الأسئلة الكبرى

Tuesday 19th of January 2021 10:08:52 PM ,
العدد : 4855
الصفحة : عام ,

ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي

القسم الخامس

بول سي. دبليو. دافيز Paul C. W. Davies : عالم فيزياء بريطاني ذائع الشهرة ، وُلِد عام 1946 ،

وحصل على شهادة الدكتوراه في الفيزياء عام 1970 من كلية الجامعة University College في لندن ، وهو مؤلف ومقدّم برامج ، ويعمل حالياً أستاذاً جامعياً في جامعة ولاية أريزونا ومديراً لمركز BEYOND ( مركز المفاهيم الأساسية في العلم ) . تولى مناصب جامعية أخرى في جامعة كمبردج وجامعة لندن وجامعة نيوكاسل وجامعة أديلايد وجامعة ماكواري ، وتنصبّ مجالات اهتماماته البحثية في حقل الفيزياء الكونية والنظرية الكمومية وعلم الفلك البيولوجي إلى جانب اهتمامه الشامل بتأريخ العلوم وفلسفتها .

نشر البروفسور ديفيز مايزيد على المائة ورقة بحثية في المجلات التخصصية في موضوعات الكوسمولوجيا والجاذبية ونظرية المجال الكمومي مع تأكيده الخاص على موضوعة الثقوب السوداء وأصل الكون . البروفسور ديفيز مولع كذلك بالبحث في الثقالة الكمومية ، وطبيعة الزمان ، وفيزياء جسيمات الطاقة العالية ، وأسس ميكانيك الكمّ ، وأصل الحياة ، وطبيعة الوعي .

أنتُخب البروفسور ديفيز زميلاً في الجمعية الملكية للأدب عام 1999 ، وقد حاز شهرة واسعة باعتباره كاتباً ومقدّم برامج علمية ومحاضراً لعامّة الناس .

أقدّمُ في هذا القسم – وأقسام تالية له – ترجمة لطائفة من الأسئلة الجوهرية التي تناولها البروفسور ديفيز بالمساءلة الدقيقة ، وتمثل هذه الأسئلة الفصل الأخير من كتابي المترجم ( الأسئلة الكبرى : الفيزياء الحديثة وأحجيات الكون والوجود البشري ) الذي ألّفه البروفسور ديفيز .

المترجمة

هل القوانين حقيقية ؟ 

ثمة ذكاء مخفيّ في الأمر كله - أي العالم المادي والقوانين الفيزيائية الحاكمة له ، المترجمة ) ، وسيكون هذا الذكاء أمراً مهماً للغاية عند مناقشة منشأ هذه القوانين . 

بدأت فكرة القوانين الفيزيائية باعتبارها وسيلة لتشكيل النماذج التي تربط الوقائع المادية في الطبيعة بشكل معترف به ، واعتاد الفيزيائيون على هذه القوانين بحيث أصبحت مع الزمن حقيقة في ذاتها ، واتخذت هذه القوانين حياة خاصة لها . إنه لأمرٌ غاية في الصعوبة أن يدرك غير العلماء أهمية هذه الخطوة ، ويمكن مقارنة هذا الأمر مع مايحصل في عالم المال :النقود في الجيب تعني أوراقاً مالية وعملات معدنية ولاشيء سوى ذلك ، وهي أشياء مادية حقيقية يجري تبادلها مقابل سلع مادية حقيقية أو مقابل خدمات محددة ؛ لكنما النقود - بالمعنى المجرّد من القيمة المادية - إتخذت لها حياة خاصة مميزة ؛ فالمستثمرون في الأسواق المالية أو شتى ضروب الإستثمارات الأخرى يمكنهم أن يزيدوا ( أو أن يقللوا مثلما هو حالي !! ) من أموالهم حتى من غير أن يبيعوا أو يشتروا سلعاً مادية . ثمة على سبيل المثال قواعد حاكمة لتداول عملات مختلفة ، وهناك مال يجري تداوله ومعظمه يحصل في الفضاء السبراني ( عبر الإنترنت ) أكثر بكثير جداً من ذلك التداول الذي يحصل في شكل عملات معدنية أو أوراق مالية . يمكن القول بطريقة مماثلة أن قوانين الفيزياء توجد في فضاء حقيقي ولاتلامس العالم المادي إلّا حينما ( تعمل ) فحسب ، ويبدو الأمر مع هذه القوانين كما لو كانت في حالة انتظار وترقب ، وهي جاهزة دوماً لتتحكّم في فعالية مادية معينة ودفعها للإلتزام بماهية قانون فيزيائي ما تماماً مثلما توجد قواعد تحويل للعملات حيث هي حتى لو لم يكن ثمة من يريد تحويل العملة في وقتٍ ما . لاتُعدَمُ هذه النظرة التأملية للقوانين الفيزيائية واعتبارها ذات سلطة وسطوة على الطبيعة من منتقدين ( وبخاصة الفلاسفة الذين يفضّلون نظرة " وصفية " فحسب ) ؛ لكن معظم الفيزيائيين الذين يعملون في موضوعات أساسية حيوية في الفيزياء يميلون لجانب النظرة التأملية حتى وإن كانوا لايذعنون لمترتباتها بطريقة قطعية جازمة . 

