زمن القتل: حين يكون الخطأ قدراً والألم مصيراً!

Saturday 16th of January 2021 08:14:22 PM ,
العدد : 4852
الصفحة : عام ,

سارة سليم

العملُ الأدبي الحقيقي هو الذي حين تُنهي قراءَته، تبدأ باستقرائه من جديد؛ في كلّ شيء من حولك، إذ يجعلك تبحث عنه مرة أخرى؛

لتنسج من خلاله خيوط حكاية رُويَتْ لكنها لم تكتمل بعد، أو بعبارة أخرى حكاية الرواية هي رافد للمحمولات الفكريّة، الفلسفية، الأدبية التي تفيضُ من على جوانب النص لتنبثق منها أسئلةً تشكل هواجس الإنسان على مر العصور، فالأدب الجيد أسئلته حيّة لا تموت وكلمّا قُرِئ تعاود طرح نفسها من جديد، لا سيما إذا ما نُقل ذلك الأدب إلى لغة أخرى سُتعيد إحياؤه _ تلك اللغة_ عند مُتلقّيها، وفي زمنٍ مختلفٍ عن الذي صَدرت فيه، خاصةً الأدب الذي وُجد ليقول شيئًا وليعبّر عن الكثير من الأشياء. فالذي يقرأ رواية "زمن القتل" للروائي الإيطالي <إينيو فلانيو> التي صَدَرت خلال عام 1947 في ظروف استثنائية، طلب الناشر العظيم (ليو لنغانيزي) من الكاتب أن يكتبَ عملًا أدبياً في مُدة وجيزة، وبالمقابل اقترح عليه أن يزوّده بالمال في حالة الشروع في الكتابة، وبناءً على رغبة ناشره قرّر كتابتها، ومن جميل الصُدف وإبداعات القدر وإيمان الناشر؛ نالَ جائزة (أوستريغا الإيطالية) والتي تُعتبر أهم جائزة إيطالية ونالتِ الرواية شُهرة كبيرة آنذاك.

تعاود هذه الرواية الظهور مجدداً وفي زمن آخر، زمن قلق يكاد يكون الموت من أبرز سيّمه، تعود بترجمة عربية لأول مرة صادرة عن منشورات المتوسط بميلانو(2020) . استهل <إينيو فلانيو> زمن القتل بعبارة مُذهلٌ بقائي على قيد الحياة بعد الحادث". هذه الجملة المفتاحية والتي تُعتبر من أهم العتبات الروائية من بين ما قرأتُ، أعادتني في عبثيَتها وسُخريتها لرواية الغريب <لألبير كامو> والتي تتقاطع معها في الكثير من الأمور، ولعلّ زمن القتل أكثر عبثية منها وسبراً لأغوار النفس البشرية وإرهاصاتها من وجهة نظري.

ففي زمن القتل جسد <إينيو فلانيو> الكثير من التصورات عن الطبيعة البشرية ومآلات تصرفاتها في الواقع؛ ليشكّل من خلالها الكثير من الصور التي قد تغدو واقعاً إن نحن قرأناها كما يجب، كالمصادفات التي كانت جُزءاً من قدر شخوص الرواية، كما أنه صور ما يمكن أن يقعَ فيه الإنسان من أخطاء وليدة الصُدف هي الأخرى، حتى أنه أوجدَ للألم في هذه الرواية مفهومه الخاص وقراءته الخاصة، استطاع <إينيو فلاينو> أن يحاكي الألم انطلاقاً من ألم الضرس الذي لازم البطل لفترة طويلة، ولانه تعرض لمواقف قدرية جعلته يتعايش وألمه في محاولة المصالحة معه.

تطرح الرواية من خلال مواضيعها الحرب وانعكساتها على الإنسان، إذ أن الروائي استمد من الحرب الأفريقية التي شنّها الديكتاتور الإيطالي <بنيتو موسولوني> على إثيوبيا خلال عام 1936 والفاشية مادةً دسمةً؛ ليعمر بها مخياله الروائي ولتكون المعمار الأكثر ثباتًا من أجل صرحه الروائي، كما أن المأساة الشخصية والتي تجسّدت في ولادة ابنته <ليلي> خلال عام 1942 بتشوهات في الدماغ كان لها الدافع الكبير لظهور هذا العمل الذي يمتزج فيه الخيال بالواقعية الجديدة كما أطلق عليها ، والذي قسّمه لفصولٍ يتناول كل فصل حكاية مروية بشكل مختلف.كما أن انعطافات الرواية الأبرز هي تضييعه للطريق التي كان يريد أن يسلكها إلى ألم الضرس؛ الذي عندما طال به واشتد أصبح من لوازم الحياة عنده، كون هدفه تغير،

أمّا براعة هذا العمل الأدبي قد منحها الروائي لبطل روايته والذي يقسمه إلى قسمين هو الآخر أو يمنحه دورين، فمرّة قاتلَ المرأة الأفريقية التي إلتقى بها في الغابة وقضى برفقتها يومًا كاملًا، أمّا النصف الثاني فقد منحه لعسكري خرج من عمله برخصة البحث عن طبيب أسنان لكنه يصادف قاتلُ المرأة، غير أن الراوي هو الضابط.

الرواية تتناول العشق القاتل والقتل الخاطئ والمرض الذي ينتقل بالعدوى والخطأ الذي يؤدي إلى القتل، والمصادفة التي أخطأت قدرها والألم الذي يصبح قدراً هو الآخر. والقصاص الذي يغدو حاجة لإطفاء نار الغضب.

الرواية أيضاً تحاول الإجابة عن جملةٍ من الأسئلة التي طُرحت وستظل تُطرح ما دام البشر على هذه الأرض يمارسون الأخطاء ذاتها بنفس القدر من البشاعة واللامبالاة.