طريبيل معبر موحش بين الأمّ والابن

Saturday 9th of January 2021 07:41:45 PM ,
العدد : 4847
الصفحة : عام ,

صلاح نيازي

في المقطع الأوّل من القصة، يرسم حسين الموزاني، ما تبقّى من ملامح أمّه في ذاكرته بعد عشرين عاماً من الفراق.. اللايقين في هذا المقطع، هو سيّد الموقف.

فحينما يطرح سماعة التلفون، بعد أنْ كلّم والدته ببغداد ومن مطار برلين، يبقى مغمض العينيْن حتى يتأكد، «من حقيقة هذه المكالمة».

لماذا هذا اللايقين؟ حقّاً إنه ثبّت موعده معها غداً صباحاً بعمّان، وهذا يقين. سمع صوتها، وهذا يقين. كان ذاك صوتها «النحيف المسحون الذي لا يزال يرنّ» في أذنه، وهذا يقين. لماذا أغمض عينيه؟

بهذا اللايقين هيّأ الكاتب قارئه إلى اللقاء غير العادي بعد عشرين عاماً. ما أطولها! ما أقصرها!

يقول الكاتب: «من خلال صوتها، بدأت أتخيل ملامحها التي نسيت معظمها، ولم يبقَ منها سوى العينين الصغيرتين والأنف الطويل الحادّ والوشم رغم أني لم أنقطع عن تذكّر ملامحها منذ عشرين عاماً». انخلق الآن الصراع بين الذاكرة والزمن.

ولإيجاد توازن أشمل ينتقل الكاتب من جغرافية أمّه في الذاكرة، إلى ما ترسّب فيها من مدينة عمّان. «انطباعات شاحبة مصدرها فيلم طويل عن «ثورة العرب». عدا ذلك، لا شئ، ثمّ وَصْف خالِهِ لها يوم كان جنديّاً هناك.

شرع الكاتب بتحرّق تعيين موقع «الساحة الهاشمية»، على خريطة عمّان. ومن حيث لا يدري، «يقع بصره صدفة على ناحية آسمها «وادي الرمم»، ورغم أنه تخيّل «إبلاً جائعة وعظامَ حيواناتٍ ميتة ومضارب بدو وكوفيات حمر وغُتَر بيضاء» إلاّ أنه «شعر بفرح في داخله»، لأنّه سيلتقي بزمن قديم وتاريخ صامت من رمل وحجارة...».

بعد هذا المشهد مباشرة عتّم الكاتب الرؤية، حتى يتمكن من الانتقال إلى مشهد آخر، فقال: «صار الوقت ليلاً». هكذا عطّل حاسّة البصر.من هذا الوقت الليلي فصاعداً، سيحسب الزمن بالساعات والدقائق.

قبل أن يواجه رجال الجوازات، آحتسى جرعة، ليداري حرجاً ما في داخله.، ولكن ما في داخله كان أكبر منه فتفجّر بتداعيات حدّدتْ شخصية أمّه، وعلاقته بها. فمن ناحية، إنّها زُوِّجتْ من أبيه، ولم تحبّه يوماً، ومن ناحية أخرى تذكّر طفولته، وكيف وجد نفسه مرّة، تحت أخفاف جمال كانت مسوقة إلى مسلخ لذبحها. وحين آستفاق من إغمائه، كان وجه أمّه أوّل شئ رآه. لكنّه يقول: «لكنّي لم أعدْ أتذكر ملامحه الآن».

في طفولته تلك، رافق أمّه مرّة إلى ماكنة الطحين. في الطريق روت له، كيف التقت بالخنزير الوحشي، وأبي الحصين والدعلج والذئب. رأى الذئب بأمّ عينيه. ذكّرته بشجاعة أبيها الذي كان يقرط «مصارين الذئاب قرطاً». إلاّ أنّ الطفل كان صريع الخوف، «وعواء الذئب ملء أذنيه».

الأمّ لم تصفعه هذه المرّة إلاّ أنها «أردفته إلى شوال الحنطة فوق ظهر الحمار...».

من ظهر الحمار، إلى مطار عمّان فجأةً. راوية القصة في الطابور، يستمع إلى حوار مؤثّر بين ضابط الجوازات، وعراقي كان يرافق تابوتَ عراقيّ آخر في طريقه إلى العراق، تُوفيَ بالسكتة القلبية، بألمانيا «يجوز مات من القهر. الله يعلم».

