غوغول وغوركي يلتقيان في إيطاليا

Sunday 9th of May 2021 10:16:47 PM ,
العدد : 4940
الصفحة : عام ,

أ.د. ضياء نافع

اطلعت على بحث علمي (يتناول تاريخ الأدب الروسي) بعنوان – (لقاءآت غوغول الايطالية مع اللاجئ غوركي) , وقد كتبته عام 2005 الباحثة الروسية بيلونوفا ,

الاستاذة المساعدة في جامعة نوفغورد السفلى ( نيزني نوفغورد) الحكومية , والباحثة حاصلة على شهادة مرشح علوم فيلولوجية ( أي شهادة دكتوراه فلسفة في علم اللغة وآدابها) . عنوان البحث غريب جداً (ومثير جداً أيضاً) , ويمكن القول إنه حتى لا يتناسب أصلا مع طبيعة عناوين البحوث العلمية ( التي يجب أن تكون دائماً دقيقة و محددة وصارمة , أي دون إضافات فنيّة مثلما نجد في النتاجات الإبداعية ).

النقطة الأولى , التي تثير دهشة القارئ بشأن هذا العنوان هي كلمة ( لقاءآت) , إذ كيف يلتقي غوغول , الذي توفي عام 1852 في الامبراطورية الروسية , مع غوركي , الذي ولد في نفس تلك الامبراطورية عام 1870 , أي بعد(18) سنة من وفاة غوغول ؟ النقطة الثانية هي لقاء أديبين كبيرين من روسيا في بلد أوروبي بعيد جداً عنها هو إيطاليا , والنقطة الثالثة هي تسمية غوركي ب ( اللاجئ غوركي )، كل هذه النقاط ( الغريبة !) تؤدي بالقارئ , بل وتدفعه الى الإسراع بقراءة هذا البحث طبعاً وبكل دقّة , كي يجد الجواب الشافي عن تلك الأسئلة المثيرة , التي يطرحها عنوان هذا البحث غير الاعتيادي , وهذا ما فعلته أنا , وأظن , أن القارئ العربي المتابع لتاريخ الأدب الروسي يريد (ويرغب أيضاً) الاطلاع على تلك الآراء الجديدة في دنيا الأدب الروسي , والتي تظهر في وطن هذا الأدب نفسه ( بعد كل التغيّرات الجذرية الهائلة التي حدثت هناك) ومن قبل الباحثين الروس أنفسهم , وذلك , لأن الاطلاع على تلك الآراء و الأفكار تعني إغناء المعرفة وتوسيع آفاقها حول الأدب الروسي لدى القارئ العربي هذا , ومن نافل القول طبعاً التذكير- مرة أخرى - هنا , الى أن الاطلاع على الأفكار شيء , والموافقة عليها أو مساندتها شيء آخر تماماً.

لا يمكن (اختزال او تلخيص!) البحوث العلمية بشكل عام , إذ أن عملية الاختصار قد تشوّه الفكرة الاساسية في البحوث هذه , ولكن يمكن الحديث عن الانطباعات , التي تثيرها تلك البحوث العلمية لدى القراء , والانطباعات هذه ترتبط بطبيعة البحوث , أي إنها ( الانطباعات ) تكون متناسقة ومتطابقة مع تلك الأفكار في البحث المذكور . الانطباع الأول , الذي كان لديّ عند بداية قراءة البحث , جاء نتيجة تسمية غوركي ب ( اللاجئ غوركي ) , إذ إني توقعت ( نتيجة لهذه التسمية ) أن تقارن الباحثة الوضع الاقتصادي الصعب جداً لغوغول في ايطاليا ( وهو لم يكن لاجئاً !) , مع الوضع الباذخ جداً لغوركي هناك , رغم إنه ( لاجئ ! ) كما أسمته , وكنت أظن , إن الباحثة ستحاول هنا أن تتحدث سلباً عن غوركي , بل وكنت أخشى أن تتحول الى ( منظّرة !) , وتصب ( جام غضبها !) عليه , وإنه قال كذا لفلان وأعلن كيت لفستان, الى آخر هذه التصريحات والثرثرات الباهتة ( وما أكثرها مع الأسف في هذا الزمن الفيسبوكي !), والتي تنطلق عادة من مواقف سياسية بحتة و مضادة للاتحاد السوفيتي وتاريخه بشكل عام , و بغض النظر عن كل شيء , وهو ما نجده طبعاً عند البعض من الروس (وغير الروس أيضاً) , الذين يكتبون عن الأدب الروسي في المرحلة السوفيتية , ولكني وجدت منذ السطور الأولى لهذا البحث موقفاً موضوعياً وعقلانيّاً يختلف جداً عن كل توقعاتي تلك , إذ تكلمت بيلونوفا في بحثها هذا عن قضايا متنوعة ترتبط بغوغول وغوركي معا , بما فيها انطباعاتهما عن إيطاليا , ويجب القول إنها استطاعت وبشكل ذكي جداً , أن تجد تفصيلات دقيقة ( وحسب مصادر معتمدة ومحددة تشير اليها في البحث ) بشأن موقع غوغول وأهميته في فكر غوركي , وأريد أن اتوقف هنا عند نقطة واحدة فقط ( من بين تلك النقاط) التي أشارت اليها الباحثة , وهي نقطة مهمة جداً – حسب رأيّ الشخصي – في تاريخ الأدب الروسي بعد انتصار ثورة اكتوبر 1917 في الامبراطورية الروسية , وتحوّل هذه الامبراطورية الى الاتحاد السوفيتي, نقطة رأيت حتى (بقايا !) آثارها و انعكاساتها في بداية وصولنا للدراسة في موسكو بستينيات القرن الماضي ، ترتبط هذه النقطة بالنظرة السوفيتية , التي كانت سائدة في بدايات السلطة السوفيتية , وهي تقسيم مسيرة الأدب الروسي الى ( بوشكيني , أي نسبة الى بوشكين , وغوغولي , أي نسبة الى غوغول ) , وكانت هذه النظرة السوفيتية تؤكد , إن الغوغولية ( أي واقعية غوغول) هي التي ( انتصرت !) على البوشكينية لاحقاً .

إن تقسيم الأدب الروسي الى بوشكيني وغوغولي , هو تقسيم مبسّط وساذج جداً , بل وحتى يمكن أن نعتبره غير صحيح بتاتاً , و تبيّن بيلونوفا في بحثها المذكور, بعدم وجود أي علاقة لغوركي بهذه النظرة الساذجة, بل إنها تثبت , أن غوركي لم يكن أصلا موافقاً بشأنها , إذ كيف يمكن لغوركي أن يجد تنافراً وصراعاً بين بوشكين وغوغول ؟

نعم , غوغول وغوركي التقيا فكريّاً معاً , في إيطاليا وفي روسيا , رغم تباعد سنين حياتهما , وأبقيا بصمات هذه اللقاءآت على الأرض الروسية , وشكرا للباحثة بيلونوفا , التي اكتشفت هذه البصمات وذكّرتنا بها .....