عمارة نادي زوييف : الحداثة عند تجلياتها المبكرة

Sunday 18th of April 2021 10:04:43 PM ,
العدد : 4925
الصفحة : عام ,

د. خالد السلطاني

معمار وأكاديمي

تمثل فترة العشرينيات من القرن الماضي في عمارة الاتحاد السوفياتي (السابق)، فترة زمنية ذهبية، إن كان ذلك لناحية تنوع مواضيع نتاج المعماريين الغزير،

أم لجهة حداثة المقاربات المعمارية وجديد أساليبها غير المسبوقة في الممارسة المهنية المحلية. والحق، إن تلك الفترة كانت هي أيضاً فترة مميزة ورائدة في عمارة كثير من الدول الأوروبية الآخرى، بل ويمكننا القول إنها فترة نشوء وتأسيس موجة الحداثة المعمارية، تلك "الموجة" العاتية التي عصفت بقناعات راسخة لأساليب معمارية كانت شائعة (...ومفضلة أيضاً) في تلك الفترة، واتت عليها الحداثة و"هزمتها" شر هزيمة! ثمة أسباب عديدة وقد تكون مشتركة بين بلدان كثيرة، ساهمت في تعجيل ظهور الحداثة المعمارية الأوروبية وتكريسها بالمشهد، بيد أن ظهور تلك الحداثة اللافت والمؤثر وسرعة قبولها من الناس في روسيا السوفيتية، تعزز بصورة واضحة نظراً لخصوصية الأجواء التغييرية والثورية السائدة وقتها، التي اطلقت عنانها ثورة اكتوبر الاشتراكية عام 1917. كان من ضمن تلك المقاربات التجديدية المتسمة بالحس الحداثي مقاربة <البنائية> "الكونستروكتفيزم" Constructivism، هي التي استطاعت أن تمزج ما بين النزعات الوظيفية مع تقصي أشكال طليعية مستندة، بالأساس، على تقدم تكنولوجيا البناء. معلوم أن النزعات الوظيفية في منتج العشرينيات كانت دائماً مشوبة بالحس الاجتماعي ومقترنة بقضاياه وتنسجم مع التطلعات لإيجاد حلول منطقية لتلك القضايا التى فرضتها الحياة على خصوصية الناتج المعماري وعلى نهج المعماريين، وفي هذا الصدد كتب المعمار (اندريه فيسنين A. Vesnin) أحد قادة التيار البنائي بأن الأشكال التي يتعاطى معها المصممون المعاصرون ينبغي أن تكون ذات هيئات صافية من دون مداخلات زخرفية، وأن تكون مبنية وفق مبدأ الزوايا القائمة والأشكال الهندسية كما أن لغة تلك الهيئات ينبغي أن تكون مشغولة باقتصادية فنية عالية مع السعى وراء تضمينها مفردات تفضي الى تأثيرات بالغة القوة".

لقد أدرك أعضاء "الكونستروكتفيزم" بأن تأثير النجاحات التقنية العلمية على العمارة ينبغي أن لا يقتصر على إدراك للمنظومات الإنشائية الجديدة لوحدها وإنما يلزم تغيير طريقة المعمار التصميمية ذاتها، ويعتقد م. غينزبورغ M.Ginzburg وهو أحد منظري ( البنائية) المشهورين بأن: (على المعمار أن يلم بالأساليب العقلانية للتصميم وأن يتقنها كإتقان الإنشائي لحساباته، عند ذاك يشعر المعمار بأن مهمته ليس قاصرة على زخرفة الحياة وتزيينها ، وإنما هو منظم لها.. إن الإنتاج المعماري المبنى على السليقة والمعتمد على الوعي الباطني، الوجداني، ينبغي له أن يتغير ليفسح المجال نحو الأسلوب المنظم الواضح والبيّن..).

وكما هو معلوم فإن قيم ومبادئ البنائية استجابت للتغييرات الثورية الفعالة، مما حدا بأنصار هذا التيار أن يولوا اهتماماً بالغاً للقضايا الاجتماعية، وأن يصروا على وجوب إيجاد حلول سريعة للمشاكل الملحة؛ الأمر الذي ساهم في انتشارهم الواسع في الممارسة المعمارية الروسية إبان تلك الفترة، كما أن هذا التيار المعماري أثر تأثيراً عميقاً لجهة تطور الاتجاه الوظيفي الأوروبي وساهم مساهمة قوية في ترسيخ قيمه.

