التديّن الاجتماعي..المد والجزر

Saturday 8th of May 2021 10:01:57 PM ,
العدد : 4939
الصفحة : آراء وأفكار ,

سلام حربه

التديّن كشعور ظهر مع ظهور الإنسان على الأرض حين وجد نفسه وجهاً لوجه أمام الظواهر الطبيعية التي لم يجد لها تفسيراً وترابطاً ، حسب فهمه البسيط ، بالغيب والماوراء واللاأدرية تشكل خطراً عليه وتربك وجوده على أرض الواقع سواء كانت هذه الظواهر محسوسة أم غير محسوسة .

مفهوم التديّن اشتق من الدين بعد ذلك ومن لحظة نشوئه الأول، بصيغه البسيطة ونصوصه وعقائده وأوهامه وخرافته الى أن اكتملت صوره ونضجت نصوصه وامتلأت بالدلالات العلمية والأخلاقية والروحية سواء كان الدين سماوياً أم ارضياً..

التدين ظاهرة نفسية عند الانسان وهي تجسيد لقيم ومبادىء الدين الذي يؤمن به..التديّن يختلف من فرد الى آخر ومن مجتمع الى آخر وإن كانا يؤمنان بدين واحد. التديّن بنية ثقافية وروحية وأخلاقية ونفسية متغيرة يرتبط بشكل وثيق بحركة المجتمع وطبيعة نظامه السياسي والاقتصادي ، أي كونه ظاهرة اجتماعية ، حاله حال كل الظواهر الأخرى يتأثر بحركة المجتمع التحتية المحتدمة، ولذا فهو بناء فوقي ومرآة لحركة المجتمع وتناقضاته الداخلية الجوانية وصراعاته الطبقية وما تفرزه الأنظمة السياسية من عدالة اجتماعية أو استغلال، النظرة الى الدين والتبصر في نصوصه المقدسة وانعكاسها على الروح والمشاعر تختلف من شخص الى ثان ومن زمن لآخر ، وحتى هذا الكائن الفرد المتديّن تتبدل تأويلاته وقناعاته من النصوص الدينية وتتغير ردة فعله الروحية بما تنسجم مع وعيه الاجتماعي في ذلك الزمن سواء كان هذا الوعي متقدماً الى أمام أم متراجعاً الى الخلف، الدين نصوصه ثابتة ودوّن بكلام ولغة واحدة من يوم نزوله على النبي وحتى يومنا هذا ، لكن هذا الكلام انعكست آياته وكلماته على النفوس والعقول في كل زمان بطريقة مختلفة حسب طبيعة المجتمع في تلك المرحلة وأنماط علاقاته الاقتصادية والروابط الاجتماعية بين أفراده ومنسوب الثقافة والقيم الأخلاقية في المجتمع وهذا ما يفسر ظهور المذاهب والتيارات الدينية، بمرور الأزمان، في الدين الواحد وهذا متأتٍ من نظرة المجتمع وموقف المشايخ والفقهاء من طبيعة نصوصه وانسجامها مع حركة المجتمع في ذلك الزمان من عدمه، وقد عملت الأفكار الغريبة واستنساخ نصوص الأديان الأرضية القديمة للفقهاء المنحدرين من بيئات أجنبية وإسقاطها على الدين السماوي، معتنقهم الجديد، من تشظية الدين الواحد وشطره الى عدد من الأديان الأخرى / المذاهب والتي تتقطع خيوطها مع الدين الأصلي كلما ابتعد بها الزمان، فتظهر ألوان من التديّن تتدرج من شخص الى آخر حسب انتمائه لهذا المذهب أو ذاك وأصبح المذهب، أي مذهب، بمرور الوقت وبأساليبه الترغيبية والتعسفية، هو البديل عن الدين المنزّل وهذا ما حتّم على هذا المذهب أن يمتلك نصوصه الخاصة وتصوراته الدينية ومباحثه وشروحاته وطقوسه وعباداته وإنه هو الممثل للدين السماوي وما عداه من المذاهب يستحق الموت والقتل ، أما كلام مبتكري هذه المذاهب ،بالتداول الإجباري، فهو البديل عن أحاديث وسنة النبي المرسل وهذا سيفرض مع تقدم الأيام ، ومن مجتمع لآخر ، شكل تدين جديد لا يمت بصلة الى تديّن الأفراد والمجتمعات التي كانت تمارس عقائد الدين المقدس في زمن رسالته الأولى..التديّن كظاهرة نفسية واجتماعية تتعرض الى موجات من المد والجزر قد تسكن أحياناً وتهدأ ولكنها في أزمنة أخرى تثور وتعصف بحركة المجتمع وتتحول الى تيار عنيف يكتسح من أمامه كل مظاهر الحياة والتمدن وما التيارات والتنظيمات الدينية المتطرّفة التي ظهرت عبر التاريخ وآخرها القاعدة وداعش والتنظيمات السلفية والإخوانية والميلشيات القاتلة إلا أشكالاً وتنويعات للتديّن الاجتماعي نستطيع من خلالها النفاذ الى تركيبة المجتمع البنيوية وطبيعة علائقه الاقتصادية والسياسية ونمط الأفكار السائدة في المجتمع وطبيعة الوعي الفردي ومستوى ثقافة المجتمع ..