حقائق السرد الخفية

Monday 4th of January 2021 06:53:38 PM ,
العدد : 4845
الصفحة : عام ,

د. أحمد الزبيدي

لعل تمرد الرواية الحديثة على التقانات السردية التراتبية وتكوّرها بمصطلح ( الميتا سرد ) من بين انفتاح العمل السردي على آفاق فكرية تتجاوز المركزية إلى التعددية ،

ولعل المتابع لنتاجات لؤي حمزة عباس : الفكرية والأدبية يجد التناسق الفكري بينهما وكأنه مؤمن بحكمة أمبرتو إيكو: ( ما لا يمكن تنظيره ينبغي سرده ) .. وهذا ما عملت عليه رواية لؤي حمزة عبّاس ( حقائق الحياة الصغيرة ) الصادرة عن دار المتوسط بزمن لم يُدّشّن بعد : ( 2021م) فقد راوغت ( حقائق الحياة ) بأسلوب يفكر سردًا ويسرد الفكرة بوظيفة تخبئ الدلالات الاجتماعية والسياسية والدينية والثقافية ..

 

حين تتمعّن في ( الكتاب ) ترغمك النباهة على اقتناص مقصدية المصمم خالد الناصري بدلالات سيميائية تلخّص البؤرة السردية وتكثفها ، إذ يدبغ الصفحة السوداء برسومات لآثار قدمين حافيتين تسيران باتجاه أفقي يحرّك عمودية الزمن التعاقبية ، وهذه الأيقونة توقظ فضول القارئ إلى تتبع خطوات القدمين في الصفحة السوداء الأخيرة من ( الكتاب ) فتجد القدمين بآثار ملتحفة بحذاء كأنه حذاء ( عسكري ) إذن الدلالة السيميائية للمصمم سمحت لنفسها أن تكون شريكة للدلالة السردية : إنها تكثيف لرحلة الرواية من ( السلم ) إلى ( الحرب ) وما يمكن أن ينتمي إلى هذين البعدين المتزامنين المتصارعين الأزليين ، ولعل من أبرز تجليات التوازي التضادي ( الجرذ مع الطفل ) ( بلقيس مع الشاب ) وما بين هذين القطبين تتوزع الوحدات السردية التي اعتمدت بصورة طاغية على الراوي المشارك ( البطل ) الغائب عن التحديد السيميائي ، بل حتى اسمه غاب في ظل تجاعيد الحياة القصيرة، وأكاد أشم رائحة اسم البطل المخفي عن دفتر النفوس السردي على جدران الصفحة الأولى من ( الكتاب ) بخط ( أسود ) فوق الخط (الأبيض لعنوان الرواية ) .. 

لا يمكن أن اسميها مشاهد سردية، أعني المقاطع اللسانية التي تبدأ بالرقم (1) وتنتهي بالرقم ( 82 ) ومع الكثرة العددية اقتصاد لغوي إذ لا تتجاوز الرواية ثماني عشرة صفحة بعد المئة ! فالقصر العددي للصفحات أحكمه الروائي ( المشارك !!) بكثافة سردية ابتعدت عن الترهل الوصفي والتداخل الزمني والتفصيلات السردية التي تحشر خشمها بكل شاردة وواردة تخص العمل كالتي قد نجدها في أعمال روائية أخرى ( متينة الحجم !).. كذلك نلاحظ تكفله بالإخبار السردي المعتمد على التتابع والرصد المباشر من دون وساطة سردية أخرى وهذا ما أدى إلى هفوت تقنية الحوار الدايولوجي وخاصة في المقطع السردي الأول ( الطفولة ) ولكنه برز بشكل ملحوظ في المقطع السردي الثاني ( الشباب ) ومجازا أقول الشباب فالسارد قد بخل علينا حتى في تحديد عمر شخصيته وهو يجد ( بلقيس ) وتجده .. 

وحين تتابع المشاهد السردية ( البوحية ) يهيمن عليك حضور ( الجرذ ) ولكن لمَ الجرذ دون سواه ؟ هنا ستتعدد التأويلات :إذا كنت قارئاً للميثيولوجيا ستسوغ التوظيف لهذا الكائن الرئيس في العمل الروائي إلى توظيفات أسطورية أو ثقافية تنتمي لقارة آسيا التي يشيع فيها هذا الحيوان وربما هو جزء من ( طقس ) المدينة الساحلية التي يجاورها الميناء وتشتعل أرضها بالنخيل فهناك جرذ السفن وجرذ النخيل وجرذ البيوت... ، وإذا كنت طبيبا ستتذكر صفاته وذكاءه وبراءته وحيلته والافتراء عليه وإذا كنت قارئا لروايات وقصص ستكون مسرورا باكتشافك لتناصات خفية امتصاصية أو حوارية ولكن كل الذي أستطيع ان أبوح به أن الروائي اقتنص ثيمة الجرذ بما يمثله من أيقونة حاضرة في الحياة المحلية البصرية ذات المعيشة البسيطة.. ليكون للجرذ فضلا عن وظيفته السردية والرمزية والثقافية وظيفة سيميائية تمثل لك ( حقيقة الحياة ) لحظة تشكل وعي البطل وما يمثله من براءة في اكتشاف وظيفة ميتا واقعية لآخر ( يفهمه ) بل يكاد الوحيد الذي يفهمه. الحوار مع الجرذ من شكوى له أو استنجاد به هو جزء من براءة الطفل واغترابه ومونولوجياته، ولم يكتف الروائي بالدلالة الإيجابية للجرذ بل تجاوز ذلك إلى تتابع سياسي يتعلق بصدام حسين واستمرارية الرمز للوقت الراهن !! وأقول ذلك ولست مطمئنا تماما لما يحمله العمل من حيل سردية وكثافة تأويلية قد تستحضر كل ما ذكرته في آن واحد . 

