المَسِيحيَّة بالعراق.. عشرون قرناً بلا انقطاع (2-5)

Tuesday 2nd of March 2021 09:49:25 PM ,
العدد : 4887
الصفحة : آراء وأفكار ,

 رشيد الخيُّون

الوشائج مع الإسلام

تشرف العرب بالنَّصرانية، قبل الإسلام، فكانوا يقسمون بالكعبة والصليب معاً، مثلما تقدم مِن قول عدي بن زيد. وقال الأعشى الأكبر أو أعشى قيس (629م): "حلفتُ بثوبي راهب الدَّير والتي/ بناها قصيٌ والمضاف بن جرهم(ابن سيد النَّاس، عيون الأثر في فنون المغازي والشَّمائل والسِّير 2 ص262).

وقال الزَّبرقان بن بدر، يوم وفد على النَّبي محمد مع تميم، مفاخراً شاعر الرَّسول المسيحي السابق حسان بن ثابت (ت نحو 54هـ): "نحن الكرام ولا حيٌ يعادلنا/ منَّا الملوك وفينا تُنصب البيعُ(ابن سيد النَّاس، عيون الأثر في فنون المغازي والشَّمائل والسِّير 2 ص262).

من جانبه استقبل النَّجاشي (9 هـ) المسلمين الفارين مِن قريش، لاجئين في مملكته، ورفض تسليمهم إلى موفد قريش عمرو بن العاص (ت 43هـ)( الطَّبري، تاريخ الأُمم والملوك، تحقيق: عبدأ علي مهنا، بيروت: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات 1998ج 2 ص245)، الذي أصبح من أبرز أمراء المسلمين في ما بعد. كان في مقدمة اللاجئين إلى الحبشة ابن عم النَّبي جعفر بن أبي طالب، المعروف بجعفر الطَّيار (قُتل 8هـ)، قيل: فقد ساعديه في غزوة مؤتة (كرك الأردنية حالياً) مع الرُّوم ليكون له جناحان يطير بهما في الجنة، فسمي بذي الجناحين(ابن عبدالبرِّ، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، القاهرة: الفجالة- مطبعة نهضة مصر 1 ص242).

كذلك استقبل مقوقس مصر رسول النَّبي محمد، وبعث بهديته إليه ومنها الجارية مارية القبطية (ت 16هـ)، وهناك مَن ملك يدها مِن زوجاته، لكنها مِن أمهات المؤمنين، وأم ولده إبراهيم(المصدر نفسه 4 ص 1912). قبل هذا تقدم المسيحي عداس، وهو غلام من نينوى يعمل بخدمة نفر من ثقيف، يشد من أزر النبي محمد بعد أن لقي ما لقي من صد ثقيف وإيذائهم وسخريتهم. وتبسط معه في قصة النبي يونس أو يونان ليصبره على العذاب والخذلان(الطبري، تاريخ الأمم والملوك 2 ص253).

كذلك أيد مسيحيو نجران الدَّعوة وكُتب عهد لهم، لم يلتزمه عمر بن الخطاب في ما بعد، فقد أمر بتهجيرهم عنها. ولما قِدم وفدهم برئاسة الأسقف أبي الحارثة "أظهروا اليباج والصّلُب ودخلوا بهيئة لم يدخل بها أحد، فقال الرَّسول: دَعوهم"( اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، بيروت: دار صادر 2 ص82).

كان ورقة بن نوفل، المتكهن بنبوة محمد، مسيحياً، وقيل إنه عاش ومات على المذهب الآيروسي الذي تجاوب معه الإسلام في صفات المسيح، وما يتعلق بالأقانيم الثلاثة. ولا نعرف ديانة خديجة بنت خويلد، قريبة ابن نوفل، وزوجة النَّبي الأولى، فربما كانت قبل الإسلام مسيحية أيضاً. هناك أحاديث عديدة خصت ورقة بن نوفل بالتكريم، منها: "أَنَّ خَدِيجَةَ سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ فَقَالَ قَدْ رَأَيْتُهُ فِي الْمَنَامِ فَرَأَيْتُ عَلَيْهِ ثِيَاب بَيَاضٍ فَأَحْسبُهُ لَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ثِيَابَ بَيَاضٍ"( مسند ابن حنبل، باقي مسند الأنصار، حديث رقم: 23846).

جلاثقة وخلفاء

انتقل مركز الخلافة في العهد العباسي إلى العراق، فأصبح التَّعامل مع الخلفاء مباشرة. يومها اقترب المسيحيون مِن دواوين الدولة التي كانت بحاجة إلى "مثقفين يقومون بأعباء الإدارة والدَّواوين والجباية والشُّؤون المالية، وكان المسيحيون وحدهم يمتازون في ذلك الوقت بثقافة عالية، فكانوا من أهل العلوم والحرف، كالفلاسفة والأطباء والفلكيين"(أبونا، تاريخ الكنيسة الشرقية 2 ص105).

كان الجاثليق طيمثاوس الأول أو الكبير (ت 823م) أبرز جثالقة الكنيسة الشَّرقية في العهد العباسي، فقد امتدت "كنيسة المشرق في عهده إلى الهند والصين والتبت"(المصدر نفسه 2 ص102). انحدر من أربيل وتدرج في المهام الدينية حتى حل محل الجاثليق حنا نيشوع الثاني. ومن أعمال طيمثاوس أنه "سعى كثيرا بتربية إكليروسه تربية صحيحة، وبنى لهم مدارس ومعاهد يتلقون فيها إلى جانب علوم الكنيسة العلوم المدنية بجميع فروعها وفنونها"(ساكسو، البطريرك طيمثاوس الكبير رائد الحوار المسيحي - الإسلامي في العصر العباسي، بين النهرين، العدد 4 السنة 1976).

