أنور مراد .. طائر في ملاعب الكرة حائر في دروب المهجر!

Wednesday 20th of January 2021 11:03:24 PM ,
العدد : 4856
الصفحة : رياضة ,

 سلوي مع الفيلية.. وحارس فدائي للفرقة.. وقـلـب مـوجـوع مـن الـسـلـطـة!

 إياد الصالحي

بالرغم من مضي أسبوعاً واحداً على رحيل حارس المرمى الدولي السابق "الطائر" أنور مراد سليم الفيلي (1939-2021) لم تزل حكايات معاصريه تلوذُ الى رُكن ذكرياته وهو يُدافع عن شباك وطنٍ لم يحمهِ طول عمره ورماه خلف حدودٍ مسكونةٍ بالخوف والقلق،

ليتحوّل من طائر في ملاعب الكرة الى حائر في دروب المهجر المُقفرة التي عرفته إنساناً مُحبّاً للخير صانعاً للمعروف، وفي داخله خاطراً مكسوراً كلّما حاول أن يُغمِض عينيه باغتتهُ الروح هاربة الى (عكد الأكراد) في باب الشيخ وسط بغداد، تُقبّل رؤوس أولاد المحلّة شوقاً لماضٍ أربعيني نعاه في قلبه الباكي على أزمنة البراءة المهاجرة هي الأخرى .. ولم تعد!

يحلق عالياً

الصدفة وحدها قادت أنور مراد لولوج ملعب كرة القدم من قاعة كرة السلة التي برع فيها لاعباً مرناً وماهراً في نادي الفيلية منذ عام 1958، مارس معها الكرة الطائرة التي زادت من حماسته في التحليق أعلى من زملائه، فأشارت أصابع الإعجاب اليه بأنه أحد أفضل ممارسي تلك اللعبتين في زمانه، وساعدته على ذلك بنيته الجسمانية القوية وخفّة حركاته وحبّه للتدريب في أوقات خارج الحصص المقرّرة من الملاك التدريبي!

الحارس البديل

لم يستمر طويلاً على هذا الحال، فقد شاء القدر أن يستعد نادي الفيلية (المنضم لدوري المؤسسات بكرة القدم في موسم 1959-1958 برفقة ناديي السكك وأمانة العاصمة) لمباراة ودية مع منتخب الشرطة الحائز على بطولة دوري المؤسسات (1963-1962) وتعرّض حارس مرمى الفيلية لإصابة خطيرة أثناء التمرين، وطُلب من أنور أن يكون بديلاً له نظراً لحيازته المواصفات المشابهة لإمكانات زميله وخاصة الشجاعة، ووافق بعد تردّد قصير استشار أقرب أصدقائه أمثال كريم مراد وسعيد هادي وشجّعاه على القبول، وكان بالفعل محل ثقة الجميع حيث ذاد عن مرمى الفيلية ببسالة وخرج فريقه متعادلاً (1-1) ما دفع مسؤولي الشرطة لمفاتحته بصدد تمثيله بعد تلك المباراة، وسجّل العام 1962 أول تجاربه الرسمية مع كرة القدم تحت إشراف مدرب الشرطة دنس نصراوي.

مهمّات الفرقة الثالثة

لم يمكث مع الشرطة طويلاً، فقد انتقل الى فريق الفرقة الثالثة عام 1963 الى جوار عمالقة الفريق الكابتن جميل عباس (جمولي) وشامل فليح وشدراك يوسف وقيس حميد ونوري ذياب وكوركيس إسماعيل ومحمود أسد وعلي عطية، وتألق معهم إيما تألق كعنصر أساس في مهمّات صعبة، وخطف أنظار أكثر من مدرب منتخب وطني وعسكري أختاره ضمن قوائمه في مهمّات محلية ودولية.

دُعي للمشاركة في تصفيات كأس العالم العسكرية التاسعة عشرة عام 1964 بقيادة المدرب عادل بشير، ومثّل المنتخب الى جوار حامد فوزي وجميل عباس وهشام عطا عجاج وقاسم زوية وعموبابا ويورا وشدراك يوسف وصاحب خزعل وشامل طبرة ونوري ذياب وشامل فليح وكوركيس إسماعيل وحسن بلة.

