حول مذكرات مصطفى علي.. العسكر لايبنون دولة!

Sunday 21st of February 2021 09:22:59 PM ,
العدد : 4879
الصفحة : آراء وأفكار ,

 د. جمال العتّابي

مع علمنا أن مصطفى علي هو وزير العدل في حكومة الجمهورية العراقية الأولى بعد تموز 1958، وهو أحد أعلام السياسة في العراق، منذ دعواته الوطنية الأولى لمقاومة الأستعمار الإنكليزي الذي داهمنا بخيله ورجاله،

إلا أن مصطفى علي له إجتهاداته وكتبه ومؤلفاته التي فتحت آفاقاً رحبة في دراسة التاريخ والتراث والأدب، ومن أهم آثاره، شرح وتعليقات ديوان الرصافي الذي صدر بخمسة أجزاء ضمن مطبوعات وزارة الثقافة والإعلام العراقية(1972_1978)، وكانت لعلي علاقة متينة بالشاعر معروف الرصافي، أهّلته أن يكون راوياً وشارحاً لأشعاره.

ومع أن مصطفى علي السياسي والقانوني والوزير، له إهتماماته المتعددة، لايجد بأساً من كتابة سيرته الذاتية التي يستجلي فيها الأحداث، ويستحضر فيها دوره المتميز منذ أول حلقة ماركسية في العراق، ليترأس هيئة تحرير جريدة (الصحيفة)، التي صدر عددها الأول في 28 كانون الأول، عام 1924،مع حسين الرحال ومحمود أحمد السيد وعوني بكر صدقي، وعبد الله جدوع، وسليم فتاح.

صدرت هذ السيرة في كتاب بعنوان(مذكرات مصطفى علي، وزير العدل في حكومة عبد الكريم قاسم، من المعارضة إلى الوزارة)، إعداد وتقديم سيف القيسي، من منشورات مكتبة النهضة العربية في بغداد، وأسهمت كريمته عالية في التقديم للمذكرات، بالحديث عن الجانب الأعمق والأدل في حياة هذا الإنسان.

ولِد مصطفى علي عام 1900في محلة قنبر علي ببغداد، درس في دار المعلمين، يومها كانت أعلى معهد علمي في العراق، وكانت بواكير اهتمامه السياسي، بإنتمائه لجمعية حرس الاستقلال عام1919، ومؤيداً للأحزاب الوطنية البرلمانية(الحزب الوطني العراقي، وحزب الشعب)، وكان إلى جانب ثورة العشرين، إلتحق في كلية الحقوق عام1924، وتنقل في وظائف عدّة، فاز في انتخابات عام1937 نائباً عن بغداد، وقف الى جانب انقلاب بكر صدقي 1936 داعماً ومؤيداً.

إن القراءة المتأنية التي تتوقف عند عطاء مصطفى علي وآرائه ومواقفه الفكرية والسياسية وهو يتخطى المألوف في زمانه، ليشق درباً متفرداً مبتكراً، في موقفه من الدين، وضرورة فصله عن السياسة، ويجد فيه أمراً ضرورياً جداً في تقدم الأمم، وله رأي متقدم في حرية المعتقد والدين، وكان مؤمناً بالإصلاح في مجال القوانين والتعليم ، وتحقيق التحولات الإجتماعية والإقتصادية في مجال الزراعة والتنمية الصناعية، وتحقيق المساواة بين الرجل والمرأة، والعدالة الإجتماعية.

تبنى مصطفى علي الأفكار التقدمية الإشتراكية، دون إنتماء لحزب أو أيديولوجيا معينة، ومذكراته تسلط الأضواء على حياة هذه الشخصية، أسراره وأفكاره وأحزانه، ورؤاه ووجدانه، من هنا يظل طقس الكتابة العالم الآخر للأديب مصطفى علي، شأنه شأن سواه من الكتاب، له مجسّاته وهواجسه وأحلامه، وكوابيسه وحالات يقظته، وقلقه، فطبع مذكراته بطابع أدبي شفيف، مليء بالإحالات الشعرية، واللغوية، والتراثية، حتى في أشد الأزمات السياسية والشخصية، وأكثر المواقف صعوبة، حين أقتيد إلى المعتقل صبيحة إنقلاب 8 شباط.

عن علاقته بنوري السعيد يذكر مصطفى على : لست مجهولاً لديه، طالما جمعتنا دار الرصافي ليلاً، وكان لايتردد في أن يشاركنا في لهونا وأنسنا، ولكنه رجل سمّاع، وهو عيب في الساسة، المزايا اللامعة في شخصيته وشعبيته تندثر وتنمحي إزاء لونه السياسي، المتفاني في خدمة البريطانيين، وتأمين مصالحهم، والسعيد بطل المعاهدات التي يصبو لها الإستعمار البريطاني.

علاقة مصطفى علي بالزعيم عبد الكريم قاسم

من أكثر الفصول إثارة للجدل في مذكرات مصطفى تلك التي تلت تشكيل أول وزارة للجمهورية العراقية، في 14 تموز 1958، إذ تم تكليفه كوزير للعدل، دون علم مسبق منه، لكن بحكم تجربته الغنية في المجال القضائي، وخبراته في التشريعات القانونية، فضلاً عن تاريخه السياسي الوطني المشرّف، ولا يغيب عن الذهن، عمق علاقته بعائلة عبد الكريم قاسم، إذ كان يكبره بأربعة عشر عاماً، فهما أبناء محلة واحدة في بغداد، وإنتماء طبقي واحد(الأبوان عمّال نجارة) .

