العمود الثامن: نبوءات لميعة

Sunday 20th of June 2021 10:21:39 PM ,
العدد : 4969
الصفحة : الأعمدة , علي حسين

 علي حسين

شغلت لميعة عباس عمارة الأوساط الثقافية في بغداد وبلاد العرب، لسنوات، فهذه الفتاة التي دخلت دار المعلمين العالية قبل أكثر من سبعة عقود، كانت قد نظمت أولى قصائدها وهي لم تبلغ الثانية عشرة من عمرها، وقررت أن ترسلها إلى شاعر لبنان الكبير أيليا أبو ماضي، قصيدة في حب العراق، وكان أبو ماضي شغوفاً بما كتبت فعلق بعد أن نشر لها القصيدة:

"إن كان في العراق مثل هؤلاء الأطفال فعلى أية نهضة مقبل؟"، ولم يدر بخلد شاعر المهجر أن البلاد التي أنجبت الجواهري والبياتي والسياب ونازك الملائكة ، ستصحو يوماً على أصوات الطائفية وخطابات نبذ الوطنية وإعلاء شأن الذين يتغنون بدول الجوار.. قررت لميعة أن تسحر كل من يلتقي بها، فكان السياب أول من هام بها، فكتب القصائد التي تتغنى بابنة الكرخ الصابئية التي كانت تحلم بعالم من الصفاء والمحبة.

عاشت بغداد زمن لميعة وجواد سليم وناظم الغزالي مدينة تتطلع إلى المستقبل بعيون مفتوحة، كان القادمون إليها من جميع المحافظات، يكتبون الشعر ويغنون، ويعشقون، ويعتقدون أن القصيدة والرواية واللوحة والأغنية ستصنع بلداً يكون ملكاً للجميع، ومجتمعاً آمناً لا تقيد حركته خطب وشعارات خادعة ، عاشت لميعة ، مثلما عاش السياب، أسيرة لأحلامها، تتنقل في بلدان الغربة تكتب القصائد التي تتغزل ببلاد تُنكر أبناءها لأنهم لا يمارسون الطائفية، ولا يطالبون بتقاسم الكعكة، ولايؤمنون بالتوازن في القتل والنهب، وتقرأ لميعة بصوتها الدافئ حنينها إلى بغداد: "بغداد.. عمري انكظه.. والبعد ما ينعاد.. عمري اليجي ويسوه.. بعد وياك ما ينعاد".. ستحلم لميعة مثل السياب بعراق أوسع ما يكون لكنه سيصبح أبعد مايكون، وكانت مثل شاعر غريب على الخليج ، تتمنى أن تمسك العراق بيديها، إلآ انها ستكتشف في النهاية أن الأحلام، وبغداد، أبعد ما تكون.. وأن البحار والمدن ستكون دونك ياعراق.

رحلت لميعة عباس عمارة عن عالمنا بعد أن أثقل الحنين حياتها، اختبأت وراء جدران الغربة، لكن قصائدها ظلت تطل علينا توزع الحب والأمل وتحيي الشجن في القلوب، ولم تكن تتوقع أن قصيدتها لو أنبأني العراف ستكون نبوءة لكل العراقيين:

لو أنبأني العراف ..

أني سألاقيك بهذا التيه

لم أبك لشيء في الدنيا

وجمعتُ دموعي.. كل الدمع

ليوم قد تهجرني فيه.

اليوم أيتها الشاعرة نحن مثلك جمعنا كل الدموع ليوم يراد لنا فيه أن نعيش غرباء في مدينتنا التي احتلها اللصوص،

ستعرف الأجيال أن في هذه البلاد عاشت امرأة عراقية كانت جريئة ومحبة سيكتب لها ولذكراها البقاء.. في وقت تمر على العراق هياكل سيكون مصيرها الزوال حتما. من سيبقى من العراق، هلوسات الجعفري وتأتأة علاوي أم كلمات لميعة عباس عمارة وصوت الجواهري وأنين السياب؟.. اصوات علمتنا قيمة الحياة، وأهمية الوطن.