المَسِيحيَّة بالعراق.. عشرون قرناً بلا انقطاع (3-5)

Wednesday 3rd of March 2021 09:48:32 PM ,
العدد : 4888
الصفحة : آراء وأفكار ,

 رشيد الخيُّون

في ظل السَّلطنة العثمانيَّة

عاش المسيحيون العراقيون في ظل الدَّولة العثمانية بشكل عام "في ظل نظام كان التَّساهل فيه يزيد على ما كان في الولايات الأُخر. فبغداد كانت عالمية إلى حد أنها لا تشجع شيوع التَّعصب. يضاف إلى ذلك أن هذه الديانات كانت تسلك سلوكاً حسناً. كما كان النَّاس قد ألفوهم نظرا لطول إقامتهم، ولعدم وجود ما يمنع اختلاطهم بباقي النَّاس.

فربما كان من المحذور عليهم امتلاك الرقيق الأبيض أو أن يركبوا الخيل؛ لأن حصتهم من هذه الأصناف كانت العبيد والزنوج والحمير. على أن التحقير الأعظم الذي كان يقضي بعدم الركوب مطلقاً، أو بالنزول عند مرور سيد من السَّادة كان لا يؤتى إلا قليلا"(أبونا، تاريخ الكنيسة الشرقية، 3 ص 97).

من أخبار ولاية البصرة -وهي مركز جنوبي العراق- الإيجابية تجاه المسيحيين، اضطرار السُّلطان العثماني إلى استحداث منصب معاون الدَّفتردار، أو زير المالية في الولاية. و"كان يفترض أن لا يشغل هذا المنصب إلا المسيحيون"(آداموف، ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها، ترجمة: هاشم صالح التكريتي، البصرة: جامعة البصرة، مركز دراسات الخليج العربي 1982 ص76). وأن يُكلف ناصر باشا آل سعدون مؤسس مدينة النَّاصرية الحديثة ومتصرفها، في أيام مدحت باشا في السبعينيات من القرن التاسع عشر، الشَّخصية المسيحية المعروفة نعوم سركيس، بتخطيط وإنشاء مدينة الشَّطرة، وهو "من الذين يثق بهم"( المصدر نفسه ص51)، فأصبح "ملتزماً لمقاطعات في أنحاء المنتفك وملاكاً فيها"(مير بصري، أعلام الأدب في العراق، لندن: دار الحكمة 1994ج 1 ص270).

في أحوال تلك الفترة أفاد تقرير المطران باييه عمانوئيل، أسقف بغداد الكاثوليكي (1742) إلى البابوية بروما، إعطاء صورة مفيدة لوضع المسيحيين، وبالأخص الكاثوليك منهم، في تلك المرحلة. وصاحب التقرير ولد بفرنسا، وأُوفد إلى العراق عام 1728، وأصبح أسقفاً للكاثوليك ببغداد، وظل في منصبه الديني حتى وفاته بمرض الطَّاعون، الذي اجتاح العراق سنة 1773(مجلة بين النَّهرين، العدد 43 السنة 1983).

يذكر المسيحيون العراقيون فضل أسرة الجليليين المسلمة بالموصل، التي كانت تسعى لحمايتهم من حملات الصفويين ضدهم، وفي حروبهم مع العثمانيين. ففي حصار سنة (1743)، الذي قام به نادر شاه على الموصل، قتلت قواته عدداً كبيراً "من المسيحيين. واستولت الأَيزيدية على الأديرة ونهبتها وقتلت رهبانها. منها دير مار أوراها القريب من بلدة باطنايا في سهل الموصل. فأصاب الهلع أهل القرى، والتجأوا إلى الموصل، حيث استقبلهم الحاج حسين باشا الجليلي، وشجعهم وجهزهم بالمؤن والأسلحة"(أبونا، تاريخ الكنيسة الشرقية 3 ص212). كذلك مما تعرض لاضطهادات نادر شاه منطقة باطنايا، التي تقع شمال الموصل، سنة 1743(حبي، كنسية المشرق الكلدانية - الآثورية، ص166).

