عندما يرى الحاكم الفاسد في الإصلاحِ فساداً (الشاعر الكبير الجواهري أنموذجاَ)

Saturday 17th of April 2021 09:52:10 PM ,
العدد : 4924
الصفحة : آراء وأفكار ,

 سالم روضان الموسوي*

اطلعت على واقعة قضائية حدثت عام 1937 حيث قرر حاكم جزاء بغداد في الدعوى الجزائية رقم (38) لسنة 1937، تجريم الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري (بالتحريض على بث الكراهية) عندما كان صاحب امتياز جريدة الانقلاب وتصادف هذه الأيام ذكرى صدور ذلك الحكم،

وكانت التهمة التي أدين بها على وفق المادة (89/آ) من قانون العقوبات البغدادي الصادر عام 1918 والملغى عام 1969 بعد صدور قانون العقوبات الحالي التي جاء فيها الآتي (كل من سعى بواسطة طبع أي جريدة أو كتاب أو أي مطبوع آخر أو تسبب في طبع ذلك أو بإحدى وسائل النشر المنصوص عنها في المادة 78 في إثارة شعور الكراهية والبغضاء بين سكان العراق أو (ضد نظام الحكومة المقرر) يعاقب بالأشغال الشاقة أو الحبس لمدة لا تزيد عن سبع سنين أو بالغرامة أو بكلتا هاتين العقوبتين.( وحكم على الجواهري بالحبس البسيط لمدة شهر واحد، لأنه طلب من باعة الصحف بالمناداة على المواضيع الرئيسة في الجريدة ومنها المتعلق بالخلاف بين أبناء الطائفة الاسرائيلية، ومن أسباب الحكم الذي اعتمدته محكمة التمييز آنذاك عند تصديق قرار الإدانة والعقوبة، إنه كان صحفياً وعليه أن ينشر من المقالات والآراء التي من شأنها أن تخفف وتهدئ من روع العمال المضربين ويعيدهم إلى السكينة والى العدول عن الإضراب، ويذكر في تلك الفترة ارتفعت أسعار بعض أنواع اللحوم مما أثر على قوت العامل الذي أجره متدني وكان لأحد تجار اليهود (ساسون خضوري) دور في فرض رسوم على نوع من اللحوم (الكاشير) هذا أدى إلى ارتفاع أسعار هذا النوع من اللحوم ويعتبر من الأنواع الجيدة مما تسبب في ارتفاع الأسعار وحرمان فقراء اليهود من تناولها، واعتبرت المحكمة أن نشر المقالات من المتهم في جريدته ولزوم المناداة على رؤوس الأقلام والعناوين من قبل الباعة بمثابة تحريض على الكراهية، وهذه الواقعة ذكرها الدكتور صلاح عبدالهادي الجبوري في رسالته الموسومة (تاريخ القضاء في العراق من 1921 ـ 1958) لنيل الدكتوراه في فلسفة التاريخ من جامعة بغداد/ كلية التربية عام 2003 الصفحة (293)، التي وصلتني نسخة مصورة منها عبر أحد الزملاء الأفاضل، ومن خلال العرض نرى أن سبب الإدانة لم يكن عن دعوة أو خطاب يتعلق بدين أو مذهب أو طائفة وإنما كان بسبب مناداة الشاعر الكبير لحقوق العمال حتى ولو لم يكونوا من دينه أو من طائفته، وهذا يدل على مدى الوطنية التي يتحلى بها الشاعر الكبير الجواهري، ويشير أحد الباحثين بان الجواهري قد عاصر مرحلة سياسية مضطربة أثرّ فيها الفساد السياسي والاقتصادي تأثيراً كبيراً، فأحدث ذلك خللاً ظاهراً في التركيب الاجتماعي، وكان للجواهري مواقف كثيرة في فضح السياسيين وكان من دعاة الإصلاح وهو الذي لم يغنم بمكسب أو نفع من الدولة طيلة حياته بل ناله منها الأذى، والسبب هو رفضه للفساد وكان بإمكانه أن يهادن القوم الفاسدين من طبقة الحكام فينال من الرخاء والثراء الكثير، لكنه آثر على نفسه إلا