طعم الرؤية وسرُّ المشهد في قصائد نصير النهر

Sunday 12th of September 2021 08:39:01 PM ,
العدد : 5022
الصفحة : عام ,

نجاح إبراهيم

في ديوانه" يا طارقاً بابي" للشاعرِ" نصير النهر" تقفُ ملءَ قبضتك ولهفتك أمام بابه المغلق، وفي نيتك أنْ تطرقه لتعرف ما وراءه.

في هذه اللحظة بالذات ، لحظة حيرتك في اتخاذ قرار؛ أن تطرق أم ترجئ الأمر ، تحاول أن ترسم المشهد في خيالك:

" ماذا وراء الباب؟

من يقف خلفه؟

ولم ظلَّ الباب مسكوناً بالإهمال وافتقار الحركة؟

وقبل أن تمدَّ الكفَّ لتغامر في طرقه ، تنتظر لحظة كشف ورغبة ، يأتيك الصوت مليئاً بالحزن ، مشبعاً بالوحدة، رادّاً على تساؤلك الذي وصله :

" ياطارقاً بابي

ماذا وراء الباب؟

أنا....

وهذا الموقد الخابي..."

صوت يروي لك قسوة الوحدة ، وقسوة الأحباب الذين غادروا. لا أحد وراء الباب سوى مفردات تدلُّ على الصبر، لا شيء وراء الباب سواه، وأشياء تنتمي معه إلى عالم ما وراء الأبواب!

وما عليكَ إلاَّ أن تتخيل حضور الشعر في هذا العالم الموغل في قسوته، الواسع على الرّغم من برودته وقحطه!

فكيف للشعرِ أن يكون مدى ؟ وكيف لخيالك أن يلاحقه؟!

هذا هو أحد أسرار الشعر الذي يدفعك لأن تكتشف وتؤمن أيما إيمان بمقولة الفرنسي " رينيه شار" عن الشعر بأنه: " الكشف عن عالم يظلُّ أبداً في حاجة إلى الكشف."

فلا يتأتى الكشفُ إلاَّ عن قلق، قلق الإنسان الأبدي.

بادئ الأمر..

هل سمعتَ بقصيدة تختزلُ ما في ديوانٍ كاملٍ تنتمي إليه؟

لقد اعتدنا أن يؤسس أيُّ ديوان بقصائده على موضوعات شتى ؛ كالحزن والفقد والشوق والحبِّ والحرب وآثارها و.... في قصيدة واحدة ينسكب كلُّ هذا ، إذ اختُزلت في جمل ومقاطع جاءت على شكلِ ومضات ؛ عنقود عنب واحد أنبأنا عن كرم برمته!

باب واحد أخبرنا ما وراء الأبواب في مكان ما ، أو في مدينة ما ..

هذا ما جعل قصيدة " يا طارقاً بابي" ديواناً بذاته.

قصيدة مؤثرة ، فيها رؤية ، فيها حدث، والشاعر يحاول تعميقه " تبئيره" من خلال تحفيز الرؤية ليكون مكمناً للتفاعل وتفجير المداليل في جسدها، وهذا ما جعل معمارية النص باذخة ، رامزة على الرغم من بساطة المفردات.

قارئ " يا طارقاً بابي" يجعلنا على الفور نستحضر قصيدة الشاعر الراحل عبد الرزاق عبد الواحد " لا تطرق الباب" وبعد المقارنة نجد ثمة تقاطع كبير بينهما ، فثمة باب مغلق ، وصوت من وراء الباب ، ومكان لا يخلو من وحدة وغربة وأحباب مغادرين ، وأسئلة لا تحصى..

عبد الرزاق يطلب ألا يطرق الباب :" لا تطرق الباب ، لا أحد موجود.. بينما نصير النهر يتساءل :" ياطارقاً بابي!

هل جئتني يوماً بأخبار؟

الشاعران يلتقيان مع صمت الدار ، والوحدة والبرد والاغتراب والفراق بعدما عملت الحرب بالبيوت التي أغلقتْ أبوابها، وسكتت مع مصائر ومشاهد لا تمحى.

سألتُ الشاعرَ نصير عن أسبقية فكرة القصيدة ، إذ هو والشاعر عبد الرزاق صديقان ومن جغرافية واحدة، فقال : كتبت القصيدة وقرأها وأبدى اعجابه بها ، وبعد عقدين كتب قصيدته من وجهة إبداعه .

" ياطارقاً بابي" قصيدة ذات مشهد واحد، غني بمواضيعه المتعدّدة ، مشهد ينضح بُعداً دلالياً تعبيرياً، فيه من عذابات الرّوح ما يجعل شريط الحياة يكرُّ أمام عينيك، فتتساوق صور المعاناة التي تنتجها الحرب من وحدةٍ وفقدٍ وبردٍ ، وتتقاطع وفق سياق هذا الحدث المؤلم.

قصيدة منجزة بشكلٍ رائع ودقيق وزاخم ، مزدحمة بمخيلة خصبة حيث استطاع الشاعر " النهر" أن يخلق من بنية هذا النص حالة تفضي إلى فضاءات متخيلة ، ماتعة ، على الرّغم من تسربلها بالألم والغُصص، فهي تقدّم الواقع مرسوماً بأجنحة ، تفتح لك أبواباً من الصور المتخيلة التي تطمحُ بكلِّ ما أوتيتْ من رغبة في أن تنقل شعوراً ،أو تجربة، أو رؤيا بشكلِ فتحٍ، أو خلقٍ، لتترك فرصة للمتلقي أن يمضي في تأويله. وهذا إن دلَّ على شيء، فإنما يدلُّ على الروح المبدعة للشاعر الذي استطاع بجمالية عالية أن يقدّم نصّاً عالياً يطلُّ منه على باقي القصائد التي في الديوان.