عاصر طيمثاوس خمسة خلفاء عباسيين: المهدي (775 - 785م)، والهادي (785 – 786م) والرَّشيد (786 - 809م) والأمين (809 - 813م) والمأمون (813 - 833م). وكانت فترة رئاسته لكنيسة الشَّرق مثمرة في العلاقة بين المسيحيين والمسلمين. وقد اشتهرت فيها حواراته العقائدية مع الخليفة المهدي وعلماء المسلمين.

كان الخلفاء والوزراء يحاولون كسب المذاهب السائدة والمهيمنة على العامة؛ مثل المذهب الحنبلي أو الشَّافعي الشديدين على أهل الذِّمة. حدث مثل هذا في أزمة الخلافة عقب فشل انقلاب عبدالله بن المعتز ضد المقتدر بالله سنة 296هـ. فتقرر عدم استخدام "أحد من اليهود والنَّصارى إلا في الطِّب والجهبذة فقط، وأن يطالبوا بلبس العسلي، وتعليق الرِّقاع المصبوغة بين أظهرهم"(ابن تغرى بردى، النُّجوم الزَّاهرة في ملوك مصر والقاهرة، القاهرة: مطبعة دار الكتب المصرية 1932ج 3 ص165). غير أن المسيحيين، وأهل الذِّمة عامة، أثبتوا وجودهم عن طريق إتقان المهن، التي عزف عنها العرب المسلمون، بداية من الطب والهندسة والترجمة إلى الصياغة والحدادة والزِّراعة، وأعمال الخدمة المتنوعة الرَّفيع منها والوضيع. وهي تتراوح بين الطّبابة والكتابة والتَّنظيف، وأثر ذلك ما زال بائنا ببغداد والبلاد العراقية الأخرى.

شهد العراق حضوراً مميزاً للأطباء المسيحيين، وأول هؤلاء كان الطَّبيب (تياذوق)، طبيب الحجاج بن يوسف الثقفي (ت 95هـ). وكان "فاضلاً وله نوادر وألفاظ مستحسنة في صناعة الطب"(ابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء في طبقات الأطباء، بيروت: دار الثَّقافة 1987ج 2 ص32). وكان قد شفى الحجاج من أكل الطين(المصدر نفسه 2 ص34). وخدم جورجيس بن جبرائيل أبا جعفر المنصور (ت 158هـ) وكان حظيا عنده وترجم له كتبا عديدة، استدعاه المنصور من جند نيسابور عام 148هـ لعلاجه من فساد معدته وانقطاع شهوته(المصدر نفسه 2 ص37).

في الحقبة المغولية

كانت المسيحية قد وصلت عبر العراق إلى الهند وما وراء النهر، فاعتنقها الكثير من المغول، حتى إن مغولياً مثل (يهبالاها) (القرن الخامس الميلادي)، نصب جاثليقا للكنيسة الشرقية. وفي فترة متأخرة نصب يهبالاها الثالث (1281 – 1317م) جاثليقاً أيضاً. وإن الجيش المغولي، الذي اجتاح بغداد يتكون من جنود يدينون بالمسيحية. وكانت زوجة هولاكو، دقوز خاتون مسيحية أيضا. فعملت "ما بوسعها للذود عن المسيحيين"(أبونا، تاريخ الكنيسة الشرقية 3 ص7).

حسب الأب الدومنيكي أن تعاطف المغول مع المسيحيين يعود إلى أسباب عديدة؛ منها "عقلية المغول التي تميل بطبيعتها إلى الخرافات، وتأثير النساء المسيحيات، والمصلحة السياسية"(الدومنيكي، الآثار المسيحية في الموصل، ص58). فغير المسيحيين منهم كانوا يسمون أولادهم بأسماء مسيحية ويعمدونهم. "إذ يرون في العماد طقساً سحرياً، تفيد ممارسته أكثر من نظرهم إلى حقيقته الأساسية. وعند قراءتنا تاريخ المغول قد يقودنا التفكير إلى عالم الغجر اليوم، الذين تمتزج مسيحيتهم بخرافات كثيرة جاءتهم من أجدادهم"(المصدر نفسه).

يضاف إلى تلك الأسباب التي جعلت المغول يتعاطفون مع المسيحيين، هناك صلات للبابوية مع خاناتهم، بعد أن أصبحوا قوة عظمى تتساقط البلدان والقلاع المحصنة أمامهم، وهم في طريقهم إلى بغداد. فقد أرسل البابا اينوشنسيوس عام 1248م، أي قبل اجتياح بغداد بعشر سنوات، رسالة يدعوهم فيها إلى اعتناق المسيحية(المصدر نفسه، ص56).

وفي العــهد الجـلائري (1337 - 1411م)، الذي حل محل العهد الإيلخاني، انخفض إيراد الجزية ببغداد، بعد تراجعه أواخر العــهد السابق "بزيادة عدد الذين يدخلون منهم في الإسلام تخلصاً من المضايقات، ولجوء قسم منهم إلى منطقة الجزيرة وغيرها" أبونا، تاريخ الكنيسة الشرقية 3 ص97). وفي هذا العهد عاد الاضــطهاد الـدِّيني من جديد وأُلزم أهل الذمة "بالغيار، وهدمت كنائسهم وأديرتهم، وأسـلم منهم ومـن أعيـانهم خلـق كثير، منـهم سديد الدولة، وكان ركنا لليهود"(المصدر نفسه).