ولم يكن الجرذ ( العليم ) ،كما وصفه علي وجيه ، فعلًا سلبيا بالضرورة فـ )) قسوة بني آدم كم قتلت من الجرذان !)) ( الرواية ص 10 ) وكأن حركة الجرذ هي ردة فعل لقسوة الحالة الذئبية الكامنة في النفس الإنسانية حسب توصيفات توماس هوبز . أو يؤشر إلى فكرة تناسخ الأرواح فـ (( لكل منا حياة سابقة عاشها بهيئة أخرى ، فكان طائرًا أو نمرًا أو تمساحًا أو أي كائن آخر يخطر على البال.. )) ( الرواية 41 ) ومن هنا (( ينطلق الحيوان الذي طالما أحسّه الإنسان حبيسا في أعماقه )) ( الرواية 42) و كأن الجرذ الآخر الاغترابي المتثاقف مع الذات الاغترابية!يشكلان نسقا سرديا متوازيا ومتفاهما.. ولم يبح بسره سوى لقريبه وصديقه ( سليم سامي ) الحالم بالبحار ..وحين يجنح الروائي إلى تشبيه منظر يشوبه العنف يستحضر صورة تشبيهية تكاد أن تكون لازمة سردية للمقطع الأول وهي ( أفلام الكابوي ) ومع ذلك يوازن القسوة بروحية صوفية عالية تتمثل في استحضار ( الجدة ) التي يرافقها مع وعي مختلف، فهي التي لا تجيد القراءة تهفو على شراء الكتب المقدسة ولكنها لا تقرأ ومع ذلك تخبره بأن ( كتاب الله لا يُقرأ كما تُقرأ الكتب .. إنه الكتاب الوحيد الذي يُقرأ بالقلب )( الرواية 44) .. فهنا يميز بين التعالق الديني الروحاني النقي وبين التدين السياسي السلطوي المنتج للعنف برمزية الحيوان فاعلا ومفعولا.. وهذا الطفل الذي تقوده الجدة من يده يشتري ( موسوعة المدن !) .. 

ومع كرهه للقطط ( لم يحب القطط يومًا ولم يفكر بها إلا كأعداء.. ) ( الرواية 56) يستحضر مشاهد تعذيبها على يد الأطفال! وخاصة ( شهاب الوحش ) لتكون رمزية أخرى للحالة الذئبية الإنسانية الفطرية.. ومع هيمنة الجرذ والاستنجاد به من العنف المحيط به في الشارع في المدرسة وأفلام الكابوي يتحول المشهد إلى لحظة الحرب الثمانينية بمشهد حلم يجره من نافذة البيت إلى المعركة .. هنا تبرز الجارة الجميلة بلقيس وتبرز مراهقة البطل وبزوغ الشباب وتحول المشاهد من الجرذ والكابوي إلى كتاب جبرا وقصائد نازك وصورها الجميلة والولع بقراءة الكتب .. حضور بلقيس ألهاه عن حضور الجرذ .. إنها الضفة الأخرى من الحياة إنها السلام المطوق بالحرب ولكنه كاد أن يكون حلما حين اكتشف خيانة سليم له مع بلقيس فاكتشف (( ما أسهل الخيانة )) ( الرواية 113) فاستحضر الجرذ بحوار دايولوجي ينصحه بـ ( قصاصة صغيرة ) لينتقم له ولكن الشاب الواعي المغدور يلقم الجرذ السياسي ( القاتل/ القناع ) بحجر يصرعه قتيلا ، إنها لحظة ردة الفعل الواعية على العنف الخيانة القسوة .. لتنتهي حقيقة الحياة الصغيرة بتسفير بلقيس وعائلتها إلى إيران كونها ( تبعية ).. و أظن أن جمرة الرواية قد انتهت بالمقطع اللساني ( 81) ولهذا لم يكن للمقطع الأخير دينامية سردية تضاف للعمل .. والله أعلم .