أن يكون الصوت الصادح ضد فسادهم وهو القائل (لقد ابتلوا بي صاعقاً مُتَّلهَباً ... وقد ابتليت بهم جهاماً كاذبا ،،،،، حَشَدَوا علي الجوع ينشب نابه... في جلد أرقطٍ لا يبالي ناشبا) وكان يتمنى أن يرتقي بالبلاد إلى أعلى المراتب ورسم الطريق إلى ذلك عندما قال (لو أنَّ مقاليدَ الجَماهير في يدي .. سَلَكتُ بأوطاني سبيلَ التمرُّدِ ،،، إذن عَلِمَتْ أنْ لا حياةَ لأمّةٍ .. تُحاولُ أن تَحيا بغير التجدُّد ،،،،،، لوِ الأمرُ في كَفِّي لجهَّزتُ قوّةً .. تُعوِّدُ هذا الشعبَ ما لم يُعوَّد ،،،،، لو الأمرُ في كفِّي لأعلنتُ ثورةً .. على كلِّ هدّام بألفَي مشيِّد ،،،،،،، على كُلِّ رجعيٍّ بألفَي منُاهضٍ .. يُرى اليوم مستاءً فيبكي على الغد)، لذلك فان القضاء العراقي آنذاك كان خاضع لأهواء ومزاج الفساد لأن من يتحكم به كان موالياً وتابعاً للطبقة الفاسدة الحاكمة آنذاك، وهذا ما ذكره الدكتور صلاح الجبوري في رسالته أعلاه في الصفحة (128) ويضيف على ذلك الآتي (بان انحراف القضاء عن الاستقلالية كان بصيغ متعددة منها إلقاء القبض على المتصدين للفساد) في الصفحة (129) كما يشير الدكتور الجبوري إلى (أن الحكام في المحاكم العراقية وقعوا تحت ضغط من المستويات العليا وأصحاب النفوذ والحكام الذين يظهروا حياداً وموضوعية في إصدار الأحكام يتعرضوا لردود فعل انتقامية تلحق الضرر بمصالحهم الوظيفية وقد ينقلوا في أي وقت) الصفحة (130) ويشير الدكتور الجبوري إلى مذكرة الحزب الوطني الديمقراطي التي رفعها إلى الملك عام 1952 التي عززت وجهة النظر بعدم الثقة في القضاء آنذاك والتي جاء في بعضها الآتي (القضاء لا يزال أداة سياسية توجه لمحاربة الحريات الشخصية وفقد استقلاله ونزاهته بسبب خضوعه للتدخل المستمر) الصفحة (131)، وفي ظل هذا المناخ السياسي الموبوء بالفساد والطغيان كان الحكام ومن تقلد أمور البلاد ينظرون إلى من ينادي بالإصلاح فاسداً وإن منهجهم الفاسد إصلاحاً، فيعمدون إلى محاكمة الجواهري تحت فعل مكذوب لا يستقيم ومنهج الجواهري الوطني وهو الذي يسامح حتى أعدائه عند قوله ( سامحْ القومَ انتصافاً، وأختلق منك اعتذاراً ..... علّهم مثلـكَ في مفترق الدرب حيارى) فكيف يثير الكراهية ويدان بها، لكن العبرة في خواتيم الأمور، فهل دام فساد من حارب الجواهري وظلمه؟ أم التاريخ لفظهم، وخُلِدَّ الجواهري فيذكر في علياءٍ وإكبار، بينما لا تسمع لمن ظلمه ذكرٌ أو خبر، وعندما ترك البلاد مهجراً قسراً ونفياً، فانه لم يتحسر على عشرة هؤلاء الفاسدين وإنما كان يحن إلى العراق وأهله الغيارى ويتحسر على تسلط هؤلاء على المقدرات فيقول فيهم (يا لأجنادِ السفالاتِ انحطاطاً وانحداراً ... وجدت فرصتَها في ضَيْعةِ القَوم الغَيارى .... يا غريبَ الدارِ يا من ضَرَبَ البِيدَ قِمارا… ليس عاراً أنْ تَوَلِّي من مسفّينَ فِرارا ..... دَعْ مَباءاتٍ وأجلافاً وبيئينَ تِجارا ..... جافِهِمْ كالنَسرِ إذ يأنَفُ دِيداناً صِغارا...... خلقةٌ صُبَّتْ على الفَجرةِ دعها والفِجارا ...... ونفوس جُبلت طينتُها خِزياً وعارا ...... خَلِّها يستلُّ منها الحقدُ صُلْباً وفَقارا ..... أنت لا تقدر أن تزرعَ في العُور إحورارا)

*قاضٍ متقاعد