إذن ، لدينا الآن هذه الصورة عن قوانين فيزيائية لها وجود فعلي ، مخفية في مكان متعالٍ خليق بجعلها تتحكّم بالمادة ( الطبيعية ) الأقلّ شأناً منها ، ويتعلّق أحد أسباب هذه الطريقة من التفكير بالقوانين بموضوعة " وظيفة الرياضيات " . بدأت فكرة الأعداد كوسيلة لتحديد الأشياء وعدّها مثل الخراف أو حبات الفاكهة ،،، إلخ ، ومع استمرار تطور موضوع الرياضيات وامتداده من الحساب البسيط ليشمل الهندسة والجبر والتفاضل والتكامل ،،، إلخ بدأت هذه الموضوعات والعلاقات الرياضياتية تفترض لها كينونة مستقلة ، ويعتقد الرياضياتيون بأن تعبيرات رياضياتية على شاكلة ( 3 * 5 = 15 ، أو 11 عدد أولي ) صحيحة في ذاتها بمعنى مطلق وعام من غير أن تكون مرتبطة بثلاثة خراف أو إحدى عشرة حبة فاكهة . 

حازت المواد ( أي الموضوعات ، المترجمة ) الرياضياتية تقديراً عظيماً من جانب أفلاطون الذي إختار أن يضع الأعداد والأشكال المثالية في حقل مجرد يتألّف من الأشكال الكاملة . توجد في هذا الفردوس الأفلاطوني ، على سبيل المثال ، الدوائر الكاملة على خلاف الدوائر الناقصة التي نراها في العالم الحقيقي والتي هي دوماً تقريب غير تام للنموذج المثالي ( للدائرة الأفلاطونية الكاملة ) . الحقّ أنّ العديد من علماء الرياضيات المحدّثين هم أفلاطونيون في أعماقهم ( ولو في عطلة نهاية الأسبوع على الأقل !! ) ، وفضلاً عن ذلك هم يعتقدون أنّ للعلاقات الرياضياتية وجوداً حقيقياً برغم أنّ تلك العلاقات غير موجودة وجوداً مادياً في العالم المادي الذي نعرفه . يجد علماء الفيزياء النظرية أيضاً والذين إغتذوا على التقليد الأفلاطوني أنّ من الطبيعي للغاية وجود القوانين الرياضياتية للفيزياء النظرية في الفردوس الأفلاطوني . من جهة أخرى يجوز لنا دوماً أن نتساءل فيما إذا يمكن أن تصبح الرؤية الافلاطونية ولعاً غير مرغوب فيه في يوم من قادمات الأيام ونحن نوغل في الإندفاع عميقاً نحو فهم الأسس الرياضياتية للكون المادي . 

 

وداعاً للإله .... !

مثّل الدين المحاولة المنظّمة الأولى لتفسير الكون بشكل كامل ، وقدّم الدين الكون على أساس كونه نتاج عقل أو عقول لكائنات متعالية على الطبيعة بمقدورها تنظيم الطبيعة أو تدميرها وفقاً لمشيئتها :في الهندوسية ( براهما ) هو الخالق و ( شيفا ) هو المدمّر ، وفي اليهودية (يهوه ) هو الخالق والمدمّر كلاهما معاً ، وفيما يخصّ سكان أستراليا الأصليين " يعمل خالقان على التعاون مع بعضهما ، أحدهما هو ( ولانغادا ) الكائن الفضائي الذي رشّ الماء على ( ونغود ) وهي أفعى أنثى مغطاة بمادة جيلاتينية ، ويسعى الاثنان لخلق ( يورو - يورو ) وهو العالم كما نعرفه ... " . توجد الأشياء كما هي في مثل هذه الأنساق المخلوقة لأنّ إلهاً ( أو آلهة ) قضت بأن يحصل هذا الأمر وبالشكل الذي صار به ، وقد كرّست الأديان الرئيسة في العالم قروناً من البحث المعمّق في السعي وراء جعل هذه التفسيرات الإلهية متّسقة ومقنعة ، ولايزال ملايين البشر حتى يومنا هذا يؤسسون نظرتهم للعالم على أساس التفسير الديني للطبيعة . 

