هذا.

بدأنا التصوير في 10 آب ، 1960. كان يتعين على طاقم الفيلم أن يمكثوا في التلال المحيطة بـ «غِيتا». أنا وكارلو استأجرنا منزلاً أبيض كبيراً يطل على الخليج. من نافذتي كان بمستطاعي أن أرى پوتسوولي. «هذا المكان أجمل بكثير من [بيڤيرللي هيلز]»، قال ڤيتوريو. «لقد وُلدتِ هنا، إنكِ تنتمين إلى هذا المكان». في حقيقة الأمر هي أني مرتاحة جداً، من دون مساحيق تجميل على وجهي، ثوبي رث، أبيض ومكسو بالغبار تحت شمس الصيف. كنتُ أحب أن أكون مع الأشخاص الإضافيين، في المغارات، قدماي حافيتان فيما أحمل حقيبة سفر مستطيلة مسطحة على رأسي.

تحت صفارات إنذار الغارات الجوية، رأيتُ نفسي هناك في نفق محطة السكة الحديد، بصحبة الفئران والصراصير. ميزت حليب الماعز والابتسامات العريضة المتشكية للرعاة، تطلّعتُ إلى تلك الأطباق الفقيرة بشهية، إلى الخبز الداكن الذي اشتقنا إليه كثيراً جداً حين كان الطعام شحيحاً جداً.

دِي سيكا أبقاني تحت السيطرة، كان يجرّني إلى الأسفل إذا ما حلّقتُ عالياً جداً، وكان يرفعني عالياً إذا كنتُ جد مُوهَنة العزيمة. لكننا حين نصل إلى حالة القلق، اليأس، كان يحرر قلبي من قيوده كلّها، عوائقه كلّها. كان يجعل المعجزة تتحقق، كان يسمح لشخصيتي تشيزيرا أن تأتي إلى النور وتجد طريقها الخاص.

كان أصعب دور أديتُه في مسيرتي الفنية كلّها. من دون ڤيتوريو ما كنتُ لأنجح في مسح السبورة وأمحو الكتابات عليها كي أشرع في حياة جديدة بدت لي في تلك اللحظة تحديداً هي الحياة الوحيدة الممكنة. حين كان دِي سيكا يصور المَشهد السينمائي، كانت عيناه تغرورقان بالدموع: «استعملي هذا. خذي واحداً جيداً!!» كان يعرف كيف يضغط على أحاسيسي ببراعةٍ حوّلتني فعلاً إلى امرأة، بعيدة جداً عن سحر النجومية.

حتى في يومنا هذا حين يحدث أن أشاهد فيلم «امرأتان»، كلّ ما أحتاج إليه هو مَشهد واحد، مَشهد واحد ليس إلا، كي أعيش مجدداً العاطفة كلّها كما في المرة الأولى. أرمي صخرة على سيارة «جيب» عائدة للحلفاء بعد أن اغتصبت قواتهم تشيزيرا وروزيتا وكانت شتائمي - «لصوص، ديوثون، أبناء العاهرات!» - هي فعل من أفعال التمرد ضد كلّ الكراهية التي جعلت من العالم رهينةً لها على مدار سنوات طويلة جداً. لهيب ذلك التمرد يجب أن يظل مشتعلاً على الدوام، حتى في أزمنة السلم، وأبقانا يقظين وأحياءً. كي لا يحدث شيءٌ كهذا من جديد.

"امرأتان" حصل على عشرين جائزة لي فضلاً عن جائزة الأوسكار، بما فيها جائزة ديڤيد داي دوناتيللو، جائزة الشريط الوردي، وجائزة أفضل ممثلة في مهرجان كان. كما قادني هذا النجاح إلى مقابلة جميلة مع ألبرتو موراڤيا، هذه المقابلة ظلت أصداؤها تتردد طوال سنوات حياتي كلّها. وحين أقرأها الآن بعد مضي خمسين عاماً ما تزال تدفعني إلى البكاء.

فيما أنا أقرأ تلك المقابلة وأستمع إلى صوت الكاتب العظيم، ألبرتو موراڤيا، في الأسئلة التي وضعها لي، أعود إلى پوتسوولي، إلى مينائها الصغير، بمائه الأخضر المُوحل الذي تنتشر فيه قشور الليمون. پوتسوولي المنازل العتيقة والأزقة الظليلة السوداء القديمة، پوتسوولي الخرائب الرومانية و«معبد سيراپيس» الذي كانت أعمدته ترتفع من الماء منذ انحسار الأرض المحيطة بها. إلا أنها أيضاً پوتسوولي مواقع البناء، پوتسوولي معمل مدافع أنسالدو، حيث عمل خالي ميمي.

بتوجيه من ألبرتو موراڤيا، أعود إلى شقتنا الصغيرة، بأثاثها المزخرف المصنوع من خشب الجوز مطبخها، حيث أنجز واجبي المدرسي المنزلي فيما كانت ماما لويزا تُعطيني أكواب القهوة وتحكي لي القصص باللهجة الدارجة. في قصرها، كانت جدتي تصنع الخبز وتضع فوقه الفاصوليا لوجبة الغداء، الطبق نفسه الذي يُسمى «المرق الصغير» في تشوتشاريا. في المساء نأكل الفطائر، لأنه حين يعود الرجال من العمل كانوا يحتاجون إلى وجبة طعام مُشبِعة. في السابع والعشرين من كلّ شهر أقصد ناپولي مع ضيا دورا، التي تشتري لي مشروب الشوكولاتة مع الكرِيم المخفوق و«الفطائر الشبيهة بالمحارة» ، من حانوت «كافليش». في هذا المكان شاهدتُ آنا ماغناني أول مرة. هي ذي، تنضحُ فتنةً من پوستر كبير فوق المسرح الذي كانت تمثل فيه إحدى مسرحياتها.

في پوتسوولي تلك، پوتسوولي ذكرياتي، كان باستطاعتي أن أشعر بظل أبي، ظل رجل غريب، كانت تجذبه إلى منزلنا برقياتُ أمي الماكرة، إلا أنه ما يلبث أن يغادر. إنه «سمكة خارج الماء» ، هكذا ينعتُ الناپوليّون رجلاً من أمثاله، هو ليس أكثر من متطفل. كان رجلاً طويل القامة، ذا مظهر مميز، ذا شعر أشيب، أنف كالكلّاب، يدان وقدمان كبيرتان، إلا أن كاحليه ورسغيه رشيقة، بسمةٌ لطيفة، تعبير ساخر. ساحر حقيقي.

حين تذكرت أبي، شرع موراڤيا يحفر من دون رحمة في ماضي حياتي. ويكشف الجرح الذي وُلدتْ صوفيا لورين منه. التباين في أسرتي - أبي الغائب، أمي التي كانت أجمل من الأمهات الأخريات - جعلتني أتعذب عذاباً أليماً. جللتني بالعار، وفي الوقت نفسه كانت قدري. القوة هي التي أجبرتني على العمل، وكي أُظهر للآخرين مَن أنا، كي أختار طريقاً لنفسي في وقتٍ كنتُ ما أزال فيه فتاة يافعة جداً. بمعنى آخر، «النجاح هو البديل عن الحالة السوية صعبة المنال». توجهتُ إلى روما، طفلة هاربة بلا أب كي أجد نفسي في جسد الممثلة التي أردتُ أن أكونها.

فصل من كتاب صوفيا لورين (حياتي)

صادر عن دار المدى