تدخل الجليليون لحماية مسيحيي قرقوش من الجيش الصَّفوي، فطلبوا مِن سكانها "أن يحملوا كل ما يعزَّ عليهم ويتوجهوا إلى الموصل قبل عبور نادر شاه وعساكره إلى قرقوش"(بهنام، قرقوش في كفة التاريخ، بغداد: مطبعة الأديب 1962 ص54). تجاوز أمراء الموصل بهذه المواقف النبيلة كل حكم أصدره خليفة أو والٍ مسلم ضد المسيحيين والديانات الاُخر.

عموماً، لم نقرأ عن تطبيقات عثمانية خاصة بأهل الذِّمة، مِن شروط الملابس الخاصة أو تحديد مستوى البناء إلى هدم كنائس وغير ذلك. والأمر ربما يرتبط بتبدل الزَّمن، وتقدم العثمانيين الحضاري قياساً بمن سبقهم من الملوك والحكام، ووجود البعثات الدبلوماسية الأوروبية، التي تشارك المسيحيين الدين نفسه.

يضاف إلى ذلك طبيعة المذهب الحنفي الذي اعتمده سلاطين آل عثمان. فالإمام أبو حنيفة النُّعمان (ت 150هـ) لا يكفر أحداً، ولم يحكم بالقتل على مَن اُتهم بسب الرَّسول أو الصَّحابة، ويقضي بقتل المسلم بالذِّمي. ودليله على ذلك "عموم آيات القصاص مثل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى. وقوله: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ. وقوله تـعالى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً. مِن غير فصل بين قتيل وقتيل، ونفس ونفس"( زيدان، أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام، بيروت: مؤسسة الرِّسالة للطباعة والنشر والتوزيع 1982 ص260-261). اعتمد الفقه الحنفي على ما ورد عن النَّبي: أنه "أقاد مسلما بذمي وقال: أنا أحق مَن وفى بذمته". وعن علي بن أبي طالب أنه قال: "أعطيناهم الذي أعطيناهم لتكون دماؤهم كدمائنا ودياتهم كدياتنا"(المصدر نفسه).

في القرن التاسع عشر، وبتأثير الدول الغربية، بدأ وضع الطوائف المسيحية الأخرى يتغير، فقد حصل الأرمن الكاثوليك عام (1831) على اعتراف بهم كطائفة مستقلة. كما اعترف لبطريرك الأرمن الكاثوليك عام (1857) بتمثيل "مصالح طوائف الكنائس الشرقية المتحدة مع الكنيسة الكاثوليكية، مثل الكلدان والسِّريان والملكيين (الرُّوم الكاثوليك)(المصدر نفسه).

كان لإعلان المرسوم المعروف بخطية كلخانة (1839)، مِن قبل السلطان عبدالمجيد الأول (1839 ـ 1861)، أثره في مساواة الطوائف المسيحية أمام الدولة في الحقوق والواجبات؛ إذ تقرر صون أرواحهم وأعراضهم وأموالهم. ثم تبع ذلك إصدار خط همايون (1856)، الذي أكد صراحة "معاملة جميع تبعة الدولة العثمانية معاملة متساوية مهما كانت أديانهم ومذاهبهم، مع الإبقاء على سلطات رؤساء الدين بشرط إعادة تنظيمها"(المصدر نفسه).

وأصبح لكل طائفة مجلس روحاني ومجلس جسماني، إذ تم الاعتراف بطائفة اللاتين، التي تكونت مِن المهاجرين إلى العراق وبلدان الدولة العثمانية الأُخرى، ومعظمهم مِن التُّجار الإيطاليين، ومِن تبعهم بفعل حملات التَّبشير. واعترفت الدَّولة لأول مرة بالطَّائفة الكلدانية والنِّسطورية، فاستخرج البطريرك (زيعا) العام 1844، أثناء زيارته إلى القسطنطينية، فرمانا بلقب بطريرك الكلدان ببغداد والموصل.

لقد ضمن الدُّستور العثماني، الصَّادر في 23 ديسمبر (كانون الأول) 1876 أيام الصَّدر الأعظم (رئيس الوزراء)، ووالي العراق المتنور مدحت باشا، حقوقا للطَّوائف غير الإسلامية، فقد "أُطلق لقب عثماني بدون استثناء على كافة أفراد التبعة العثمانية مِن أي دين ومذهب كانوا، مع تأكيده أن الإسلام دين الدولة الرسمي. وضمن الحرية لجميع الأديان، بشرط عدم إخلالها براحة الخلق والآداب العمومية. وحافظ على الامتيازات الممنوحة للجماعات المختلفة.