فاضل السلطاني: جوهر الشعر أن يكون منشغلاً بالحياة.. بل هي قضيته الكبرى

Monday 5th of April 2021 09:48:01 PM ,
العدد : 4916
الصفحة : عام ,

يرى أن كتابة القصيدة بقرار شيء لا يستطيع أن يستوعبه أو يمارسه

حاوره : علاء المفرجي

الشاعر فاضل السلطاني من مواليد بابل، حاصل على بكالوريوس في الأدب الإنكليزي من جامعة بغداد والماجستير في الادب الحديث من كلية بيركبك، جامعة لندن. عمل في سبعينيات القرن الماضي في جريدة (طريق الشعب) الى أن - غادر العراق عام 1977 إلى المغرب، حيث درّس سنتين في مدينتي تارودانت وبني ملال. ثم غادر إلى الجزائر (1979) وعمل في التدريس، بعدها غادر إلى سـوريا (1985) ومنها إلـى لندن (1994).. يعمل الآن محرراً في جريدة الشرق الأوسط اللندنية. عضو نقابة الصحفيين وإتحاد الأدباء العراقيين حتى خروجه من العراق عام 1977. عمل في القسم الثقافي ثم السياسي في مجلة " فتح " الفلسطينية ," و مجلة " الحرية " في دمشق حتى عام 1990.. شغل منصب رئيس إتحاد الكتّاب والصحفيين العراقيين في المملكة المتحدة .

أول مجموعة بعنوان (قصائد) عام 1982. وفي عام 1985 ، انتقل الى دمشق حيث صدرت مجموعته (النشيد الناقص)، ومجموعته الثالثة ( محترقاً بالمياه)، التي طبعها في بيروت عام 2000، و (عند منتصف الذاكرة) 2018 عن دار المؤلف بيرت، وصدر أحدث ديوان له بعنوان ( ألوان السيدة المتغيرة) عن دار المدى ،. وله ومجموعة قصصية وترجم العديد من الكتاب العالميين للعربية منهم الايرلندي وليم تريفور، الاميركية توني موريسون، التشيكي ميروسلاف هولوب، ومجموعة مختارات (خمسون عاماً من الشعر البريطاني) تضم قصائد لستة وخمسين شاعر. وله بالانكليزية دراسة عن الشاعر الانكليزي لاركن .

حاورته (المدى) للوقوف عند أهم محطات سيرته الابداعية.

*من أين بدأت علاقتك بالشعر.. حدثني عن مرجعياتك في هذا المجال؟

-لاأعتقد أن أحداً يعرف كيف تبدأ علاقته مع الشعر، خاصة بالنسبة لنا، نحن العرب، وبشكل أخص العراقيين.. إننا نولد في بيئة مشبّعة بالشعر، أو هكذا كانت، لا أعرف فعلاً، بعد كل هذا العمر الطويل كيف أفسر الأمر، تملكني الهوس بالشعر على مقاعد المدرسة الابتدائية. وكنت حفّاظاً جيداً. ولهذا السبب اختارني مدرسة اللغة العربية أن أقرأ قصيدة لأحد الشعراء صباح كل خميس في ساحة المدرسة، وهو تقليد أسبوعي قبل أن تبدأ الدراسة، كما في المدارس الأخرى. نسيت أغلب القصائد، ولكني لن أنسى قصيدة "يوم الشهيد" للجواهري، التي اختارها لي المعلم نفسه لحفظها وإلقائها صباح خميس ما.

بعد ذلك، أخذت أكتب "خربشاتي" الخاصة. أما بالنسبة للمرجعية، فهي غير واضحة أيضاً.لا أعتقد أنه توجد هناك، في ذلك الوقت المبكر مرجعية لأي منا. إنها القراءة كيفما اتفق، وحسب المتاح.

