المسيحيون العراقيون.. عشرون قرناً بلا انقطاع (5-5)

Monday 8th of March 2021 08:41:54 PM ,
العدد : 4892 (نسخة الكترونية)
الصفحة : آراء وأفكار ,

 رشيد الخيُّون

الآحاد الدَّامية وكارثة الموصل والتَّضامن

يفهم، أن مأساة المسيحيين في مقدمتهم حصلت بفعل السُّلطة، بأيدي ملك أو خليفة أو أمير أو آغا. وربما لا تجد إلا القليل وغير المحسوس مما يصدر من عامة النَّاس، من دون محرك أو دافع سياسي. لكن فوجئنا بسلسة من الانفجارات التي طالت خمس كنائس عراقية ببغداد والموصل.

كان حصيلة ضحاياها عشرة قتلى وعشرات مِن الجرحى. حدث ذلك في صبيحة يوم الأحد الأول من أغسطس (آب) 2004، وهو يوم دامٍ في حياة المسيحيين العراقيين.

وجهت أصابع الاتهام إلى الجماعات الدينية المتشدّدة، التي تعمل تحت إمرة الأردني أبي مصعب الزرقاوي، الذي قيل إنه وصل العراق في العهد السابق للعلاج بمستشفيات بغداد، كنوع من التعاطف بين نظام البعث وتنظيم القاعدة. وفي غضون ذلك أعلنت جماعة إرهابية مسؤوليتها عن تفجيرات الكنائس، تدعى "هيئة التخطيط والمتابعة في العراق"، في بيان بُث من موقع إلكتروني إسلامي. جاء فيه: "قام إخوانكم المجاهدون بتفجير أربع سيارات مفخخة في بغداد استهدفت الكنائس الواقعة في الكرادة وبغداد الجديدة والدورة، بينما تولت مجموعة أخرى من المجاهدين ضرب الكنائس في مدينة الموصل"(جريدة الشرق الأوسط في عددها المؤرخ 3 أغسطس (آب) 2004).

جاء في فتوى تنديد السيستاني ما نصه: "بسم الله الرحمن الرحيم.. في مسلسل الأعمال الإجرامية التي يشهدها العراق العزيز، وتستهدف وحدته واستقراره واستقلاله، تعرض عدد من الكنائس المسيحية في بغداد والموصل إلى اعتداءات آثمة، أسفرت عن سقوط عشرات الضحايا الأبرياء بين قتيل وجريح. كما تضرر من جرائها الكثير من الممتلكات العامة والخاصة. وإننا إذ نشجب وندين هذه الجرائم الفظيعة، ونرى ضرورة تضافر الجهود وتعاون الجميع، حكومة وشعباً، في سبيل وضع حد للاعتداء على العراقيين، وقطع دابر المعتدين، نؤكد وجوب احترام حقوق المواطنين المسيحيين وغيرهم من الأقليات الدينية. ومنها حقهم في العيش في وطنهم العراق في أمن وسلام. نسأل الله العلي القدير أن يجنب العراقيين جميعا كل سوء ومكروه، وينعم على هذا البلد العزيز بالأمن والاستقرار إنه سميع مجيب(مكتب السيد السيستاني، النجف الأشرف 2 أغسطس (آب) 2004، 15جمادي الثاني1425).

لقد فاجأتنا أكثر مِن مذبحة بحق المسيحيين فكان هناك أكثر مِن أحد دامٍ، وكان تفجير كنيسة النَّجاة واحدة مِن أبشعها. فقد فجرت كنيسة سيدة النَّجاة في 13 أكتوبر (تشرين الأول) 2010. وتعود كنيسة النَّجاة إلى طائفة السِّريان الكاثوليك مِنْ أُصلاء العِراق، فهم تحولوا مِنْ النِّسطورية إلى مذهب اليعاقبة، وعرف المتحولون منهم إلى الكاثوليكية بالسِّريان الكاثوليك.