لقد عانت المجتمعات كثيراً من ظاهرة التديّن السلبي التي اكتسحت المجتمعات قاطبة شرقاً وغرباً ، وحتى المجتمعات الأوروبية ما زالت تئن من جور التديّن الزائف وسطوة الكنيسة على هذه المجتمعات في أزمان تخلفها واحتدام الصراعات السياسية والاجتماعية وتدني السلوك الإنساني وقامت بنصب المشانق والمقاصل لكل من يجهر بعدائه لنمط الإيمان الديني السائد ، لقد سميت تلك الفترات بالعصور المظلمة ، لكن المجتمعات الغربية لم تستكن لسطوة هذا التديّن القهري الزائف واستطاعت أن تتسلح أمامه بالعلم والتطور الصناعي وثورته التكنولوجية التي ظهرت قبل عدة قرون واستطاع العلم ومختبراته بأسلحتهما وتقنياتهما من إسقاط كل حجج وأباطيل التديّن السائدة في المجتمعات في تلك الفترة واستطاعت كشوفات العلم المتلاحقة من تغيير بوصلة العقل البشري نحو اليقينيات والقناعات الجديدة ، بحيث وجد القائمون على التديّن/ الأديان الجديدة انهم عراة مخذولون لا يمتلكون الحجة ولا المصدات المعرفية للوقوف أمام سيل العلم وتياراته الجارفة التي أزاحت من أمامها كل أباطيل وخزعبلات وخرافات التديّن الغريب ورمتها في مزابل التاريخ وحاولت حتى يومنا هذا على تنقية الصور الدينية الأصلية من الشوائب وراهنت على جعل الكنائس والمعابد أماكن امتلاء وتطمين روحي وعملت على أن تعيد للمواطن التديّن الشفاف الذي لا تغريه النعرات والتأويلات الخارجة عن منطق العقل وأن تأخذ بيد الانسان وإيمانه الى حضيرة المدنية والحضارة ، لكنها جوبهت على الدوام بالعقبات التي يضعها البعض من فقهاء الكنيسة المتطرفين، من أجل إرجاع المواطن الى دائرة غيهم وظلالهم والوقوف ما أمكن أمام ماكنة العلم الجبارة بوضع العصي ، وإن كانت ضعيفة ، في دواليبها..ما عانته المجتمعات الإسلامية ومنذ أكثر من ألف عام هي ظواهر التديّن الاجتماعي الشرس والذي صبغ بلونه الدموي الأحمر كل الأنظمة السياسية التي توالت على هذه المجتمعات ، كما ساهم هذا التديّن بوقف عجلة التقدم وحطم كل المرتكزات الاقتصادية التي كان بالإمكان أن تأخذ بمقود هذه المجتمعات نحو طرق الحرية والتقدم..البلدان الإسلامية، رُسِمَ لها، أن تتقاطع مع العلم والحقيقة ولم تشهد يوماً ثورات صناعية وعمرانية ، بل تأكل جسدها النزاعات الدينية والسياسية والعرقية بدوافع من قوى داخلية وخارجية. من يخفف من غلواء التديّن ونهجه العدواني هو العلم والمنطق العلمي وبما أن هذه المجتمعات تعيش دائما في الماضي وعلى قصص وأمجاد الأسلاف و(بطولاتهم) الخارقة ولا تنظر الى حاضرها المأساوي أو مستقبلها الغائم فقد أسقطت المعرفة والعلوم والثقافة من حساباتها واعتبرت من يتعاطى العلم ملحداً وزنديقاً تحق علينه اللعنة والتغييب والقتل ، هذه البيئة الاجتماعية المريضة وفرت وسطاً مثالياً للتديّن الموبوء ليفتك بكيان المواطن الهش والاستحواذ على عقله والاستعانة بمجسات الوجدان والمشاعر العاطفية والأحاسيس العمياء في النظر الى هذا الكون وتفسيره في التعامل معه،الغاء العقل فاقم من انتشار الأوهام والخرافات داخل منظومة الإيمان المجتمعي ، تعاظم الجهل وتراكمه عمل على ظهور الاشكال البشعة من التديّن والتطرّف الديني ، حتى أن هذه المجتمعات في أيامنا هذه تعاني ليس من المد فقط بل تسونامي من التديّن الذي لا يمت الى الدين الإسلامي بصلة وهو النتيجة الحتمية لاعتناق المجتمعات للمذاهب/ الأديان البديلة عن الدين الاسلامي الحنيف..الواقع المتخلّف الذي لا يستند الى بنى مؤسساتية رصينة ينتج تديّناً فوضوياً ويجعل من إنسان هذه المجتمعات مسخاً بلا هوية لا يتوانى عن ارتكاب أبشع الفظائع والجرائم المرعبة لأن اليقين الأعمى هو مَن يؤدي الى الجنون..العلم هو الكابح الوحيد للإيمان الشاذ وهو الوحيد القادر على إخضاع التديّن لمنطق العقل كي ينسجم مع حركة المجتمع واهتزازاته الداخلية..تديّن المجتمعات الإسلامية ومنذ قرون خليط من الأساطير والقصص الفنتازية ونصوص وعبادات الديانات الوضعية من بوذية وهندوسية وزرادشتية ومانوية ومعتقدات فلسفية وصوفية وغيرها وهي لا تمت الى الإسلام بشيء. التديّن في الزمن الجديد في قمة مجده والمجتمعات مخربة وهذا التديّن الصوري، المفرّغ من الأثر الروحي، يعمل يومياً في الإيغال على تخريبها ودمارها..