من حسن حظي، ولم يكن قد بلغت الثانية عشرة بعد، إطلعت على كنز ثمين. كان اخي الكبير عباس، المعلم الرياضي، الشيوعي في ذلك الزمن الذي قلب العراق، وتاريخه، وناسه، زمن 1958، يجلب معه كل شهر مجلة" المعلم الجديد"، التي تأسست عام 1935 كمجلة تربوية. لكنها تحولت بعد ثورة 1958 إلى مجلة للثقافة الجديدة، والأدب الجديد بعد المد الفكري، اليساري تحديداً، والانطلاقة الثقافية الهائلة التي عرفها العراق أنذاك.. كنت أنزوي في ركني الصغير لأقرأها. تعرفت منها على عبد الوهاب البياتي، وعبد الرزاق عبد الواحد، وسعدي يوسف، وسافرة جميل حافظ، وناظم توفيق، ومحمود المحروق. ومرت علي أسماء فيصل السامر، وإبراهيم السامرائي ، وصلاح خالص، وعلي جواد الطاهر من دون أن أفقه ما يكتبون. لكني حفظت الاسماء جيداً،ولأني قرأت في مكان ما، أن المرء لن يصبح شاعراَ إذا لم يحفظ 1000 بيت من الشعر، حفظت كل قصيدة تمر علي، بشرط أن تكون سهلة الحفظ!

لم تعد " المعلم الجديد" تكفي. ثم أنها تأتي مرة واحدة فقط في الشهر. لم تكن هناك أية مكتبة، ولا حتى كشكاً صغيراً، في " سدة الهندية"، تلك المدينة الصغيرة الهادئة الواقعة على ضفة الفرات.

سمعت أن هناك مجلتين لبنانيتين اسمهما" الآداب" و" أدب"، تباعان على بعد سبعة كيلومترات فقط من سدة الهندية، حيث قضاء المسيب.ولكن كيف يصلها طفل في الثانية عشرة من عمره؟ تدبرت الأمر. وعثرت على كنز آخر: السياب، والبياتي وصلاح عبد الصبور، ونزار قباني، وبلند الحيدري، ونازك الملائكة وغيرهم. لم يترك أي من هؤلاء أثره الكبير علي، ولم يهزني أحد ويقلب حياتي تماماً ً سوى السياب العظيم.

وبعد دخول كلية اللغات، قسم اللغة الانجليزية، بدأت الرحلة الأكثر عمقاً وتأثيراً مع الأدب الإنجليزي والأميركي، وبشكل خاص التعرف على شعراء المدرسة الرومانتيكية الانكليز، كوليرج وشللي وجون كيتس، ثم الشعر الحديث، وخاصة أليوت الذي لايفارقاني لحد الآن، ثم شعراء الثلاثينيات والأربعينيات، وأحبهم إلي ديلان توماس.

*منجزك الشعري لا يتناسب مع شاعريتك حيث صدرت لك حتى الآن 5 مجموعات شعرية .. بما تعلل ذلك؟

- لا أعرف كيف أفسر الأمر. وهو سؤال يعذبني دائماً ، الذي أعرفه أنني في مرحلة مبكرة قررت أن لا أنشر، لماذا؟ لا أعرف. . نشرت أول قصيدة لي حين كنت طالباً في الثاوية في ملحق الجمهورية الأدبي، الذي كان يشرف عليه الراحل أنور الغساني، وفي العدد نفسه الذي نشر فيه محمد خضير وقاص بصري آخر نسيت اسمه للأسف، ولكني متأكد أن لقبه هو الأحمد، وكانت قصته لا تقل روعة عن قصة محمد خضير. لكنه اختفى تماماً منذ ذلك الوقت، ثم قررت أن أتوقف عن النشر، مردداً مع نفسي ما قالته أميلي ديكنسون، وكنت قد قرأت بعضاً منها في ذلك الوقت، بأن النشر مزاد للعقل!

حين كنت في الجامعة، عجز عبد الأمير الحصيري وأصدقاء آخرون أن يقنعوني بالنشر. ركبت رأسي حماقة. وطبعاً، لكل شيء ثمن، عملت في "طريق الشعب"، ولم أنشر فيها سوى قصيدتين. وأعمل منذ ربع قرن تقريباً في جريدة" الشرق الأوسط"، ولم أنشر فيها سوى قصيدة واحدة!