جسدت تلك المباني المبادئ الأساسية للبنائية على قدر كبير من الدقة وتمثلت بحجوم منتظمة، وتقسيمات المبنى بواسطة النوافذ الكبيرة أو المزججة بالكامل والتي تتوافق مع خصوصية الهيكل الإنشائي. في الحلول التكوينية لتلك المباني، لعبت العناصر التقنية الخالصة مثل الساريات وهوائيات الراديو وسلالم الخدمة المعدنية وكذلك استخدام الأحرف الكتابية واللوحات الإعلانية الضخمة الخ.. لعبت دوراً تصميماً مؤثراً وأساسياً في تشكيل التكوينات التصميمية الجديدة، كما أعارت البنائية أهمية خاصة لأسلوب معالجة المنظومة الحجمية – الفضائية للمباني، وأسبغت عليها (على تلك المنظومة) نوعاً من الشفافية التخريمية، والتي بها اكتست جدرانها إحساساً بالخفة، مثلما سعت تلك المنظومة وراء إيجاد روابط لتوحيد الفضاء الداخلي مع الخارج.

من ضمن أنواع Types الأبنية التي انتشر تشييدها بصورة واسعة، وتجسدت في تكويناتها مفاهيم النزعات "البنائية" "الكونستروكتفيزم"، أبنية "قصور الثقافة" أو "النوادي الثقافية والمهنية". إنها تجمعات خاصة بالشغيلة، ترمي الى زيادة تثقيف روادها بمعارف متنوعة، وكان جلّ رواد ومستخدمي تلك المنشاءات هم العمال والفلاحون وبعض المثقفين الذين يتوقون الى المعرفة التى حرموا منها طويلاً، والى ممارسة هواياتهم المختلفة، وبما أن هذا "النوع" من المباني لم يكن له مماثل في الممارسة البنائية والتصميمية سابقاً، فقد استوعب بسهولة "الاميج" المقترح من قبل المعمار المصمم، على الرغم من "غرائبية" <الفورم> المعماري، وعدم مألوفيته مع أشكال المباني العادية، وقد وجدت "البنائية" فيه "مسرحاً" ملائماً جداً لتطلعاتها غير العادية ومفاهيمها التجديدية ، وليس بغريب أن خيرة أمثلة عمارة "الكونستروكتفيزم" ، وأكثرها طليعية، كانت تتمثل في تلك الأنواع من المباني في "نوادي الشغيلة" وقصور ثقافاتها التى صممها خيرة المعماريين السوفيت في العشرينيات وما بعدها، ومن ضمن تلك النماذج التصميمة مبنى "نادي زوييف" في موسكو المشيد ما بين 1927 – 1929؛ المعمار: "ايليا غولوسوف" (1883 - 1945) Iyla Golosov.

أًفرد لموقع النادي، قطعة أرض ممتدة وذات شكل مستطيل وبمساحة متواضعة قدرت بحدود 1470 متراً مربعاً، وقد اربكت وعقدت هذه المساحة القليلة نوعاً ما وشكلها غير الملائم توزيع مفردات التصميم ضمن الحيز المتاح، ولهذا فقد لجأ المعمار لاستخدام 9/10 مساحة الموقع لتغطية متطلبات البرنامج التصميمي، يتضمن مبنى النادي على قاعتين: الكبرى منهما تسع لـ 950 مقعداً، في حين سعة الصغرى بـ 285 مقعداً. وبالرغم من نشوء جملة تعقيدات تنفيذية متعلقة بخصوصية تناسب أبعاد الموقع، فقد جاء تصميم الأحياز الداخلية وعلاقتها بعضها بالبعض الآخر على درجة عالية من الكفاءة والمرونة في الاستخدام، كما إنها لاتعطي انطباعاً بكونها فضاءات مكتظة أو محتشدة، وقد وظفت الخرسانة المسلحة مع الآجر كمواد أساسية لتنفيذ الهيكل الانشائي.