جاء العلم ليكون المحاولة الثانية العظيمة لتفسير العالم . قدّم العلم تفسيرات للطبيعة على هيئة قوى غير شخصية ، وعمليات فيزيائية طبيعية بدلاً من النشاطات المعتمدة على وسطاء فوق - طبيعيين ، وحينما كانت التفسيرات العلمية تتعارض مع التفسيرات الدينية كان الدين دوماً هو الخاسر في المعركة ، وغالباً ماأبدى علماء الدين ( اللاهوتيون ) تراجعاً ليركّزوا جهودهم على الموضوعات الأخلاقية والإجتماعية فحسب ( مثل التنوير الروحي ،،، إلخ ) قانعين بترك تفسير الكون المادي للعلماء ؛ لكن برغم ذلك مازال ثمة أشخاص كثيرون يعتقدون أنّ المطر هو صنيعة " آلهة المطر " بدلاً من العمليات الجوية الطبيعية ؛ لكني في كلّ الأحوال لن أراهن على مدى إمكانية نجاحهم عندما يحاججون عالماً مختصاً بالأرصاد الجوية . عندما يختصّ الأمر بظواهر فيزيائية حقيقية فإنّ العلم يحقق الإنتصار بيسرٍ على الآلهة والمعجزات ؛ لكن هذا لايعني أنّ العلم نجح في تفسير كلّ شيء ؛ إذ لاتزال بعض الفجوات الكبيرة قائمة فعلاً : لايعلم العلماء ، على سبيل المثال ، كيف نشأت الحياة ، وهم مسكونون بحيرة عظمى إزاء معضلة الإدراك Cognition ، وحتى بعض الظواهر المعهودة - مثل إضطراب السوائل - لازالت غير مفهومة تماماً ؛ غير أنّ نقض الفهم هذا لايعني أن يلجأ المرء إلى السحر والمعجزات بقصد ملء هذه الفجوات بل المطلوب هو المزيد من التقدم في الفهم العلمي لمثل تلك الظواهر غير المفهومة في وقتنا الحاضر . 

أما عندما يختصّ الأمر بأسئلة ميتافيزيقية على شاكلة ( لِمَ توجد قوانين للطبيعة ؟ ) فإنّ المشهد يصبح أقلّ وضوحاً من ذي قبلُ لأنّ مثل هذا النوع من الأسئلة لايتأثّر كثيراً بمكتشفات علمية محددة - مهما بلغت عظمتها - ؛ إذ لايزال الكثير من الأسئلة الكبرى حقاً قائماً مثلما كان عليه الحال في بواكير نشأة الحضارة البشرية ، ومازالت مثل تلك الأسئلة تملأ عقولنا حيرة ورهبة منذ مئات السنين ، ولم يكن لاهوتيون من أمثال آنسيلم Anselm وتوماس الأكويني Thomas Aquinas متديّنين ، بسطاء القلب ، أتقياء ، ونزيهي السريرة فحسب بل كانوا كبار مثقفي عصرهم كذلك . 

يعترف العديد من العلماء الذين يحاولون بناء نظرية مفهومة وكاملة عن الكون المادي ، وبصراحة فائقة ، بأنّ جزء جوهرياً من دافعهم لهذا المسعى هو التخلّص بصورة نهائية من فكرة الإله الذي يرون فيه وهماً خطيراً وساذجاً في الوقت ذاته . ليس الإله فحسب هو المقصود بهذا المسعى الملحمي بل كلّ مايشير إلى أثر لكلام أو فعل إلهي ، مثل : المعنى ، أو الغاية ، أو التصميم في الطبيعة ، ويرى هؤلاء العلماء أنّ الدين أمر خطير ومخادع ولاينفع معه سوى تطهير معتقداته بالكامل من هذا الوهم والخداع ، ولايرضى هؤلاء بأية حلول وسطية ، ويرون في العلم والدين نظرتين للعالم تنطويان على مقاربتين متمايزتين لايمكن أن تتعايشا معاً ، وفوق ذلك إفترض هؤلاء العلماء ( الراديكاليون ) أنّ لواء النصر معقود للعلم ومنهجه المؤثر بطريقة محتّمة في نهاية المطاف ومهما طالت المواجهة أم قصرت بين العلم والدين . 

ولكن هل ينزوي الإله ويرتكن إلى السكينة بهدوء تام ؟ وحتى في إطار عالم الدين المسلكي والمؤسساتي فإنّ مفهوم الإله يعني أشياء مختلفة بالنسبة لأشخاص مختلفين : على مستوى مدارس الأحد الشائعة بين المسيحيين يجري تصوير الإله - ببساطة - على أساس كونه نوعاً من ساحر كوني أخضع العالم للوجود من لاشيء ، ويأتي على فعل بعض المعجزات من وقت لآخر بقصد حلّ بعض المعضلات . إنّ مثل هذا الكائن الكوني المتعالي هو بكل وضوح أمر يخالف تماماً النظرة العلمية للكون ؛ أما فيما يخصّ اللاهوت فيجري تصوير الإله ، وعلى خلاف إله مدارس الأحد ، على أنه معمار كوني عظيم القدرة وكلي الحكمة ، يتجلى وجوده من خلال النسق العقلاني للكون - ذلك النسق الذي يعمل العلم ماوسعه من أجل إظهاره 

إلى الوجود،وهذا الإله اللاهوتي محصّن في العموم بالضد من هجوم العلم عليه .