ولكن بعيداً عني، دعونا ننتهي من مسألة الكم، كم ديوان هناك لمالئ الدنيا، وشاغل الناس منذ العصر العباسي لحد الآن، المتنبي؟ ديوان واحد. وكم قصيدة لمالك الريب، الذي ما يزال حاضراً بيننا منذ العصر الأموي؟ كما تعرف، قصيدة واحدة، هناك مئات الأمثلة على أصحاب القصيدة الواحدة، وعلى الشعراء الحوليين، عندنا وفي كل مكان من العالم، كم مجموعة شعرية هناك لأهم شاعر في القرن العشرين تي. اس. أليوت، الذي ما يزال أيضاً مالىء الدنيا وشاغل الناس؟ أقل من عشر مجموعات، ولم يصدر فيليب لاركن، أحب شاعر لقلوب الانكليز، سوى أربع مجموعات، أو، في الحقيقة، ثلاث مجموعات لأن مجموعته الأولى كانت شبه فاشلة، وعلى مستوى الرواية، مثلاً، لم يصدرجي.دي. سالنجر سوى رواية واحدة في منتصف الخمسينيات، هي" الحارس في حقل الشوفان"، بترجمة غالب هلسا، وما تزال الرواية تحتل مكانها في قائمة الكتب الأكثر مبيعاً، وكذلك رواية" أن تقتل الطائر المحاكي" لهاربر لي، وهي روايتها الوحيدة التي صدرت عام 1960، وأصبحت علامة بارزة في الادب الروائي الأميركي، وغير ذلك مئات الأمثلة في تاريخ الأدب الإنساني. وبالطبع، هذا لا يعني أن المقلين جيدون، وأن المكثرين رديئون. ريتسوس، مثلاً، مكثر جداً، ولكنه جيد دائماً.غير أنه من القلة الذين حافظوا على مستوى فني عال.

القصيدة تكتب بالدم، بالنسبة لي في الأقل. وإني استغرب من أولئك الشعراء الذين يجلسون يومياً وراء منضدة الكتابة ليكتبوا... كتابة القصيدة بقرار شيء لا أستطيع أن أستوعبه، أو أمارسه.

* غالباً ما يكون الشاعر مشغولاً بمواقف من الحياة والصراعات .. هل تتبنى قصائدك مثل هذا الانشغال .. أم إنك ترى الشعر غير معني بهذه الانشغالات؟

- جوهر الشعر أن يكون منشغلاً بالحياة، بل هي قضيته الكبرى، ولكن انشغاله هذا هو في حقيقته صراع، صراع مع كمية القبح، والقسوة، والظلم، واللاعدالة، والزيف، الموجودة في الحياة وإنسانها. وهو، في الوقت نفسه، صراع مع نفسه أيضاً، وهو الصراع الأشد مضاضة، أما إذا كنت تقصد بـ" الصراعات" ، الصراعات الفكرية، فالشاعر أيضاً معني بهاـ إنساناً وفناناً، ولكن بالمعنى الواسع، فمثل هذا الصراعات هي التي تحدد بمساراتها ونتائجها مصير الإنسان ككل، وهي قضية الشاعر الكبرى، حتى لو كان رهين غرفته.

*هل بالضرورة أن يكون الشاعر ضد السلطة، أي سلطة وخاصة السياسية منها، أم ترى أن يكون جزءاً منها.. ما رأيك؟

- قدر الشاعر أن يكون ضد السلطة، أي سلطة في عالمنا. الشعراء الملتزمون عبر التاريخ غنوا للثورة ، وليس للسلطة. ماياكوفسكي، أنشد لثورة أكتوبر. وحالما تحوّلت هذا الثورة إلى سلطة نقيضة لجوهر الثورة، لم يكن أمامه سوى أن ينتحر، وفعل يسنين الأمر نفسه، وعشرات غيرهما خلدوا للصمت مثل باسترناك، أو نفتهم السلطة إلى سيبريا ليتعفنوا هناك. حتى غوركي، وعلى الرغم من كل ما فعله في مساندة السلطة، والتنظير لها عبر ماسماه" الواقعية الاشتراكية" لم يسلم، واضطر للهجرة لفترة، ثم صمت.

لا توجد سلطة في تاريخ البشرية لحد الآن ارتقت لحلم الشعراء والفنانين والفلاسفة، الذي هو حلم الناس، بالحق والعدالة، والخير والجمال، لا أتحدث هنا عن المدينة الفاضلة، التي تبقى الحلم الأقصى، ولكن عن الحياة الإنسانية في حدها الأدنى، عن واقعنا المليء بالقبح والقسوة، والظلم والمعاناة. للسلطة، أي سلطة، قوانينها، المستندة إلى القمع، المبطن والمكشوف عند الحاجة ، التهادن مع أية سلطة كهذه خيانة ليس فقط للشعر، ولكن أيضاً للإنسان في مطلقه.