جعل المؤلف بفطنة، هذه المشاهد بمثابة مرايا، لا تعكس إلاّ حالات راوية القصّة النفسية. إنها عمليات تشريح واستبطان في آنٍ واحد.

ربطا التابوت إلى سلة سيارة أجرة. كان الليل قد هبط. ما من نجوم، سوى مصابيح صفر. ما من فسحة في وسط عمّان، إلاّ الساحة الهاشمية.

من فندق إلى فندق إلى فندق، وما من أحد يؤجر مكاناً ما للجثّة. قال صاحب فندق صغير في جبل القلعة: «إنّه يستقبل الأحياء وحدهم». يقول راوية القصة: «سألت العراقي، إن كان يريد المبيت في الفندق، وأقوم أنا بحراسة النعش. كنت أعرف أنّه سيرفض اقتراحي. آبتسم وودّعني».

حينما ينفرد راوية القصة بنفسه، في غرفة الفندق، ينتابه «حزن ويشعر بضياعه». يقول: «غداً قد تأتي أمّي وقد لا تأتي». عاد اللايقين مرّة أخرى.

في الصباح ينزل راوية القصة إلى الساحة الهاشمية: «لعلّني أعثر على أمّي صدفة». أثناء هذا التجوال للعثور على أمّه، نتعرّف على مشاهد مأساوية أخرى. فالعراقي ما يزال إلى جنب التابوت الذي أخذت رائحته تنتن. طلب منه أحد السوّاق أجرة خاصة، «بحجة أنّ الميّت أثقل من الحيّ». نتعرف كذلك على نساء عراقيات منكودات، وكلّهنّ يشبهن أمّ راوية القصة.

رأى آمراة تجلس لوحدها، هذه هي أمّه.

«آحتضنتني بعباءتها ثمّ بكت بصمت». كان ندمها الأوّل هو أنّ «القِدْرَ الملئ بالتمّن العنبر والذي طبخته بنفسها، آلتهمه حرّاس الحدود، وكانت تتمنّى لو انهم أخذوا نقودها بدل الطبيخ».

آنهمر الكلام:

ـ خالك محيسن طلع تقاعد. طلع من الشرطة وأخذوه للجيش. صار عنده عشرة أطفال».

ـ أخوك عباس وقع في الأسرإلاّ أنّه أُطلق سراحه بعد تبادل الأسرى. عنده ستة أطفال.

ـ أخوك سعدون فرّ من الجيش وحصل على دفتر تسريح مزوّر.

ـ أختك صبرية تزوّجت نائب عريف في الشرطة.

ـ سعيدة بنت عمّك نهبت خياطاً من عشيرة الشويلات وهربت معه إلى البصرة.

ـ...جارنا جواد الأعمى طلّق زوجته لأنها كانت تخونه.

ــ خالتك طشارة ماتت بمكة. سحقتها جموع الحجاج أثناء الطواف

ـ صاحبتك فوزية تزوّجت حدّاداً كرديّاً من محلّة باب الشيخ...إلخ

لكنّ الابن يسأل أمّه: أما من أخبار سارّة؟

تجيب الأمّ على الفور: «حليمة بنت طشارة عرّستْ وبعد شهر جلبوا زوجها من الجبهة من غير رأس».

على أية حال، التفتت إليه بعد عشرين عاماً، وسألته: «يُمّه شو وجهك متغيّر».

بهذا السؤال غرس الكاتب بذرة فنية، ستكون لها نتائج مهمّة فيما يأتي من صفحات.

في صباح اليوم التالي، أخذها بسيارة أجرة إلى البحر الميّت. مسافات الصمت بينهما طويلة. أسئلتها المتفرقة المتباعدة، توحي أنها وكأنْ في وادٍ آخر. ملأ الكاتب، ذاك الصمت، بوصف ما كانا يمرّان به من سهوب ومرتفعات وجبال صفراء ورماديّة ومزارع وأحراش...صور شاعرية للتمتّع وليس للتأمّل.

سألته بآستغراب لماذا هو حليق اللحية والشارب، حينما كان قد آنسجم مع نفسه للزواج من آمرأة عراقية.

وسّع البحر الميّت من جغرافية القصّة، وأعطاها بعداً دينيّاً، سحيقاً، وبوجود السياح آكتسب صفته العالمية. إلاّ أنّ هذه الأبعاد تسقط مرّة واحدة، لأنّ الأم خارج كلّ تلك المفاهيم.