ألهذا جاءت قصيدة " ياطارقاً بابي" في أول الديوان؟

ألهذا حملت صفة عنوان/ عتبة، لينبلج الباب عن كلِّ ما أرادت أن تقوله القصائد ؟

بلى....

هذا ما تفعله القصيدة الناضجة ، الساطعة ، الدافئة على الرّغم من البرد الذي ذكره الشاعر معبّراً عن الوحدة وخلفيات حرب انتهت بفقدان الكثير من مقومات الحياة. تبدو دافئة لأنها تتغلغل إلى داخلك ، وهذا لأنَّ الشاعر نقل إليك مشاعره بصدق كبير ، إلى جانب ذلك استطاع أن يفجر ما فيه من استفاقات وأحاسيس مرهفة أضنته زماناً وهو وراء الباب.

بداية الدراسة قلتُ : قف ملء قبضتك ولهفتك أمام هذه القصيدة ، لهذا أؤكد على أن تقبض داخل النصِّ على رؤى الشاعر حول حياة يعيشها ، حياة انفضت من حوله وجعلته وحيداً وبرداناً ، بعدما كانت عامرة بالأحبة والمحبين ، حيث يتسم النصُّ بالرؤية الثاقبة للواقع ، الواقع الذي أجهز عليه الزمن والحكام والظروف ، فبات حزيناً ، كئيباً ، الواقع الذي خلف قهراً ومواتاً حيث استطاع الشاعر التقاط هذا الوجع بأصابع مرتجفة ، وما هذا الوجع إلاّ أبعاد للقصيدة اللائبة الفاقدة ، المفتقدة ، والذات الباحثة عن حياة ؛ أناس وأحبة ولقاء ودفء.

في المقطع الثاني يشيرُ الشاعر إلى وحدته وجهاً لوجه أمام الأشواق التي تنتابه والنسيان الذي فيه ، لقد نسوه تماماً ولم ينس أحداً ، لهذا تعاظمت وحدته ، لا شيء سوى ورق يشاطره اليباس ، السهر ، ورق يتمدد أمامه ، تلوكه الأشواك ، وما هذه المفردة الدالة على الألم والوخز إلاَّ إعلانٌ عن قمة المأساة .

اهتم الشاعر بعنصري الزمان والمكان ، فالوقت شتاء ، سواء كان شتاء رمزياً أم حقيقياً ، و"الثلج في الشباك" وثمة بيت فقد أناسه. فحين أراد الشاعر أن يعالج فكرة الوحدة والفقد في هذه القصيدة لم يطرحها فحسب عبر مفردات تنمُّ عنها، بل استطاع أن يقيّض لها عناصر الحياة من بيئة وزمان ومكان ؛ الموقد الخابي، والليل الكابي، الريح في الجدران، والورق والأشواك...

امتازتْ لغة القصيدة بعلوها ، على الرّغم من وضوحها ، بيد أنها رافلة بإيحائها وخصوبتها ، بشاعريتها ، حيث استمدتْ طاقتها الإيحائية من هذا العلو الذي هي فيه ، لقد تجاوزت الواقع

ومفرداته ، لتقدّم استباقاً موحياً من خلال كلمات زخر بها ، قدّم العبارة بأكثر من معنى ، فساحت بأكثر من مسافاتها، وأشارت بأكثر مما أرادت أن تقول من خلال الصور الشعرية التي تألقت بإطارها الدلالي المكثف ، وشعريتها الباذخة ، الرافلة بالإدراك والشعور العميق.

فالشاعر لم يأت على ذكر الحرب بحرف ، وإنما يستطيع المتلقي أن يفسر لم خلتِ الدار من أناسها؟ فالشاعر قد عاد إليها، عاد إلى مكان لم يجد فيه أحداً ، بعدما أجبر على الرّحيل ، ربما بحثاً عن خلاص وربما قسراً؛ عاد ورأى استمرار المشهد وقد أغلق الباب خلفه ، فالحال لا يبشر بانفراج ولا حلحلة للمشهد السياسي في العراق ، فالبرد باق، و " الثلج في الشباك

والرّيح في الجدران ..

وأنت

في الباب..."

والشاعر ليس بمقدوره أن يفتح ، ربما خوفاً وتوجساً من المجهول !

القصيدة بمقاطعها الخمسة ، تدفعك إلى قراءتها جمالياً ، مقطعاً إثر آخر ، فتلمس الطاقة الإبداعية التي تنبلج منها ، بكلِّ بساطة تهيئ لك أسباب التأويل وطرح الأسئلة، والبحث عن إجابات:

" هل جئتني يوماً بأخبار؟

عن أيما ليل وسمار؟

أم عن حبيب لست أدري أين

ضيعته في ملتقى الريحين

حبي ، وأسفاري .."

بل وتدعك تبني حوارك مع كلِّ ما يخصُّ هذه القصيدة من عناصر تشكيلها، لتتذوق طعم الرؤيا وتقبضَ على سرِّ المشهد.