* أنت شاعر ومترجم للشعر، والدليل ما ترجمته الى الآن.. هل بالضرورة أن تكون وفق مبدأ أن تكون الترجمة أمينة للنص الشعري، أم كما يقول بورخيس أن يكون النص المترجم أميناً للترجمة، بمعنى عدم الالتزام بالمبدأ الأول حيث يتم تكييف النص، أو الحذف منه أو أن يقدم ويؤخر، لأسباب موجبة؟ أحمد رامي، مثلاً، لم يكن يجيد الفارسية، حين ترجم رباعيات الخيام، حيث ترجمها عن الانكليزية.. لكن ترجمته صارت الأكثر أصالة ودقة من ترجمة الصافي النجفي، وإبراهيم العريض.. اللذين ترجما الرباعية عن الفارسية.. ما تعليقك على ذلك؟ على أي مبدأ إذن كانت ترجماتك من الشعر الانكليزي الى العربية؟

-أرى أن تكون الترجمة أمينة للنص الأصلي، ولكن بلغة أخرى، بمعنى أن يتخذ المعنى الأصلي جسماً آخر ويرتدي ثياباً أخرى، لكنه يبقى هو نفسه، بعد أن تعطيه مبنى آخر، لا يكون بالضرورة في رونق الأول، وهو غالباً لا يكون ، وهذه هي المهمة الشاقة في أية ترجمة، وخاصة من لغة تنتمي لعائلة معينة إلى لغة أخرى تنتمي لعائلة غريبة تماماً عنها، وأهلها مختلفون في كل شيء في الثقافة، والذوق والذائقة، وتاريخهما إن لم يكونا متناقضين، فهما غريبان عن بعضهما البعض، وكذلك محاميلهما الثقافية اللذان لا يجمع بينهما شيء، ومدلولات مفرداتهما غير المتطابقة، إن لم تكن متعاكسة تماماً، الترجمة مثل أن تلبس جسماً واحداً ثوبين، كل منهما من قماش مختلف. بالنسبة لي، أحياناً أقضي أياماً كاملة في البحث عن مفردة مناسبة تقرّب القارئ العربي من المفردة الأصلية، ومدلولاتها، وظلالها، وإيحاءاتها. وأحياناً، أصل حافة اليأس، وأقول لنفسي: مالي ومال هذا الهم؟ وكما أشرت في كتابي" خمسون عاماً من الشعر البريطاني"، هناك قصائد عصية على الترجمة، وإن حاولت، فلن يبقى منها شيء.

إني أستغرب هنا من المدرسة الانجليزية في الترجمة. لقد ترجم تيد هيوز، على سبيل المثال، مختارات للشاعر الإسرائيلي يهودا أميخاي، وهو لا يعرف كلمة واحدة من اللغة العبرية، وترجم قصائد من اللاتينية، والإغريقية، والإسبانية، والألمانية، والهنغارية، والروسية، والإيطالية، وهو لا يعرف كلمة واحدة من هذه اللغات. كيف؟ منذ زمن درايدن، الذي ترجم أوفيد 1680، سادت طريقة في الترجمة هي " المحاكاة" Immitation، حسب تسمية درايدن نفسه، أي أن يتمتع المترجم بحرية كاملة في التصرف بالنص الأصلي، فيغير الكلمات ، ويتوسع في المعنى، أو يختزل فيه، لكن لا يغيره، وبعده فعل الشاعر بوب الشيء نفسه مع هومر. وعندما عرض القصائد المترجمة على صموئيل جونسون، قال له:" إنها قصائد جيدة، ولكن لا تقل إنها من تأليف هومر"!

فعل ذلك، أيضاً أزرا باوند، حين ترجم قصائد من الشعر الصيني، وهو لا يعرف كلمة واحدة من هذه اللغة، ترجموا له الكلمات، والصياغة الكاملة كانت له، من هنا، نستطيع أن نقول إنها قصائده، وليست قصائد صينية.

هذا النوع من الترجمة ما يزال شبه سائد في بريطانيا. فنحن نقرأ ترجمات لبعض الشعراء العرب من قبل بريطانيين، لا يعرفون حتى كلمة" شكراً". أقول ذلك عن معرفة حقيقية بالشعراء المُترجم لهم، وبالمترجمين.

وهذا بالضبط ما فعله أحمد رامي مع الخيام. لا أتفق معك أن ترجمته كانت أكثر أصالة ودقة، بل كانت أكثر شاعرية، فقد أصبحت قصيدته هو وليست قصيدة الخيام، مع استعارة المعنى. وهذا ما فعله قبله المنفلوطي مع الروايات الفرنسية. وهذا ما فعلته أيضاً نازك الملائكة حين ترجمت قصيدة توماس غراي" مرثية في مقبرة ريفية" إلى العربية حسب الأوزان الفراهيدية، فحوّلتها إلى جثة هامدة. ولحسن الحظ، لم ينتشر عندنا هذا النوع الكارثي من الترجمة.