حمل العلم

كما شارك مع المنتخب الوطني في دورة كأس المعارض الأولى عام 1966 في طرابلس بقيادة المدرب عادل بشير، وخسر أمام المغرب (2-1) في النهائي وكان برفقة حامد فوزي وقيس حميد وسلمان داود وقاسم زوية وجبار رشك وهشام عطا عجاج وعموبابا ونوري ذياب ومحمود أسد وكوركيس إسماعيل وشامل فليح. وشهدت الدورة موقفاً مؤثراً حيث طلب منه المدرب عادل بشير أن يحمل علم العراق ويتقدّم زملاءه في حفل الافتتاح، فأعتذر بخجل شديد وطلب أن ينيط المَهمة بزميله حامد فوزي احتراماً لقِدمه، فأصرّ بشير على اختياره قائلاً له (أنت أقوى من زميلك وهذه مسؤولية كبيرة انتبه لحملك العلم أثناء الدوران فعصاه ثقيلة) وكان أنور قلقاً أثناء مسيره ويكرّر رفع رأسه للسماء داعياً الله أن يوفقه حتى انتهاء فقرة استعراض الوفد، وبعد وقوفه وسط الملعب بارك له الجميع صلابته وانتظامه أمامهم.

قرار رئاسي

ولم ينقطع أنور مراد عن المهام الوطنية الى عام 1975 إذ فوجئ بصدور قرار من رئاسة الجمهورية بفصله من الخدمة العسكرية التي تطوّع فيها، وعندما سأل عن الأسباب قيل له لكونك كردي فيلي وتبعيتك أجنبية، وتضاعفت محنة أنور بعد سبع سنوات عندما أتخذ النظام السابق قراراً بتسفير عائلته الى إيران مع عديد العوائل بسبب ذريعة التبعية، فشعر أن الخطر يُحدق به ما لم يؤمّن مصيره، فأختار التوجّه الى إقليم كردستان تحت جنح الظلام خوفاً من كشفه وملاحقته، واستقرّ الحال به في أربيل لمدة عشر سنوات تخفّى عن الأنظار فترة طويلة، ولم يعلم به أقرب أصدقائه، حتى راوده الشعور عام 1992 بأنّ سُلطات النظام لديها الإمكانية للقبض عليه في أية لحظة، ففكّر بلقاء عائلته في إيران والاستقرار معهم، وبالفعل عزم أمره وسافر الى طهران وظل هناك عاماً كاملاً درس خلاله إمكانية الهجرة الى أوروبا وتحديداً هولندا عن طريق أحد الأصدقاء الذي رتّب له إجراءات الدخول كعراقي متضرِّر من سُلطة بلاده، ونجح بالحصول على بطاقة الإقامة رسمياً.

لقاء الاوفياء!

طوال تغرّبه في هولندا، لم يزر العراق إلا مرّة أو مرّتين يلتقى خلالهما صحبهِ الأوفياء لتبادل حكايات الكرة الستينية ويتفقد من بقي على قيد الحياة ويترحّم على مَن ودّع الدنيا دون أن يراه، ووسط هذه المشاعر الممزوجة بدموع الفرح والحزن، كان أنور يتعمّد الابتعاد عن الإعلام الرياضي تجنّباً لإثارة مواجع الماضي المرير! ثم يحزم حقيبته صوب هولندا، ولم يُعرف له خبر حتى صُدِم الشارع الرياضي بوفاته في العاشر من كانون الثاني 2021 عن عُمر يناهز (82)عاماً بمدينة أرنهم.

وصية

كان الراحل قد أوصى أحد زملائِه الرواد بأن يُدفن في رُكنٍ من ملعب الكشّافة الذي كان يمثل حلم صباه، وشهد أديمه صوراً رائعة من فدائيته وبسالته في الذود عن مرمى الفرقة الثالثة، فرحل حيث مستقرّه الأبدي في إحدى مقابر مدينة النجف الأشرف، تارِكاً لعائلته جبلاً من الهموم المتراكمة في أعقاب مواجهته أقداره بصبرٍ كبير وتسامح أكبر مع محبيه، بل حتى مع مضطهديه من دون أن يأخذ من الوطن سوى حقّه بالتوسّد تحت ترابه الحُر.