أدرك مصطفى جسامة المهام المناطة به، في ظل أجواء مشحونة بصراع سياسي مراهق، وهو يمتلك خزيناً من المعارف في مجال إختصاصه، ورؤى أراد لها أن تكون منجزاً مضافاً في سيرته، وإستطاع كوزير للعدل تشريع العديد من القوانين لصالح الشعب العراقي، وقد شُرع بعضها، وأخرى لم يقدمها رئيس الوزراء للمجلس لينظر في تشريعها، وظل يماطل ويسوّف دون أن يبين السبب، كما ذكر في (ص183) .

إقترح مصطفى علي حذف المادة التي تنص على أن الدين الإسلامي دين الدولة الرسمي في الدستور الموقت مما أثار ضغينة عبد السلام عارف، يقول: لم يكن في وسع إدراكه أن يفهم معنى ما أردت، وهل كان في إستطاعة تفكيره أن يستوعب مغزى ما رميت إليه؟ وأثار قانون الأحوال الشخصية رقم 88 جدلا واسعاً، أثار فضول شيخ الأزهر شلتوت، الذي طالب بإلغائه، ورمى مشرعيه بعدائهم للقرآن الكريم.

يتحدث مصطفى علي عن خلافه مع رئيس الحكومة عبد الكريم قاسم، مشيراً إلى تدخل قادة الجيش في شؤون وزارته، وتعارض صلاحياته مع صلاحيات الحاكم العسكري، وعدم إستقلال القضاء، بوجود المجالس العرفية التي زجت بتعسف وبأحكام باطلة بآلاف الوطنيين في السجون، فضلاً عن توجيه إنتقاده لمظاهر بدأت تطفو على السطح لم يجد لها تبريراً أو تفسيراً، منها الجلسات الليلية الطويلة لمجلس الوزراء، وخطب الزعيم، وولعه في نشر صوره، والنقطة الجوهرية في الخلاف، تتلخص بقناعته الثابتة بعدم قدرة العسكر في إدارة أو بناء دولة، لا في العراق، ولا في أي بلد آخر، وغالباً ما تقود تلك الإدارات البلدان إلى الفشل، والخسائر الكارثية، وله مواقفه الجريئة والشجاعة من تمدّد فترة الإنتقال، وإجازة الأحزاب، والإنتخابات البرلمانية، وغياب المنهج في الإدارة، وعدم وضوح العلاقة مع القوى السياسية.

لهذه الأسباب قدّم مصطفى علي طلباً الزعيم بإعفائه من مهام الوزارة في حزيران1960، ثم أتبعها بطلب الإستقالة في نيسان1961، بعد أن أجل قاسم البتّ في طلب الإعفاء، كان يحرص على بقائه معه، وفي الوقت عينه، لا يحب أن يرى معارضاً، ولا يحتمل أن يقول له(لا)! وعلى أثر توقيع نداء السلم في كردستان، بعد إندلاع العمليات العسكرية في تموز1961بين الكرد والحكومة، غضب الزعيم غضباً شديداً منه، وهدّد بإتخاذ التدابير القضائيةضد كل الموقعين.

لقاء الساعات الأخيرة بالزعيم

مصطفى علي يبحث عن دور نقي، وعن عقل نيّر، الإختلاف مع الزعيم، ليس لذاته، إنما هو وليد وعي وإنتباه وإرادة، بعيداً عن عواطف الجمهور ومزاج الشارع، وهو الأكثر قدرة على تشخيص السلبيات، والأكثر دراية في إقتراح البديل، لا مطلق في السياسة وإدارة الدولة، ولا قدسية للزعامات، ولا تابوهات تحجب الرأي، وتقمع حرية الفكر.

علي يتحدث بمرارة وحزن شديد، عن لقاء عاصف بالزعيم قبل ساعات من إنقلاب8 شباط، يقول: في الساعة التاسعة من مساء7شباط اتصل بي الزعيم وطلب إلي ان أزوره في مكتبه بوزارة الدفاع، أخذني الى الجناح الجديد في المبنى، وما استطاع أن يعصمه من الموت، ثم عرض علي مشروع الدستور، ثم أفضنا في حديث طويل ذي شجون، خرجت بعده بائساً أنفض يدي منه، فوصلت إلى داري في الساعة الثانية والربع فجراً.

مصطفى علي يلقي بالمسؤولية على عبد الكريم قاسم في جانب كبير منها، مهدت السبيل لانقلاب 8 شباط 63، واصفاً سياسته بالهوجاء، وتصرفاته بالشاذة (ص 230) .

لقد رسَم مصطفى علي الأحداث الفاجعة بسخرية، وعمق في التعبير عن حجم آلامه وخيباته، وهي خيبات وطن وشعب منكسر ومخذول :

ظل عبد الكريم منتشياً بخمرة الزعامة، والحكم، ثم تبين أن جمهوريته أوهن من بيت العنكبوت، إذ إستطاعت أن تعصف بأركانها طيارتان، وتدكّ حصنها دبابتان وأن تقوّض بضع رشاشات بور سعيد مجد زعيمها وعظمته، وهذه هي العقبى التي كان يتوقعها كل ذي نظر بعيد نافذ. (ص235). كان مصطفى علي أول المعتقلين، الذين تعرضوا لأبشع وسائل التعذيب والإذلال والخوف من قبل الإنقلابيين.

من هنا ندرك أن مصطفى علي حاول يقدم قراءته السياسية (هو وحده) وأن يكشف خفايا تلك الفترة بما تحمله من ثقل و مأساوية ظلت تلاحقه، للخروج من أسر الماضي، للإنطلاق نحو الحقيقة كما يعتقد، غير آبه بردود الأفعال المضادة لآرائه ومواقفه، وبما تحمل من إختلاف، ورؤى نقدية مغايرة.