*عملت محرراً أدبياً وثقافياً في أكثر من مطبوع وآخرها في جريدة الشرق الأوسط.. هل أثر ذلك على تفرغك للشعر وهو وجهتك الأساسية؟

- أخذت الصحافة مني الكثير، وقتاً وروحاً، كما فعلت مع زملائي الشعراء. الصحافة، عموماً، وبال على الشعراء. قد تنفع الروائيين، كما حصل مع أرنست همنغواي، وغارسيا ماركيز. ولكن ما العمل؟ أغلب كتّابنا امتهنوا العمل في الصحافة، كمصدر رزق، أو ممارسة التعليم. لا خيارات كثيرة أمامنا، مثل الكتّاب الغربيين المحظوظين. ومن هنا كتبت مرة، أن الكاتب العربي " بطل" حقاً، فعليه أن يحمل أثقالاً هرقلية حتى ينتج ويصل، هذا إذا وصل.

* المغرب، الجزائر، سوريا، وأخيراً لندن.. سنوات كثيرة قضيتها في الغربة والمهجر.. ما مدى التأثير الذي أسهم ذلك في منجزك، وثقافتك بشكل عام؟

- إنه الرزق أيضاً. . تركت العراق 1977 إلى المغرب، بعد خلافي مع حزبي، الحزب الشيوعي العراقي، بسبب تحالفه مع حزب البعث ضمن ما سمي بـ" الجبهة الوطنية التقدمية"، السيئة الذكر. طبعاً، كان لا بد من البحث عن إقامة ولو مؤقتة ومصدر رزق، ووجدته في المغرب، ثم الجزائر، ثم سوريا. لم يكن خيار هناك. كنت أرفض فكرة اللجوء إلى أوروبا، ، مثل كثير من العراقيين، ولكنا وجدنا أنفسنا لاجئين أخيراً. لم يكن هناك خيار أيضاً.

طبعاً، كنا قرأنا لكتّاب من المغرب، مثل عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري وعبد الكريم غلاب وعبد اللطيف اللعبي، الذي كان في السجن حين وصلت إلى المغرب. وكانت تصلنا بعض أعداد" الثقافة الجديدة"، التي كان يصدرها الشاعر محمد بنيس. ومن الجزائر، كاتب ياسين، والطاهر وطار ومالك حداد، ولكن حين تكون على الأرض، يختلف الأمر كثيراً، إذ إنك ستتعرف أكثر على طبيعة المكان، والبيئة الاجتماعية والسياسية التي أنتجت مثل هذه الشخصيات، والإشكاليات التي طرحوها في أعمالهم. والأهم، إنك تتعرف على الإنسان نفسه ، أما بالنسبة لسوريا، فالأمر يختلف، إذ لا فرق كبير بين أن تكون في هذا البلد أو في العراق.

أما التأثيرات الثقافية بمعنى الواسع ، فهي لا يمكن تلمسها كأية ظاهرة مادية، فهي تحفر شيئاً فشيئاً في عمقك من دون أن تعرف، وتغير مفاهيمك، ورؤيتك للآخرين ولنفسك أيضاً، وقد تُشكّلك من جديد، وليس بالضرورة بالمعنى الإيجابي دائماً.

أما بالنسبة للندن، فيمكنني القول إنها كانت التجربة الأعمق، أولاً بسبب الشعور بالاستقرار، وأنك باق هنا إلى يقضي الله أمراً، بعكس " المنافي" السابقة، التي ينتابك الشعور دائماً، كأغلب مواطنيك المقيمين فيها، بانها محطات مؤقتة. والسبب الثاني، أن الثقافة الانجليزية ليس غريبة علي تماماً، فقد درست الأدب الانكليزي في جامعة بغداد. ووفرت لي الإقامة في هذا البلد فرصة التعرف على مصادر هذا الأدب البريطاني في منبعه، وعلى طبيعة المجتمع الذي أنتج مثل هذا الأدب، الذي هو من أغنى الآداب الإنسانية. وتعمقت هذه المعرفة أكثر من خلال دراستي الأكاديمية اللاحقة للأدب الأوروبي والاميركي الحديث والمعاصر في جامعة لندن.