كانت سيطرة داعش، أو دولة الخلافة، على محافظة الموصل، شمالي العراق، كارثة تاريخية، لم يحصل مثلها في العصر الحديث، فليسجل التَّاريخ أنه في يوم 19 رمضان 1435 (المصادف 17 تموز/ يوليو 2014 ) تعرض مسيحيو الموصل، وهم سكانها القدماء إلى واحدة مِن فظائع الإسلام السِّياسي، ممثلاً بجماعة أعلنت دولة الخلافة الإسلامية. عندما خيرَ (أمير المؤمنين) أُصلاء الموصل بين ثلاثة خيارات: الإسلام، أو عهد الذِّمة، أو السَّيف، واختتم بيانه بالعبارة: "وقد مَن عليهم أمير المؤمنين الخليفة إبراهيم، أعزه الله، بالسَّماح لهم بالجلاء بأنفسهم فقط مِن حدود دولة الخلافة"، محدداً لذلك موعداً وإلا "ليس بيننا وبينهم إلا السَّيف"(نسخة البيان الرسمية، التي أصدرها تنظيم داعش نشرتُ على مواقع الإنترنيت بكثرة، ومنها موقع عشتار نشره في 18 يوليو (تموز) 2014: http://www.ishtartv.com/viewarticle,54983.html)!

سأنطلق من مثالين يبينان بوضوح فضيحة الوعي المخبوء في عقول هؤلاء، وهم جماعة مِن جماعات الإسلام السياسي، عن الماضي البعيد والقريب، وكلاهما حصلا بالموصل، أحدهما تصرّف فقيه مسلم موصلي والآخر لحبر مِن أحبار مسيحيي الموصل، يدللان على رداءة الحاضر بوجود هذه الجماعات، وحربها ضد فكرة الوطن، لأنها تأخذ المذهب والدِّين العابري الحدود الوطنية كنهج في السِّياسة، وبالتَّالي لا يبقى للوطن معنى، وإلا كيف لغرباء يتحكمون بالبلاد باسم الدِّين، يكفي أنها فكرة "الخلافة"، التي كانت منسجمة مع عصر الممالك الشَّاسعات.

اقتبس المثل الأول مما أرخ ابن خِلِّكان (ت 681 هـ) لهذه المنقبة في حياة أهل الأديان، وكان يتردد على الشيخ يونس كمال الدِّين بحكم صداقته لوالده، قال: "وكان أهل الذِّمة يقرأون عليه التَّوارة والإنجيل، وشرح لهما هذين الكتابين، شرحاً يعترفون أنهم لا يجدون مَن يوضحهما لهم مثله"(وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزَّمان، تحقيق: محمد محيي الدِّين عبد الحميد، القاهرة: مكتبة النَّهضة المصرية 1948 ج 4 ص 397). بعدها أرخ لذلك جمال الدِّين الأسنوي (ت 772هـ) في نقله لرواية تدرَّيس فقيه شافعي للتوراة والإنجيل لمعتقديهما بالموصل. قال: لما عاد الفقيه الشَّافعي أبو الفتح موسى بن يونس الملقب بكمال الدِّين (ت 639ه/ 1241 م) إلى مدينته الموصل «عكف على الاشتغال يُدرَّس بعد وفاة أبيه في مسجده، وفي مدارس كثيرة، وكان مواظباً على وظائفها، فأقبل عليه النَّاس، حتى أنه كان يقرئ أهل الذِّمة التَّوراة والإنجيل"( طبقات الشَّافعية، تحقيق: عبد الله الجبوري. بغداد: مطبعة الرَّشاد 1970ج 2 ص 571).

هذا، ولم ير معاصرو الكمال تصرفه بالغريب، ولم ينعتوه بردة أو انحراف، بل على العكس، قيل فيه: "تُجر الموصل الأذيال فخراً/ على كل المدائن والرُّسوم/ بدجلة والكمال هما شفاءٌ/ لهيمٍ أو لذي فهم سقيم/ فذا بحر تدفق وهو عذبٌ/ وذا بحرٌ ولكن من علومِ"(ابن خِلكان، وفيات الأعيان 4 ص 400).