ما يثير في عمارة "نادي زوييف"، هي اللغة؛ اللغة التصميمية المدهشة، المتسمة على فيض من الحداثة والتجديد، هي التى، في الأخير، كرست خصوصية المبنى، ومنحته فرادته. نحن إزاء "عمارة" ذات مفردات تشكيلية، ليس فقط جديدة، وإنما لا مثيل لها أيضاً! ثمة كتل بأشكال هندسية منتظمة، تشكل "جسماً" هندسياً غير متماثل، وفيه، في ركنه المطل على شارعين، تبرز اسطوانة عمودية مزججة بالكامل (مثلت مركز الحل التكويني وثقله الأساسي في المعالجة التكوينية للجسم الهندسي)، وهي تخترق طوابق كتلة المبنى ذات الأشكال الأفقية المثقبة بأشكال هندسية لفتحات واسعة مزججة، وفي داخل هذا الحيز الإسطواني وضع المعمار سلماً حلزونياً يتيح لزوار المبنى الوصول الى طوابقه المختلفة، لا يعطي لوح التسقيف الخفيف، المغطي لقمة هذه الاسطوانة، إحساساً بوقف الحركة العمودية للشكل الاسطواني، وإنما يؤكد حضورها ويرسخ من وجود دورها المهيمن في التكوين، ومن أجل أضافة أشكال بمساحات زجاجية واسعة، تعمل على تكريس علاقة الداخل مع الخارج، استخدم المعمار سلسلة من الفتحات ذات الأشكال الهندسية المنتظمة في أعلى المبنى مع خلق "شرفة" مزججة بالكامل بمستوى الطابق الثاني معلقة وبارزة كابولياًعن جسم كتلة المبنى. (تم إلغاء هذه الشرفة ، مع الأسف، لاحقاً، في "ترميمات" المبنى بالسبعينيات، مثلما تم "غلق" بعض الفتحات ذات السطوح المزججة، مما جعل من جسم كتلة المبنى "المثقبة" والخفيفة، أكثر صلادة وجسامة وصلابة عن ما صممه المعمار وتاق الى إظهاره!).

وفي الأحوال كافة، تبقى "عمارة" <نادي زوييف>، كأحد النماذج المميزة والمبكرة لتمثلات أسلوب "الكونستروكتفيزم" الطليعي، وقد أثارت عمارتها منذ ظهورها في نهاية العشرينيات وما فتئت تثير الكثير من الاعجاب والاعتزاز من قبل كثير من المعماريين ونقّاد العمارة، واعتبر ظهورها كحدث مهم في تكريس الحداثة المعمارية الروسية، هي التى أثرت عميقاً على الممارسة المعمارية الحداثية الأوروبية والعالمية وأغنت خطابها. مرة، قالت معماريتنا الفذة "زهاء حديد" (1950 – 2016)، بأنها "تكمل خطوات الكونستروكتفيزم، من النهاية التي وصلت إليها تلك المقاربة الإبداعية!". وفي اعتقادي ليس من ثمة <ثناء> تقريضي، يمكن له أن يكون معبراً وصادقاً، بمثل كلمات زهاء المختزلة، بحق "الكونستروكتيزم" ومعماريه بضمنهم بالطبع "ايليا غولوسوف" مصمم هذا المبنى المدهش بلغته المعمارية التي منحته عصرانية وحداثة سرمديتين !!

والمعمار "ايليا الكسندرفيتش غولوسوف" المولود في 1883 بموسكو والمتوفي فيها سنة 1945، ولد في عائلة دينية (والده كان كاهناً)، أكمل تعليمه المعماري عام 1912، وعمل مساعداً الى المعمار المعروف "الكسي شوسيف" ، كما كلف في توثيق وتسجيل وقياس الأبنية التقليدية وتزيناتها من قبل دار منشورات "تاريخ العمارة الروسية" ، كما صمم، وقتها، عدة مبان في أسلوب تقليدي ومحافظ، في عام 1918 يعمل في بلدية موسكو وكلف بتصميم إحدى أحيائها ضمن المخطط الاساسي للمدينة. انضم في عام 1920 الى اتجاه ما يسمى بـ "الرومانسية الرمزية" وأمسى احد رواده المهمين، لكنه بدءاً من 1925، ينضم الى حركة "الكونستروكتفيزم" ، ويصمم مجموعة من الأبنية في روحية ذلك التيار الطليعي، بضمنها "نادي زوييف"، الذي نتحدث عن عمارته في هذة الحلقة، وعلى خلاف أخيه بانتيليمون غولوسوف، (وهو معمار حداثي مشهور أيضاً ومن مناصري "البنائية" المعروفين)، لم ينضم الى "رابطة المعماريين المعاصرين" OCA) ( التي عبرت عن لسان حال حركة "الكونستروكتفيزم"، وقد رأس في الثلاثينيات إحدى المكاتب الاستشارية في بلدية موسكو، ومن أهم أعماله ما بعد الكونستروكتفيزم "المجمع السكني للضباط المهندسين" في العاصمة الروسية (1936 - 1941)، له كثير من التصاميم المنفذة في موسكو وبقية مدن روسيا الأخرى، مثلما له العديد من المشاريع التي لم تنفذ، توفي سنة 1945، ودفن في مقبرة "نوفوديفيتشي" الخاصة بالمشاهير بموسكو.