كان السيّاح من الألمان فقط، «وقد لطّخوا وجوههم وأجسادهم بطين أسود». إنّهم ببساطة لم يأتوا لإيجاد ملاذٍ روحي، بقدر ما كانوا ينشدون من علاج جسدي. أكثر من ذلك لم يحاولوا أن يكتشفوا التأريخ القديم. إنّما وقعوا عليه مصادفة متمثلاً بالأم التي أثار وشمها فضولهم.

طلبت عجوز ورجل ألمانيان، أن تُلتقط لهما صورة مع الأمّ للذكرى. وهنا يقول الراوية: «لكنّ وجه الأمّ ظلّ صارماً، فتذكرت هنا أني لم أرها تضحك مرّة واحدة في حياتي».

لدى عودتهما من البحر الميّت، وفي المطعم، تتوضّح شخصية الأم أكثر فأكثر. رفضت قنينة الماء المعدني، مفضلة عليه ماء الحنفية، ولم تأكلْ وبعد إلحاح، إلاّ سمكاً مقليّاً. فجأة «بات وجهها قديماً، قديماً جداً»، وقالت له: «أخوالك يطلبون منك الرجوع إلى أهلك».

شكَتْ في طريق العودة إلى الفندق من إمساك، وأعلنت: «أنها لا تحتمل البقاء يوماً آخر”.يقول الراوية: «دخلت غرفتي كالتائه». لكنّ القارئ هو الآخر يصبح كالتائه. فبعد عشرين عاماً من الفراق ولم تظهر على الأمّ أيّة أمارة من امارات العاطفة. قالت إنها لا تحتمل البقاء يوماً آخر، وكأنّها تتحدث إلى نفسها غير آبهة بابنها.

المفروض انّ راوية القصة، الذي عاش بألمانيا لمدة عشرين عاماً، لا بدّ أن يكون قد تأثّر

بما عُرِف عن الألمان من عقلانية، وان الأمّ القادمة من العراق، مشحونة بشتى الميوعات. الأمر معكوس. هي الثابتة الجنان وهو التائه. استحال الآبن إلى شئ سواه. نظر إلى نفسه فإذا هو غيره الآن. تسرّب الشكّ إلى نفسه: «هل أنا مصاب بمرض غريب مجهول دون أنْ أعلم به. مرض الوحشة؟ مرض الخوف؟ ما الذي تغيّر بي إذن؟ قد تكون الوالدة نفسها هي التي تغيّرت».

أخذ الشكّ طابع الموج، ما أنْ تُحرّك واحدة حتى يتحرّك الكلّ. يقول راوية القصة: «تقلّبت في فراشي. أحسست بوجع ينهش عظامي. تمنيت لحظة أن أموت».

تظهر ميوعة راوية القصة الذي عاش بألمانيا عشرين عاماً، مرة أخرى، أوّلاً حين أمسك بيد أمّه، فأحسّ «كما لو أني طفل يخاف من الضياع وسط الظلام»، وثانياً حين نفح إحدى البائعات عشرين دولاراً ثمناً لعلبة سكائر واحدة فقط.

هل شرع بطل القصة بالتشظّي؟ أم عاد إلى مكوناته الأصلية. يقول: «غداً سوف ترحل أمّي. نظرت إلى وجهها الساكن البسيط، وأخذتُ أصفر لحن أغنية جنوبية، وقبّلت يدها لئلا تظنّ أني سعيد برحيلها».

كانت الأمّ بمثابة بوتقة تعيد صياغة آبنها من جديد.

كتب الموزاني الصفحات الثلاث الأخيرة باللهاث والحيرة. راح يعزف على أوتار تتقطّع، ومعها تتقطّع النياط:

ـ سترحل أمّي غداً، وأنا؟ وأنا إلى أين سأرحل؟

ـ شعرت أني غير قادر على الالتفات لكي أنظر إلى وجه أُمي النظرة الأخيرة.

ـ أخذت أتفحّص وجه الراحلة بكلّ حذر، مدقّقاً في تفاصيله لكي أحتفظ بها، إذ إني توجست من أنّ هذا اللقاء سيكون الأخير».

الغريب أن راوية القصّة بعد أن تختلط في رأسه الصور والأصوات، يعود بعد توديع أمّه، «إلى شارع النساء، أبحث عن وجه أمّي».

هكذا تنتهي القصة كما آبتدأتْ. في البداية بات اليقين لتقادم عهده كاللا يقين، وفي النهاية ينقلب اليقين من حدّة الوهم والألم إلى شئ يشبه اللا يقين.

* طريبيل: منطقة حدودية بين العراق والأردن.