إن مثال تصرف الفقيه الكمال ليس عادياً في زمننا البهيم هذا، وأراه كان مقبولاً قبل ثمانمائة عام! فتأمل فداحة الوعي المخبوء للمنطقة، وما يحصل بالموصل، وسط ظلم مرير، قد يُبرره الماضي بالحروب والغزو المتبادل، لكنَّ بما يُبرر في الحاضر، ويمارس على جماعة مسالمة قولاً وفعلاً، قد تعجز الكلمات عن التعبير عن تبيان الموقف.

أما المثال الثَّاني، وهو تصرف صدر مِن حبر مسيحي، ومِن أهل الموصل أيضاً، تجاوز كلَّ اختلاف ديني، ما مضى وما أتى منه، إنه بطريارك الكلدان الكاثوليك (1900-1947) يوسف بن توما عمانوئيل الثَّاني، والمولود بالقوش التَّاريخية بعمارتها ومسيحيتها أيضاً، والمجاورة للموصل، تصرف بمسؤولية عالية، عابراً بقية الحدود، نقل عنه العراقي اليهودي مير بصري (ت 2006) الآتي:

"إن القيادة العثمانية نفت إبان الحرب العظمى الماضية (الأولى) نفراً من وجهاء بغداد من مختلف الطَّوائف والمذاهب وأشخصتهم إلى الموصل في طريقهم إلى الأناضول، فذهب الفقيد إلى القائد الألماني (فون درغواز باشا) يشفع فيهم. فأبدى المشير استعداده للعفو عن المسيحيين منهم فقط. فقال الحِبر: إنني رجل دين، أب للجميع، ولا أخص ملتمسي بفريق دون فريق، فاعدهم جميعاً أو فاجلهم جميعاً، ولم يكن مِن القائد إلا أن أجاب سؤاله، وأمر بإعادة المنفيين جميعاً"(أعلام السِّياسة في العراق الحديث، بغداد- لندن: دار الحكمة 2004 ج 2 ص 632). علق بصري على هذا التَّصرف قائلاً: "وإن في هذه المأثرة لعبرة لنا ودرساً، فهي تُعلمنا أن الإنسانية فوق الطَّوائف والأديان"(المصدر نفسه)!

أقول: أي النَّموذجين، الكمال الشَّافعي أم عمانؤيل الكاثوليكي، لا يفضح رداءة الوعي المخبوء في أردان هذه الجماعات، صدورهم مملوءة بالكراهية! فالموصل بسمائها وأرضها هي نفسها، وعلى حد تعبير محمد سعيد الحبوبي (ت 1915): "سماء اليومِ مثل سماءِ أمسٍ/ وما نقصت سمواً وارتفاعاً"(الدِّيوان). فما انتقص غير العقل، ويصعب وصف ما حصل بالتَّراجع أو تشبيهه بالقرون الوسطى، فتلك القرون قياساً بمستواها الاجتماعي والسياسي والثَّقافي تًعد متقدمة. مِن الخطأ وصف هؤلاء بالتَّراجع، إنما وصفهم بالعبث بدماء وعقائد النَّاس.

نفهم من هذه اللمحة أن جذور المسيحة عميقة، وأن خلو العراق من المسيحيين، أو السريان والكلدانيين، يعني إفراغه من تاريخ تشكل على أرضه لألفي عام، وتغييب جانب أساسي من ثقافته، وترك آثار يندر وجود مثلها، من أديرة وكنائس وقرى ومدن، إنها كارثة حقيقية بدأت تحل بالعراق، لهذا لابد من عمل جاد للوقوف بوجه مسببات هذه الهجرة، وفي مقدمتها التهميش المتعمد والإرهاب المجنون ضدهم.